الفــــــــارس الأسود
كان الباص يسير بطء على جسر ضيق يمر فوق نهر , نظرت ساندي فيليبس من النافذة قربها وقرأت كلمة أسكوتلندا على أشارة موجودة الى جانب الطريق.
منتديات ليلاس
وصلت ساندي الى هذا القسم من بريطانيا الذي لم تزره من قبل , شعور مثير أنتابها , أسكوتلندا بلاد جبلية مليئة بالمستنقات , فيها أودية صغيرة, أو قلاع وحصون قديمة أثرية , ومزارع صغيرة مسورة وحقول واسعة.
سار فوق هذه الطرقات , من قديم الزمان مئات من جنود الرومان أبتلعتها القفار الواسعة هنا, وضاعت في البراري وضاعت آثارها , لم تستغرب ساندي ضياع فرقة من الجنود هنا بعد أن جالت ببصرها من نافذة الباص في الحقول الواسعة التي كانت الطريق تخترقها , المطر ينهمر والضباب يغمر الحقول الخضراء الرمادية تامشبعة بالمطر , خلف الحقول تطل تلال بعيدة هي متعة للنظر , ربما ستبتلعها السهول الواسعة أذا حاولت رؤية ما خلفها في البعيد البعيد, أنحرف الباص الى الشمال , فرأت لوحة جانبية على الطريق كتب عليها( غرتنا غرين) تذكرت هذه القرية الصغيرة وما تحمله من أحلام رومنطقية , كان العديد من الشباب والشابات يقصدونها ليتزوجوا خطيفة.
هذه هي الرحلة الأولى لساندي الى أسكوتلندا , رحلة طويلة قطعتها من لندن الى كارليزل في سيارة عمومية كبيرة مخصصة للمسافات الطويلة , سريعة الحركة ولكنها مريحة , توقفت عدة مرات على الطريق , رحلتها عبر أسكوتلندا من مدينة غالوي كانت معتدلة السرعة والطريق معظمها مطبات.
لم تشعر ساندي بأي عناء , منذ الصباح وهي على الطريق تجلس مستقيمة , أكتافها مرتفعة وعيناها مفتوحتان , متيقظة ومتحمسة لكل ما يدور حولها في الداخل والخارج.
ساندي فتاة طويلة نحيلة , ساقاها طويلتان وهي ترتدي بنطلونا من الجينز , أزرق باهت اللون مع قميص قطني , فوق سترة مانعة للمطر, شعرها طويل منسدل , مفروق في الوسط يتدلى فوق كتفيها بلون الرمال الصفراء , تخرجت ساندي منذ شهرين من الجامعة , تحمل شهادة بكالوريوس في علم التاريخ , بعد أن أمضت ثلاث سنوات في الدراسة والتعمق توجتا بالنجاح , عملت منذ تخرجها في عدة وظائف مختلفة لتشغل نفسها بها في مدينتها , حيث تعيش في كنف والديها, كانت ترغب في جمع المال الضروري لمتابعة تحصيلها الجامعي لنيل شهادة أرفع من تخصصها.
تلقت رسالة من أبنة خالها مرتا من دون أنتظار , قرأتها بتمعن , كانت مرتا تتمنى عليها أن تقبل دعوتها لتمضية فصل الصيف عندها , مرتا أبنة خالها شابة متهورة , تحب الحياة واللهو , ترملت فجأة بعد موت زوجها كروفرد كالدويل بحادث سيارة مفجع , في سباق للسيارات , وترك لها ولدا في عامه الثاني , تقول مارتا في رسالتها أنها تكتب اليها من بيت جدود زوجها في أسكوتلندا.
فتحت ساندي حقيبة يدها الجلدية وأخرجت منها الرسالة وأعادت قراءتها:
" عزيزتي ساندي,
كما ترين من العنوان الموجود على الرسالة , أنني وصلت سالمة الى ( دانكريغان) , كانت صدمة لي عند وصولي أذ أكتشفت أن والد زوجي كافن قد توفي منذ سنتين , ولم نكن أنا وزوجي كروفورد نعرف هذه الحقيقة , من المؤكد أن أتصالات ومحاولات عديدة لأعلام زوجي بالخبر ,في حينه , باءت بالفشل , كانت جميع هذه الرسائل تعاد لصاحبها لأن المرسل اليه غير موجود ولا عنوان جديد لديه , كان هذا ما دفعناه أنا وزوجي ثمنا لتكرار أنتقالنا وعدم أستقرارنا في مكان ما.
يملك المزرعة الآن ليماند الشقيق التوأم لزوجي , هي قلعة قديمة وقربها منزل جديد نسكنه , يسمونه كذلك مع أنه ليس جديدا لأنه بني منذ عشرين سنة , ستحبين العيش هنا في هذا المكان التاريخي الذي يرتبط بالماضي.
