الاحتراق الأخير
مساء عطر تتوضأ به الملائكة عند كل صلاة،
روح، يا رفيقة الوجع!
آه وتتلوها ألف آه!
سهرت ليلة أمس وأنا أقرأ رسالتك التي بعثتها صباحا، أتشرق الشمس على قلب من وجع ياروح؟ أيتنفس البعيد هواءا كالذي تتنفسيه، أينعم با ارواء عطشه، بينما تلفحك حرارة الغياب؟ أيتابع حياته وكأنك لم تكوني جزءا منها؟ أم أنه يحيك من الشوق لك معطفا يقيك برد الرحيل؟ أخشى أن أظلمه؟ فالحكاية يا رفيقة ينقصها مشاعر البعيد، موقفه من كل هذا؟ أيعقل أن يكون بالخبث الذي يجعله يزرع حبه في قلبك الطاهر، وبعدها يتركك تحصدين الخواء؟ أيكون مجردا من المشاعر حتى ينثر سرابا بصحرائك القاحلة، ليوهمك أنها جنة الخلد، أم أنها كانت فعلا كذلك واغواك الشيطان فقضمت من تفاحة الخطيئة؟؟
إنها المعادلة الصعبة، كيف تطلبين أن أحاكمك، وطرف في القضية غائب؟
لا يا رفيقة لست إلا متفرجة تجلس في الصف الأمامي تشاهد أحداث مسرحية أبطالها لا يعلمون نهاية أدوارهم، أو متى.
مر أسبوعي باردا رغم الضجيج الذي صاحب أحداثه، استطعت أن أجمع عشر نساء الآن من بينهن الشابة التي حدثتك عنها، أصبحت الآن تتردد على المدرسة وتتابع دراستها بشكل منتظم، تحدثت هاتفيا مع زميلة لي كنت أعرفها أيام الثانوي، تخصصت في الشريعة الإسلامية وقد وافقت أن تتطوع في نهاية كل أسبوع بحصتين تدرس فيها أصول الدين، وبعضا من القضايا الدينية، التي تختلط مفاهيمها على النساء، كالإرث، والزواج، والوصاية، والمعاشرة الزوجية، ومايترتب عنها من حمل، وحيض ونفاس، وحقوقها وواجباتها نحو زوجها وأبناءها، وقد ساعد هذا في تنوير عقولهن قليلا..
لا تزال الطريق وعرة، لكنني أحدد هدفي، أحاول أن تكون لنا جمعية نسائية خاصة
تحوي، مدرسين، ومحاميين، ودكاترة، وقد تقولين أني لا أتوانى لحظة واحدة في دفع أي باب قد يساعدني، ولا أتوقف عند أي حجر قد يعيقني..
خالد..وما أدراك ما خالد وعودته المتعبة..
كنت أجلس قبل يومين عند النهر أتنفس الهواء، وأزفر الحزن من صدري المعتم، ويداي تعبث بترابه الأحمر المبلل بضفافه، تارة أكتب اسمي وتارة أكتب اسمه وأخرى أكتب اسمك واسم البعيد الذي بالمناسبة لا أعرف له اسما سوى هذا الأخير..
اقترب مني لم أشعر به لكن عطره دائما ما يفضحه، تجمدت الدماء في عروقي، لكني حاولت بجهد يفوق جهدي أن أتابع عبثي لعله يستحي على دمه ويغادر
-جميلة، خالد، أعرفهما جيدا. روح، البعيد، ماذا تعنين بهما؟؟
ألقيت بنصف نظرة غاضبة إليه، ثم أجبت:
-إنهما حكاية صدق وخيانة..ككل الحكايات التي باتت تشعرنا بالتخمة لكثرة تكرارها..
ركع أمامي وهو يقول با ابتسامة وكأنه يثبت لي أن كلامي القاسي، لم يعد يؤرق جفنه:
-تتشابه الحكايات وتتشابه النهايات لكن المشاعر تختلف، ولكل حكاية جماليتها حتى لو قتلتها الخيانة..المشاعر الجميلة لا تموت يا جميلة..-وغمز بعينيه-
تبا له تبا له تبا له بعدد ما أكن له من حب وغيظ في قلبي، بعدد توجعاتي ودموعي وسهري وسقمي، تبا له..
