المنتدى :
المنتدى الاسلامي
يولد المرء إذا مات ..!
يولد المرء إذا مات ..!
قال الراوي :
اتصل بي بعد صلاة العصر بقليل ، وأخبرني أنه سيمر عليّ بعد نصف ساعة ، وعلى تمام الموعد جاء ، وخرج بي معه في سيارته ، ولا أدري إلى أين كانت غايته ، فقد رضيت أن أكون معه حيث سيكون ، حيث كان يطيب لي أن أجلس إليه ، لأني أتعلم في كل مرة شيئا جديدا معه ، غير أني فوجئت به ينعطف إلى سور المقبرة دون أن يتكلم، ولما قربنا من البوابة سمعته يهمهم بالدعاء المأثور :
""السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية .""
ولما ترجلنا من السيارة ، جعل صاحبي يخترق تلك القبور ، ويمر بتلك الشواهد المنصوبة وقد كتب على بعضها تعريف بنزلائها ! وتاريخ نزولهم فيها ، وأعمارهم ، وربما كتب بعضهم السبب الذي جاء به إلى هنا !!
بينما كتب على بعضها آيات من الذكر الحكيم ..
ولفت نظري على أحدها أبيات من الشعر استوقفتني ، وجعلت أتأملها وأعيد قراءتها ، كأنما أردت أن أحفظها :
تأهب للذي لا بـد منـه *** فأنّ الموتَ ميقاتُ العبادِ
أترضى أن تكونَ رفيق قومٍ *** لهم زادٌ وأنت بغير زادِ
ثم جعلت أقلب نظري في مدينة الأموات هذه ، مستغرقاً في هؤلاء الذين كانوا يملأون حياتهم بالأماني ، وأين صاروا ، وأين ذهبت أحلامهم ، وما أحلى أمانيهم اليوم ، ونحو هذه المعاني التي شعرت أنها فعلت فعلها في نفسي ، حتى كادت دمعة تتولد في عيني ، وكنت لحظتها قد نسيت صاحبي تماماً ، بل نسيت الدنيا وأهلها ..!
وما شعرت إلا بصاحبي يقف بقربي ، ويقول : يولد الإنسان ليموت !!!
ثم استدرك وأخذ يرفع صوته بالاستغفار ..!
فقلت له : ماذا حدث ؟ وعلام تستغفر على هذا النحو ..؟
قال : أخطأت العبارة حين قلت : يولد الإنسان ليموت .. !
فبادرت اسأله : وما الخطأ في هذا ، نعم يولد الإنسان ليموت !؟
قال وقد تنهد بعمق : بل الصواب ، يولد الإنسان إذا مات !!
ونظرت إليه نظرة من فوجئ بشيء لم يكن يتوقعه ، لقد هزتني الكلمة هزة عنيفة ، شعرت كمن صب على وجهه دلو ماء مثلج ، ونفضت رأسي، وجعلت أردد في سري : يولد الإنسان إذا مات ، يولد الإنسان إذا مات..!!
ثم جعلت أعيد تقليب نظري في هذه القبور، وأنا أتخيل هؤلاء الذين تحت أطباق الثرى هم الأحياء حقا ، ونحن الذين نهتز فوقها أموات ..وجعلت أقول في ذهول :
يا إلهي .. يا لها من كلمة ارتجف لها كياني كله ..
وفجأة أشار صاحبي إلى قبر قريب ، قد وضع أهله عليه باقة كبيرة من الزهور ، يبدو أنهم كانوا في زيارة لصاحبهم هذا اليوم ..!
قال صاحبي : تحت باقة الورود الجميلة هذه " "يسكن " إنسان ، "ولكن ماذا عن حال هذا الإنسان هذه الساعة ، أهو منعم في سكناه ، أم يتقلب في عذاب لا يطاق ، عذاب مهول يجعل الرضيع أشيب الرأس .. !؟
وسكت صاحبي وتنهد وأعاد مرارا : لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ..