دعاني ليماند لأعيش هنا مع أبني ديرميد وقد قبلت دعوته , وصلت منذ ستة أسابيع , وقررت البقاء في دانكريغان من أجل أبني كير يتربى في منزل جدوده ,هنا تربى والده كروفورد وترعرع وسأتيح لأبني فرصة التمتع بالأمتيازات ذاتها التي كانت لوالده من قبله , ولذلك سأبقى هنا .
عزيزتي ساندي , أحتاج لمساندتك المعنوية , مساندة لا تأتي ألا من فرد من أفراد العائلة الواحدة, وأنت أقرب ألي من شقيقتي في هذه الحياة, أقترح عليك أذا لم تكوني مرتبطة بعمل ما هذا الصيف , أن تحضري الى هنا لتساعديني في رعاية أبني ديرميد مقابل سكنك ومعيشتك , خلال عطلة الصيف, أنه شيطان صغير وأنا أجد صعوبة في ملاحقته لوحدي , أتذكر دائما رعايتك له يوم نزلت عندكم في أنكلترا, عند عمتي جين وعمي توم , والديك, بعد وفاة زوجي , أنا متأكدة أن وجودك معنا في دانكريغان سيساعدني وأبني على الأستقرار.
يوم وصلت ومعي أبني , أستقبلني كل من في المنزل بحرارة وود , تعرفت الى بعض الأصدقاء الجدد, أنني أجد ليماند متحفظا ومنطويا وغريب الأطوار , أرجوك يا ساندي أن تحضري لأن وجودك يساعدني كثيرا ولأنك من لحمي ودمي ويمكنني أن أثق بك في رعاية أبني, أذا وافقت على الحضور أعلميني متى وكيف وأين ستصلين وسأرسل من يستقبلك".
طوت ساندي الرسالة وأعادتها الى حقيبتها , يوم أستلمت الرسالة وأطلعت والدتها عليها كان ردها الفوري:
" عليك بالذهاب, أن أبنة خالك مرتا تعرف ما عليها من واجب لكنها, كما هو واضح , تجد صعوبة في تحقيق غايتها , صحيح أنها ستبقى هناك من أجل أبنها ,ولكنني أقرأ بين السطور أنها تخاف من شقيق زوجها , أذهبي يا ساندي وأبقي قربها وأمسكي بيدها وشجعيها , مرتا تحب من يمسك بيدها ويحميها ويشعرها بالحب والأهتمام"..
وعلى الفور بدأت ساندي أستعدادها للسفر وأكملت المعاملات الضرورية له وأستعملت الباص لأنه أرخص وسائل النقل الى دانكريفان, وها هي الآن تدخل بلدة هنان.
توقف الباص في الشارع العريض الذي بللته الأمطار , حركة السير عظيمة, بدأ اللغط باللهجة الأسكوتلندية في حركة نزول وصعود الركاب , جلست أمرأة بدينة قرب ساندي , أعتذرت لها لأنها ستأخذ قسما كبيرا من المقعد المزدوج , كانت تحمل باقة ورد جميلة في يدها , أبدت ساندي أعجابها بالورود فأخبرتها المرأة أنها في طريقها الى المستشفى في دمفريز لتزور أبنتها التي وضعت مولودها الأول , كانت المرأة سعيدة جدا بحفيدها وقالت مخاطبة ساندي:
" عرفت من لهجتك أنك لست من هنا".
" كلا, أنا غريبة , قدمت من هامشير في جنوب أنكلترا في طريقي الى حصن دانكريفان".
" أوه, لكن لماذا تقصدين هذا الحصن؟".
" لأبقى في ضيافة أبنة خالي التي تسكن هناك, هل تعرفين المكان؟".
" آه , نعم , لقد تربيت في مكان قريب من الحصن وما يزال شقيقي يملك مزرعة بالقرب منه".
" أذن أنت تعرفين أصحاب الحصن والعائلة التي تملكه؟".
" أل كالدويل السود تعنين؟". تنحنحت المرأة وأكملت:
"ليس هناك ما لا أعرفه عنهم ".
" أخبريني لماذا لقبوهم بالسود؟".
" هو يا صغيرتي لقبهم لأن لون بشرتهم يميل الى السواد فشعرهم أسود فاحم وكذلك عيونهم سوداء , وربما أيضا لقبوهم بالسود نسبة لأعمالهم السوداء في الماضي".
" ما هي نوع أعمالهم السوداء؟".
" أعمال بشعة كالسرقة , النهب والتهريب وما شابه".
" ماذا كانوا يسرقون؟".
" كانوا يسرقون الماشية من الغير, كالخراف والبقر وغيرها , كان العديد من الناس يقومون بمثل تلك الأعمال ولكنهم يبرزونهم ويتفوقون عليهم , ومع الأيام أصبحوا من الأثرياء وبالتالي أحترمهم الناس لمالهم, سمعت أن المايجور كاقن كالدويل , الذي توفي منذ سنتين , مات مفلسا , عمل في الجيش , مثل جدوده , وأستحق العديد من الميداليات لبطولات أحرزها في الجيش , كان السيد كافن منطويا على نفسه ومنعزلا عن الناس بعد وفاة زوجته وحزنه عليها , كانت زوجته وقحة ومتهورة وقد تركت له ولدين توأمين ليعتني بهما ويربيهما , شيطانين , شريسين , وغدين ولا يستغرب ذلك , فسوء تصرفهما أكبر شاهد على أنهما ينتميان الى هذه العائلة السوداء , يعيش كبير التوأمين في الحصن الآن , ترك منزل والده منذ أثنتي عشرة سنة بعد أن تشاجر مع والده لسوء تصرفه مما حط من قدر العائلة , ثم عاد ليرث الأملاك , هو صارم وقاس جدا".