وكأني خالية من المشاكل حتى يعترض طريقي بكل ما يحمله ماضيه من ذكريات..
خطفني من موجة الغضب التي دفعتني، ثم نقلني إلى موضوع آخر وهو يسألني:
-ماذا تنوين القيام به ؟
بدت على ملامحي علامات الاستفهام، فأسهب في الشرح قائلا:
-أقصد مشروع التدريس الذي تبنيته مؤخرا، ماذا تنوين؟ هل ستتخلين عن حلمك؟ والسفر إلى كندا من أجل عالم لا تعرفين إلى أين سيأخذك والأهم من هذا لم يعد عليك بالنفع؟
رحماك يا رب
تنفست بعمق وأنا أزفر من قلب صدري غضبا إن أطلقته سيحرق اليابس والأخضر، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم قلت بهدوء يغلفه حنق كبير:
-خالد..
بدد كل الغضب وكأن الله أنزل غيثه على نار كانت تأكل من خير الطبيعة،وهو يقاطعني قائلا، بحب وصدق،-مجرد إحساس مني يا روح أنه كان صادقا، عينيه كانت تقول ثقي بي هذه المرة-:
-كحبة التمر تلقى بفم صائم هو اسمي حينما تنطقه شفاهك، يشعرني بالرضى والقناعة.
حاولت ألا أنجرف بمشاعري، نحو التيار فأحكمت خماري جيدا على شعري، وأنا أتابع:
-دائما هناك أكثر من خيار..
-لكن علينا أن نختار الأفضل إلينا..
-لا علينا أن نختار الأفضل لمحيطنا، لو كان كل شخص يفكر بحق مجتمعه عليه، لما كان هذا وضعنا..
-إن تابعت الدراسة في كندا، وعدت دكتورة كما كنت تحلمين فستكونين قد ضربت عصفورين بحجر واحد، حققت ذاتك، وساهمت في تنمية مجتمعك..
-حجر واحد لا يصيب عصفورين، إما أن يصيب الأول ويهرب الثاني، أو قد لا يصيبه ويهربان معا..
-جميلة كفاك عنادا، لن تغيري شيئا من قرية ظلت على تقاليدها دهرا،
-لقد غير نبينا من عقول كانت كالصخر، فجعلها تلين بالمثابرة والعزيمة والإصرار..
-وأنت لست نبيا يا جميلة..فقد ولى زمن المعجزات..
-لست نبيا وماادعيت ذلك حاشا لله أن أكون، لكني صاحبة علم وأصحاب العلم هم خلفاء
الله في أرضه، أسعى بعلمي وأحقق المعجزة..
نفض يديه من التراب العالق بهما، ثم تمطى وباابتسامة نهض وهو يقول بمرح:
-تأكدي إن كانت هذه رغبتك سأساندك يا جميلة وسأكون معك،
ابتسمت في وجهه فتابع يقول:
-لم لا ننزل إلى المدينة بعد الظهيرة، جميلة تحتاج لأن تخرج قليلا؟
نهضت بدوري وأنا أنفض التراب العالق بعباءتي، ثم قلت بهدوء:
-الحياة هنا مختلفة عن المدينة، وعن أوربا حيث كنت تعيش، فمن غير اللائق خروجنا معا
لا أريد أن يفهمني أحد بطريقة ليست صحيحة..و أشرت له نحو الطريق وسرنا مع بعض
وكأني أناقض نفسي، مشينا وكانت جميلة تلعب وتمرح بجانبنا، وشعرها الأشقر يشاكس نسيم الهواء الهادئ، بدونا كعائلة، يا لغبائي ويا لغبائك، ويالغباء كل أنثى تشبهنا، كل امرأة تحمل داخلها حبا دفينا،ترفض أن تتخلص من جثته، التي باتت رائحتها النتنة تزكم الأنوف..
-جميلة تحتاج لأم، تحنو عليها، وأنا أحتاج لحب حقيقي يشعرني أني حي..