ثم عاد يقول :
سواء هذه أم تلك .. هل تراه ينتفع بهذه الباقة من الورود الجميلة التي أتحفه بها أهله ..!؟ أم أنه كان في حاجة إلى شيء آخر غير هذه الزهور .. ؟!
قلت في تلقائية : مثل ماذا ؟
قال : مثل استغفار كثير .. ودعاء طويل .. وصدقة ولو قليلة ..
وصمت صاحبي طويلا وخيل إلي أن كل شيء ، حتى هؤلاء الأموات أخذوا يصغون إلى هذا الحوار الشجي مع هذا الصاحب المتميز ..
وعاد صاحبي يقول :
لقد أصيبت أرواحنا بالجفاف ، وقلوبنا بالقساوة ، ونفوسنا بالكدر ، وعقولنا بالتلوث ، أحسب يا صديقي أن كثيرين منا أتلفهم الإعلام والمسلسلات والأفلام والبرامج التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، والأنكى من هذا كله : أن تجد جمهرة غير قليلة من أبنائنا وبناتنا يحاكون ويقلدون ما يرون بلا وعي ، وربما بحسن نية .. ولكن هل ستشفع لهم حسن النية هذه عند الله ، وهم يفرطون في حقوق الله مقابل تلك المحاكاة التافهة ..!!؟
يا صاحبي ! هذا زمان جفت فيه أرواحنا وتبلدت فيه عقولنا ، وتصحرت فيه قلوبنا ، فنحن نحتاج إلى أن نزور هذه القبور بين الحين والحين ، لعل نفحة ربانية تهب على قلوبنا ، فتحييها .. إن هؤلاء الذين " "يسكنون " "هذه المدينة لهم أعظم وعاظ العصر ، ووعظهم أقوى أثراً من مواعظ غيرهم ممن يتحركون فوق هذه الأرض ، وقد تجدهم في كل واد يهيمون ..!
ثم شد يدي وأجلسني إلى جانبه قرب قبر هناك ، وأخذ يحدثني باستفاضة عن نعيم القبر ، أو عذابه ، حديث شجي مثير ، بنبرة قوية متأثرة ولما آذنت الشمس بالمغيب نهضنا ننفض ثيابنا ، وعاد يقول من جديد :
والآن .. هل عرفت معنى كلامي .. يولد المرء إذا مات ..!
ولم أعلق ومضيت أمشي وراءه بين تلك القبور ، وكلمته يتردد صداها بقوة في قلبي ، ولما ركبنا السيارة بادرته فقلت :
فكيف يكون الإنسان حياً قبل أن يموت ؟
قال وقد رفع صوته كأنما يريد أن يُسمع أهل القبور ما يقول :
بالطاعة يا صاحبي .. على قدر ما تعيش مع الله تكون حيا حقا ، وعلى قدر ما تبتعد عن الله ، تكون قد قطعت صلتك بمدد الحياة ، ألم تقرأ قول الله تعالى :
{ أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس }
في هذه اللحظة ارتفع النداء لصلاة المغرب ، من مسجد قريب هناك ، فأدار محرك السيارة وهو يتمتم بالدعاء ، ثم انطلق بنا صوب المسجد ، وما إن وصلنا إلى الباب حتى التفت إلي وقال :
من هاهنا تتحصل الحياة الحقيقية ، من رحاب المسجد تتصل بالسماء ، من مدد السماء تتلقى ، وبمدد السماء تحيا ..!
يبقى أن تجمع قلبك وأنت في هذه الرحاب ، حتى لا تخرج منها كما دخلت إليها ، فإنك داخل على الله سبحانه ، فأحسن الأدب ، ليكرمك ويرفعك ويرضى عنك !
فإذا رضي عنك ، أحياك حياة طيبة ، وأغناك به عمن سواه ..
قال تعالى :
{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } .. ثم سمعته يقول :
اللهم إنا أمنا بك وصدقنا نبيك ، فأعنا على العمل الصالح الذي ترضاه ..
ودخل المسجد بقدمه اليمنى ، بينما عرجت إلى مكان الوضوء ..
.. من أجمل ماقرأت ..
|