تشعب الحديث بين ساندي وجارتها البدينة وشغل مواضيع أخرى , وصل الباص الى ضاحية بلدة أخرى , نزلت لمرأة الثرثارة وتابع الباص سيره ببطء , كانت ساندي تراقب المنازل وقرميدها الأحمر , حجارتها بللها المطر , مرت أمامها ساعة قديمة في برج قديم في الشارع الرئيسي , ثم وصل الباص الى ساحة كبيرة قرب النهر حيث نهاية الرحلة.
نزلت ساندي من الباص الى الشارع المبتل , لفحها الهواء البارد على وجنتيها كما داعب خصلات شعرها الأصفر المنسدل على كتفيها , كان صوت أنسياب مياه النهر فوق السد يصل لسمعها , تساءلت هل حضرت أبنة خالها لأستقبالها؟
" آنسة فيليبس؟".
سمعت صوتا خلفها يناديها , كان صوت رجل بارد , غير مميز , كأن الذي ناداها لا يهمه أن كانت هي الآنسة فيليبس أم غيرها , ألتفتت ساندي ناحية الرجل الذي ناداها , كان يقف خلفها مباشرة , أطول منها بقليل , عريض المنكبين , ويلبس سترة صفراء واقية من المطر , شعره الأسود القصير المبلل ينسدل فوق جبهته بدون ترتيب , ياقته مرفوعة الى أعلى أتقاء للمطر , وجهه الصارم بدون أي أبتسام , تجلت قساوته في شدة سواد عينيه.
" نعم أنا الآنسة فيليبس , ومن أنت؟".
أجابها بأقتضاب:
" كالدويل من دانكريغان".
ألى أي طبقة تنتمي هذه العائلة في علم الأنساب؟ تساءلت ساندي وهي تنظر الى الرجل الواقف أمامها , لا بد أنه ليماند المنطوي , المنعزل , الغريب الأطوار , هو بعينه وريث حصن كالويل وممتلكاته.
سألها بجفاف وهو يشير الى حقيبة صغيرة بقربها:
" هل هذا كل ما تحملينه معك من متاع؟".
أجابته وهي تحاول الأبتسام , رافضةأن يسخر منها ويحط من قدرها :
" نعم , أنا أسافر خفيفة".
رمقها بنظرة آمرة وقال:
" الشباب عادة يسافرون هكذا ". وفي أجابته حزم أكيد على أن الحديث قد أنتهى.
حمل لها حقيبتها على كتفه وأدار ظهره ومشى أمامها قائلا:
" السيارة واقفة في الجهة الأخرى من هنا".
كان على ساندي أن تتبعه عبر الشارع العريض المبلل الى سيارة قديمة بالية , وتأمل أن تجد أبنة خالها مرتا وأبنها بأنتظارها داخل السيارة , لترحب بوصولها , لكن السيارة كانت فارغة من البشر , فتح ليماند صندوق السيارة الخلفي , ووضع فيه الحقيبة فوق عدة متنافرة الأشكال مختلفة الأنواع ثم أقفل الصندوق.
" أدخلي! ", أمرها ثم مشى هو الى المقعد خلف مقود السيارة.
" هل أجلس في المقعد الخلفي أم الأمامي؟".
" كما يحلو لك! الأبواب كلها مفتوحة ".أجابها بدون أي أكتراث فشعرت بأنها بدأت تكرهه وترفضه , لم تنتظر منه أكثر من لياقات أولية في معاملتها , كان عدم أكتراثه بها وقحا ومريرا ويصعب عليها أحتماله .
وجدت كيسا صغيرا أمام المقعد الخلفي على أرض السيارة , لذلك أختارت المقعد الأمامي , دخلت بعد أن أدار ليماند محرك السيارة , خلع سترته الواقية ورماها على المقعد خلفه , كان يرتدي طقما رماديا مخصصا للصيد مصنوعا من أجود الأقمشة , وكنزة سوداء لها قبة عالية.
أدار المحرك وحل الكابح وبسرعة قفزت السيارة عدة قفزات ومشت بعدها بصعوبة , مشت فوق الجسر الى جهة الشمال وتوقفت على المفترق تنتظر دورها بالمرور , نظرت ساندي الى أشارة جانبية على الطريق كتب عليها : غلاسكو الى اليمين, من ضمن لائحة بأسماء مدن أخرى , أضاء اللون الأخضر وتابعت السيارة تحركها الى الأمام.