لا تتسائلي عن دقات قلبي كيف كانت وقتها، ولا عن اضراب معدتي التي أشعرتني بالغثيان، لم اعرف بم أرد، أو بمعني أدق لم أجد صوتي..فتابع:
-أنت تعلمين أني لا زلت أحبك، وأني دفعت ثمن خطئي وأنه نستطيع البدء من جديد
ابتسمت..
هل معنى هذا أني سامحته؟ لست أدري لكني سأترك الأيام لتجيبني.
حينما وصلنا إلى البيت وجدنا بعض الضيوف في انتظارنا، لقد كانت إحدى الجمعيات، التي عرضت علينا المساعدة، وقد قرر خالد المساهمة أيضا بمبلغ كبير عقدت حاجبي وأنا أسمع الرقم الذي نطق به، لكنه أمسك يدي وهو يقول في حب كبير:
-سأقف بجانبك وسنكون معا دائما..
هل تعلمين يا رفيقة لو كنت أملك قطعة صغيرة من موهبتك، في حبك القصة، ومفرداتك اللغوية، لأزعجت العالم بي، ولكتبت وصنعت اسما لي، ولأخبرتهم عن الموت البطيء، الذي نرثه من حب مسرطن، يكاد يقتل صاحبه ألف مرة، وهو حي,,
لم تشعري بالحزن العميق على جدتك، إلا حينما خضت أول شجار على ما أعتقد أنت والبعيد، لا زلت أتذكر حينما قصصت شعرك كعقاب لك على حب موسوم بالخطيئة، ولازلت أتذكر وقع ذلك الخبر علي، شهقت يومها أيعقل أن نصل إلى هذا الحد من الحب؟؟
فقط لأن شعرك كان يداعب وجهك كلما أردت النوم، فتتذكرين غزله المسائي وجنونه به، فقصصته كله، كما يفعل الرجال، يا ربي كيف استطعت ذلك؟؟
سؤال استنكاري لم أكن بحاجة لجواب، لكنه كان كالصرخة بالنسبة لي، أستند بها حتى لا أقع في حفرة الجنون العميقة، لازلت أتذكر وجهك الشاحب، ونحولك المفاجئ، وشحوب ابتسامتك، حينما أرسلت لي صورة لك بعدما أصريت على ذلك، فقد كنت أريد أن أعرف إلى أي مدى وصل بك هذا الحب، فوجدتك على حافة الجنون، يا رفيقة تلك الأيام مضت وها أنت تكررينها الآن،وكأن ما بين الألم والألم ألم يسبح في عمق عينيك،
عانيت كثيرا بسبب هذا الحب، كدت تفقدين عملك أتذكرين، حينما انشغلت بالحديث معه لساعات متأخرة كل ليلة حتى لم تعودي تنعمين بالراحة، وقد استغل رئيس العمل بكر ذلك، فكنت توقعين على شحنات دون أن تتأكدي من مقياس الحديد، وحينما اكتشف المدير ذلك اتهمك بالتزوير، هل تذكرين دموعك وقتها والأزمة التي وضعت نفسك فيها، وتنحيتك من منصبك بل وتحويلك للتحقيق، صرفت كل مدخراتك، وبما أني الصديقة الوحيدة التي تستطيعين اخبارها عن أزماتك دون حرج، سمحت لنفسي بمساعدتك رغم إصرارك على أن الوضع بخير،بعت ذهبك وتخليت عن كل الكماليات التي كنت تنعمين بها، كمراكز التجميل، والسفر، وتناول الأطعمة في المطاعم الفاخرة، والملابس الراقية، بل حتى أنك لم تعودي تصففين شعرك،من أجل أن تتحملي ظروف العيش في تلك الفترة التي كنت فيها عاطلة، لولا أن كرم الله قد نزل وعرف المدير أنها مؤامرة دنيئة من شخص حقود..
ورغم كل العروض التي تلقيتها والمغرية رفضت، وأصريت ألا تشتغلي حتى تظهر برائتك،
كل هذا أنت تعلمينه ولست بحاجة لأن اسرده عليك، لكني أحببت أن أخبرك أن الحب ليس كل شيء..
النوم يداعبني لذلك سأتمنى لك ليلة سعيدة خالية من شبح البعيد، وصباحا مشرقا بنور السماء التي لم تجلب معها وجهه الشامي,,
صديقتك دائما
جميلة