كانت مسّاحات الزجاج الأمامي تزيل الأمطار وهي تزقزق لأنها تحتاج للتزييت , والمحرك يخرج أصواتا نشاذا , لم تكن ساندي تنتظر سيارة مهترئة كهذه , كانت أبنة خالها تخبرها أن عائلة زوجها كروفورد من الميسورين ويملكون أفخر الأثاث ويقتنون سيارات السبور والليموزين وغيرها من السيارات الفخمة.
بدأت رائحة تزكم الأنوف تنتشر داخل السيارة , نظرت ساندي حولها متفحصة , لفت نظرها الكيس الموضوع في أرض السيارة خلفها , أعادت التحديق اليه , رأت عجلا صغيرا يقبع في داخل الكيس ولم يظهر منه سوى رأسه , كانت عيناه مغلقتين , تمنت ساندي أن لا يكون ميتا , أستراحت ساندي بعد أن عرفت مصدر الرائحة الكريهة , نظرت عبر النافذة تتسلى , مرت السيارة بالمنازل القديمة من البناء الحجري الجيد يعلوها القرميد الأحمر وتلفها الشجيرات الوردية كأنها أكاليل الغار, وغيرها من المنازل التي بدأت تلمع الأنوار من داخلها لتبدد العتمة التي بداخلها باكرا مع المطر الشديد , تابعت السيارة سيرها وسط حقول شاسعة رمادية بعضها مزروع بشجر الحور القاسي ... أو الدردار.
أسترقت ساندي النظر اليه بمكر من طرف عينها , تذكرت جميع الصفات التي أسبغتها المرأة البدينة في الباص عليه ( رجل أسكوتلندي قاس وصلب) أعادت النظر , نعم هو كذلك , وجهه وجبهته العريضة وشموخ أنفه.... مع فمه الدقيق وفكه ينحرف في زاوية معينة كأنه تمثال حجري ... أنه يشبه تمثال الفارس النورماندي الموجود فوق قبر في بلدتها هامشير بداخل الكنيسة.
سافرت ساندي مع أحلام اليقظة عبر التاريخ وهي تنظر من النافذة الى البعيد , لا بد أن مؤسس عائلة كالدويل هو فارس نورماندي , تخيلته قادما من شمال أنكلترا ليساعد الملك داوود الأول في تثبيت دعائم ملكه في أسكوتلندا وبالمقابل أعطاه الملك الأملاك الواسعة مكافأة له على مساعداته.
فرحت ساندي بأسطورتها , ألتفتت الى ليماند الجالس بالقرب منها لتستفسر منه عن أصله وتعرف ألى أي مدى توصلت الى الحقيقة في تخيلاتها , لكنها أجبرت على السكوت , هو غير مبال بل متعال , كأنها لم تكن موجودة معه داخل السيارة.
نظرت من جديد عبر النافذة لتكمل نظريتها , كالدويل هو فارس أسود يقوم بالأعمال السوداء ولكنه شجاع, بطل من أبطال الحروب .
بدأت السيارة تصعد تلة وتجري سريعة في خط مستقيم , كانت كالسهم تخترق طريقها بين الأشجار السوداء , وبدت الطريق شديدة العتمة , الأضاءة الأمامية للسيارة ضرورية , أرتال السيارات قادمة من الجهة المعاكسة تلمع أضواؤها كذلك, تشجعت وقالت بدون مقدمات:
" كم من الوقت يلزمنا لنصل الى حصن دانكريغان؟".
" ساعة أخرى ", قطع الصمت أخيرا , لا بد من أن يجيب على سؤالها , هو رجل قليل الطلام , هذا واضح , تململت ساندي في مقعدها خفضت رأسها مسافة صغيرة وأسندته الى حافة المقعد الخلفية لترتاح قليلا.
" هل توجد مدينة بالقرب من الحصن؟".
" كيركتون".
" هل هي مدينة كبيرة؟".
" كلا , ربما خمسة آلاف نسمة أو أقل".
" هل يمكنني الذهاب من دمفريز الى كيركتون بالباص؟".
" يمكنك".
كأنها تخرج الماء في الصخر , كانت تستخرج كلماته بصعوبة , لم تيأس ساندي من جره الى الحديث , كيف يمكنها أن تبقى ساعة أخرى معه في هذه السيارة بدون أن تشاركه الكلام. هذا غير معقول , بدأت:
" كان يمكنك أن لا تحضر لأستقبالي الى دمفريز , كنت أستطيع الوصول بالباص الى كيركتون لوحدي".
ران الصمت من جديد, لم يعلق, عرفت أنه لم يتجاوب مع دعوتها أياه لقتح الحديث , قدمت سيارة من الجهة المعاكسة , ورشّت الزجاج أمامه بالوحل, المسّاحات الأمامية تعمل على أزالتها بصعوبة , شتم السائق الآخر , وقال:
" لم أتضايق أبدا من الحضور لأستقبالك". ثم أكمل ببرود " كنت في موعد عمل في ديمفريز , وقد طلبت اليّ مرتا أن أستقبلك في المحطة هذا المساء".
" شكرا, هذا لطف منك".
" أبدا, أنا لا أفعل الا ما يناسبني , لو أخذت الباص بنفسك الى كيركتون ستصلين في الحادية عشرة والنصف ليلا, وكان لا بد لي أو لجوني من أستقبالك في ذلك الوقت المتأخر , فأستقبالك في ديمفريز يناسبني أكثر".
صمت آخر, وصلت السيارة الى أعلى التلة ثم نزلت الى الجهة الثانية , طوت السيارة المزيد من الحقول والقرى الصغيرة وبعض التجمعات السكنية , أزداد المطر أنهمارا.
تأكدت ساندي الآن أن ليماند كالدويل لا يرحب بها في دانكريغان , ربما دعتها مارتا من دون أن تستأذنه أولا, فكرت بالأمر, وبدأت تتجهم وتعبس بعد أن أستعرضت صفات وتصرفات أبنة خالها , مرتا تتصرف دائما بتهور وسرعة وبدون ترو , بدأت تقول:
" أرجو أن يكون بقائي مع دانكريغان لنهاية الصيف ممكنا ".
ألتفت بسرعة ناحيتها ورمقها بنظرة تساؤل من طرف عينه , أعاد نظره من جديد الى الطريق أمامه , كانت الطريق لزجة , سريعة الأنزلاق.
" كم ستبقين ؟ " سألها " هل دعتك مرتا؟".
أذن صدق حدسها , كانت على صواب في تفكيرها , أرتبكت كثيرا, أحرجت, شعرت بالخزي , وبأن كرامتها قد هدرت.
" نعم , لقد دعتني ". ثم أكملت بصوت خفيض" ألم تخبرك؟".
" كلا, كل ما قالته لي هذا الصباح , لما علمت بأنني مسافر الى ديمفريز , أن لها قريبة ستصل بعد الظهر لتتفرج على الحصن , فهمت من كلامها أنك ستمكثين ليلة واحدة في طريقك الى مكان آخر".
جمدت ساندي من هول المفاجأة , لماذا لم تخبره مرتا بالحقيقة؟ نظرت الى وجهه الصارم وتكهنت السبب , أنها لم تجرؤ , ربما كانت مرتا تخاف أن لا يوافق ليماند على طلبها في أن تبقى أبنة عمتها عندها بقية الصيف, لذا لم تسأله , نظرت ساندي اليه خجلة وقالت شارحة:
" لقد كتبت لي مرتا تدعوني لمساعدتها في رعاية أبنها ديرميد".
سألها:
" هل هذا هو عملك؟ هل أنت مربية أطفال؟".
" كلا, أنه عمل مؤقت خلال أجازة الصيف".
رمقها بنظرة جانبية أخرى بالرغم من العتمة التي عمت السيارة من الداخل وقال بحدة:
" آمل أن لا تنتظري أن تدفع لك أجرا على عملك هذا".
" أوه, كلا, لقد كتبت مرتا أنني أساعدها مقابل سكني ومعيشتي!".
أحسّت ساندي بمذلة , مما جعلها ترى نفسها ضئيلة أمامه , ما أصعب أن يكون الأنسان محتاجا , أن ليماند يتصرف بكبرياء وعنجهية أمراء الأقطاع , جدوده , وهي أمامه تستجدي مساعدته , ونظرت اليه بترج وقالت:
" سيد كالدويل, أنا أشعر بخجل من تصرفات أبنة خالي غير اللائقة , كان عليها أن تستأذنك أولا".
أنت على حق , كان عليها أن تسألني أولا, مؤخرا أكتشفت أنها غير صادقة وتستعمل طرقا ملتوية , أنا لا أفهم لماذا تحتاج لمساعدة في رعاية وتربية أبنها , هي لا تعمل أي شيء سوى رعايته".
" معظم الأمهات يحتجن لبعض الوقت يتفرّغن فيه لأنفسهن وراحتهن , كذلك مرتا مثل بقية الأمهات تجد في الأمومة عائقا مضنيا يشغلها معظم أوقاتها".
وجدت ساندي نفسها تشرح له نظريات تتعلق بالأمومة لم تخطر لها ببال من قبل, هي نفسها لا تفكر أن تمر بهذه التجربة قبل سنوات عديدة أخرى.
" لماذا تقولين أغلب الأمهات؟ لماذا ترفض مرتا مسؤوليتها كأم على عكس الأمهات؟".
" لا أظنها ترفضها , ولكنها مسؤولية كبيرة عليها لوحدها وهي ما تزال صغيرة السن".
" عرفت أمهات أصغر منها بكثير".
" لا تنس أنها الوحيدة المسؤولة عنه بغياب والده".
" وهل هذا جديد تحت الشمس؟".
" كلا, أنني فقط أحاول أن أشرح لك شعورها ونفسيتها , فهي تحب الحياة...".
قاطعها:
" يعني أن تتمتع هي أولا ولا فرق بعد ذلك من يتألم من بعدها , كما أن ذلك يعني أن حياتها مع كروفورد كانت موفقة وعظيمة فهو الزوج الملائم لها لأنهما كانا متفقين على حب الحياة واللهو , ولكن ألم يكن موته كافيا ليبطىء من غليان حي الحياة في شرايينها ولو قليلا؟".
" وهل تنتظرها أن تلف نفسها بوشاح أسود بقية حياتها تندبه وتبكيه؟".
أجابته ساندي , وفكرت في نفسها , ربما يكون ليماند من المتزمتين الذين قرأت عنهم , هم فئة من البشر لا تهتم بمتع الحياة بل تدعو الى التمسك الصارم بالأخلاق الفاضلة.
وضحك ضحكة عالية ساخرة تهكمية , ولكن ساندي لم تتبين وجهه من الظلمة التي أطبقت على داخل السيارة بعد أن عم الظلام مع حلول الليل , وقال:
" لا , لا أنتظر منها ذلك أبدا , متى رأيت مرتا آخر مرة؟".
" بعد الحادث مباشرة يوم رجعت الى أنكلترا حزينة , أستغرقنا وقتا طويلا لأخراجها من عزلتها الى الحياة , والدتي ( عمتها) هي التي رعت مرتا طفلة صغيرة بعد موت والديها قتلا, تمنت عليها البقاء عندنا , ولكنها صممت على الحضور مع ابنها الى أسكوتلندا , كما وعدت زوجها كروفورد , فأذا حصل له حادث في طريق السباق أن تأخذ ديرميد الى جده ليراه , لم تكن تعرف أن جده قد توفي".
" وهذا أيضا ما عرفته منها " همهم " وأنا لم أكن أعلم أن أخي تزوج وعنده ولد قبل حضورها الى الحصن منذ عدة أسابيع , ألم يخطر ببالها أن تكتب أولا وتستأذن بالحضور الى دنكريغان؟".
أجفلت ساندي من أنتقاداته اللاذعة , المبطنة لمرتا , وعدم لياقتها في التعامل مع الآخرين , صمتت ساندي مفكرة وهي تعض على شفتها السفلى ثم سألته:
" ألم تعرف أنت عنها وعن أبنها؟ ألم تكن أنت تتصل بأخيك؟".
" حاولت عدة مرات خلال السنوات السابقة ولكنني فشلت , كانت رسائلي تعود اليّ وعليها جملة ( أنتقل الى سكن آخر غير معروف العنوان) , كتبت له حين توفي والدي, لم أستلم جوابه أو أي كلمة تعزية منه ".
" ألم يكن كروفورد على أتصال بوالده؟".
وضحك قبل أن يجيبها بالنفي ضحكة ساخرة مريرة , وقالت:
" ولماذا لا!".
" ألم تسمعي بالكبرياء يا آنسة فيليبس؟ أن عائلة كالدويل لديها الفيض من الكبرياء , كان والدي وشقيقي كروفورد لديهما تخمة منها , قام شقيقي كروفورد في الماضي , بعمل أغضب والدي , فطلب اليه والدي مغادرة المنزل وعدم العودة اليه , وهذا من نفّذه كروفورد بدون تردد , لم يحاول ترطيب الجو بالكتابة اليه , أو حتى أخباره بولادة حفيد له".
علّقت ساندي على قوله:
" آه , كم هو حقود , كأنه يعيش في ظلمات القرون الوسطى".
كانت ساندي تنتمي الى عائلة متلاحمة الروابط , كل أعضائها على أتصال دائم ببعضهم البعض , علاقتهم حميدة , لذلك وجدت تصرفات كالدويل وأولاده غير لائقة بل همجية ومخالفة لمبادىء المدنية الحضارية .
" أوافقك الرأي , لكن عائلة كالدويل عرفت بأعمالها السوداء وأتصفت بما يخجل , وأظن أن مرتا لو عرفت عنا هذه الحقائق لما لجأت الينا مع أبنها, لقد صعقت عندما أخبرتها أن والدي ترك لنا ديونا متراكمة ما زلت أعمل كي أسددها حتى الآن".
" أذا كان والدك لم يترك وصية , كيف ورثت لوحدك الحصن والمنزل؟".
" أن الأملاك يرثها الكبير من الأبناء في عرف أهل البلد , وأنا أكبر من كروفورد شقيقي التوأم بخمس دقائق فقط".
" أذن, لم يرث كروفورد أي شيء؟".
" نعم, ليس هناك أي شيء له , فقط بعض السيارات القديمة كان يستعملها أخي يوم كان في دانكريغان , ثم ضحك ضحكة مبطنة وهو يكمل " كان عليك أن تري وجه أبنة خالك عندما رأيتها وأخبرتها أن سقف المنزل يلف في فصل الشتاء , لقد تعجبت كيف قبلت البقاء هنا في دانكريغان بالرغم من كل ما ذكرته , وبعد أن خبرت بنفسها , كم ينقص المنزل من أشياء أساسية ليصبح العيش فيه مريحا ومقبولا ".
جلست ساندي في مقعدها فاقدة الصواب, صامتة , مصعوقة مما سمعت, تذكرت فحوى الرسالة التي أستلمتها من مرتا تقول فيها ( من أجل سعادة ديرميد أبني سأعود الى أسكوتلندا – دانكريغان لأجعله منزلا لي وله , كان القصر منزل كروفورد بالسابق وكانت أمنيته أن يتربى أبنه فيه ليحظى بالرفاهية التي عاشها هو) كيف يمكن لمرتا البقاء هنا بالرغم من أن أحدا لم يرحب ببقائها؟ كيف تفرض نفسها في ضيافة ليماند رغما عنه؟ وهو يكافح ليجمع المال ليسدد ديون والده, السقف يرشح ويحتاج لأصلاح وبالتالي للمال , أي رفاهية تنتظر؟ أفضل لمرتا الرجوع الى جنوب أنكلترا حيث يمكنها أن تجد عملا , كذلك يمكن لعمتها جين أن ترعى لها أبنها في أثناء غيابها في عملها , ثم قالت:
" سيد كالدويل! أشعر أن عليّ أن أعتذر لك عن تصرفات أبنة خالي مرتا , لا يجوز لهاأن تفرض نفسها عليك وعلى ضيافتك , لكنها كتبت تقول أنك دعوتها للبقاء هنا بنفسك".
" نعم, أنا دعوتها , عليك أن لا تنسي أن ديرميد هو أبن شقيقي . أحب أن أتعرف اليه! " وقطع حديثه فجأة , وأحست ساندي بأنفاسه تهسهس بتنهيدة سخط بل غضب , قالت:
" وهل توصلت لمعرفته؟".
" ليس كما يجب ".
" فهمت الآن أسباب عدم ترحيبك بوصولي " قالت ساندي بصوت منخفض ثم أردفت:
" سوف أرحل غدا عائدة أدراجي , هذا أذا سمحت لي بالبقاء ليلة واحدة عندك ف دانكريغان ".
لم يجب , كان يفكر , أحست ساندي كأن قواه قد خارت , صمتت ساندي وأعادت نظرها الى خارج السيارة ترقب من النافذة الظلام , أقتربت السيارة من بلدة صغيرة , أرتال السيارات تمر بهما وترسل أضواؤها أنوار تشير الى حافة الطريق , أبطأت السارة ودلفت الى مفرق لجهة الشمال , ومرة ثانية أصبحت السيارة خارج البلدة , الأشجار هنا متلاصقة وملتفة , صف الأشجار على جانبي الطريق يشكل نفقا تسير السيارات بداخله , أنتهى صف الأشجار وخرجت السيارة مرة أخرى الى العراء , الى الريف , ظهرت أشكال غريبة أمام السيارة , أبطأ ليماند سرعته , ركضت هذه الأشكال من أمامه مسرعة , سألته ساندي:
" ما هذا؟".
" أنها خراف".
أنزعج العجل الصغير القابع خلفها في الكيس , من صوت الزمور , نخر وتنشق بصوت مسموع , شعرت ساندي بثقل في رأسها كأنها تخدرت , هزت رأسها ورفعته الى أعلى حتى لا يغالبها النعاس ولكن بالرغم من ذلك , شعرت أن عينيها مثقلة , أغلقتهما وغفت.
أفاقت علىصوت توقف محرك السيارة , فتحت عينيها لمحت المنزل وسط العتمة , كانت السيارة قد توقفت أمام بعض الدرجات المؤدية الى فسحة المنزل , يرتكز المنزل فوق عواميد حجرية , تنتهي فسحة الدار بقنطرة قديمة بداخلها باب خشبي مزخرف على شكل بيوت العنكبوت , فوق الباب ضوء صغير خافت , أطفأ ليماند ضوء سيارته ومدّ يده الى المقعد الخلفي وأخرج سترته الصفراء , فتح بابه وخرج , لبس سترته ومشى الي الصندوق الخلفي وأخرج منه حقيبة ساندي , فتحت هي بابها بنفسها ورفعت قبة سترتها على رقبتها كي تحمي ما أمكن من شعرها من البلل , مشت الى خلف السيارة وحملت بنفسها حقيبتها , أغلق ليماند صندوق السيارة.
" أدخلي الى المنزل " تكلم بنبرة آمرة أعتادها , وأكمل " عليّ أن أحمل العجل الى الزريبة".
مشت ساندي مطيعة أوامره , تحمل حقيبتها , صعدت الدرجات وتمكنت رغم الأنارة الخفيفة من رؤية الباب الخارجي , ولاحظت فورا قدم الباب وحاجته الى دهان وتصليح , كان فوق الباب جرس قديم متدل, أمسكت به لتقرعه , فوجئت بمسكته تنقطع وتبقى في يدها قبل أن يسمع للجرس رنين , لم يكن الجرس موصولا بأي سلك كهربائي وهو غير صالح أصلا لأي أستعمال , حاولت ساندي أعادة المسكة لمكانها ولكنها لم تفلح بل سقطت من يدها وأحدث سقوطها قرقعة عندما أرتطمت بالأرض , ألتقطت المسكة وأحتارت ماذا ستفعل بها , سمعت وقع أقدام على الحصى , ثوان وظهر ليماند , قفز الدرجات بخفة ونظر الى يدها الممسكة بالجرس المقطوع.
" حاولت قرع الجرس , وقعت المسكة ...".
كانت ساندي تشرح له ما حصل وتمد يدها وبداخلها مسكة الجرس.
" أرجو أن لا تكوني من هؤلاء الناس الذين يخربون كل ما يلمسون ".
كان ليماند يكلمها بلهجة ساخرة وقد مد يده وأخذ مسكة الجرس ووضعها مكانها وأكمل :
" لأن قصر دانكريغان كله يحتاج لمن يمسك بأشيائه بلطف وأنتباه وألا يتفتت ويخرب , الباب لا يقفل أبدا , كان عليك أن تديري مسكة الباب الخارجية فيفتح".
فتح لها الباب وأشار اليها بالدخول , دخلت الى قاعة كبيرة تدلت من سقفها ثريا قديمة خافتة الأضواء لأن بعض أقسامها كان خاليا من اللمبات , وسط القاعة سجادة هندية خيوطها بالية ولونها باهت , كانت تغطي قسما مربعا من الأرض الخشبية , توجد سلالم تؤدي الى الطابق الأول الى يمين القاعة , لم تكن السلالم مغطاة بأي سجاد , في طرف القاعة بعض الكراسي الأثرية ويوجد على الحيطان بعض الصور الزيتية في أطارات فخمة مطلية بالذهب , حيطان القاعة لونها أصفر باهت.
فتح باب الى اليمين وخرجت منه أمرأة وخرج معها من الغرفة صوت تلفزيون مسموع , تمنت ساندي أن تكون تلك المرأة أبنة خالها مرتا ولكن أملها خاب لأن المرأة أطول وأكبر سنا من مرتا , قالت المرأة:
" سمعت الباب يفتح , هل وجدت الفتاة القادمة من أنكلترا يا ليماند؟".
" نعم , هذه ساندي فيليبس".
" أهلا وسهلا في دانكريغان "
قالت المرأة وهي تبتسم , كانت ترتدي تنورة من قماش التويد الصوفي وفوقها كنزة صوفية , شعرها الأسود يخالطه البياض مما أعطاه لونه الرمادي , تعقصه بضفيرة حول رأسها.
" هذه تان كوري وهي مدبرة المنزل منذ عشرين سنة".
" تشرفنا".
" أين مرتا؟".
" ذهبت الى نادي اليخوت مع جوني".
| ط وأين الولد؟".
" نائم بعد أن قصصت عليه القصص العديدة".
قالت نان وهي تبتسم , ثم ألتفتت الى ساندي وقالت:
" أنت متعبة جدا بعد هذه الرحلة الطويلة , كذلك لا بد أن الجوع قد أستبد بك , سأضع أبريق الماء على النار من أجل الشاي , ضعي حقيبتك في أسفل السلالم وستحمليها الى غرفتك في الطابق العلوي بعد العشاء, الى اليسار ستجدين حماما صغيرا , أغسلي يديك وأتبعيني الى المطبخ من أجل الطعام , نحن لا نستعمل غرفة الطعام في هذه الأيام الا نادرا".
سرّت ساندي بترحيب نان بها , غسلت يديها ومضت لتوها الى المطبخ عبر ممر الى يمين القاعة , جلست الى طاولة كبيرة يغطيها شرشف زاهي الألوان , نظيف , أكلت وجبتها التي وضعت أمامها بنهم بدون أن تنبس ببنت شفة , كان يجلس معها ليماند يأكل وجبته التي أمامه بدون كلام .
المطبخ مربع وواسع وله أرض حجرية , كان لهيب نار خفيف يخرج من الموقد القديم , منظر بديع في ليلة شديدة المطر .وألسنة اللهب تنعكس على أدوات المطبخ النحاسية المعلقة على الحيطان , خزانته الخشبية دهنت بلون أصفر في محاولة لتجميله , زهور ونباتات عديدة من النوع الذي يعيش داخل المنازل هنا وهناك فوق الرفوف أو على ظهر الخزائن.
كانت نان تقوم على خدمتهما أثناء العشاء , تصب الشاي الغامق من أبريق فخار وهي تسأل ليماند أسئلة تتعلق برحلته من والى دمغريز وتسمع أجاباته , وترقب ساندي بطرف عينيها.
شعرت ساندي بنظرات نان الفاحصة لها , كما لاحظت الشبه الكبير بينها وبين ليماند , الأثنان لهما شعر أسود وعينان سوداوان , بشرتهما مائلة الى الأسمرار وتقاطيع وجهيهما غريبة عن أسكوتلندا , ربما بعض الجدود قدم من الشرق الأوسط وربما تكون نان والدته.
" كلا , أنا لست والدة ليماند , ولكنني أبنة عم والده كافن كالدويل وجدودنا واحدة , والدتي كانت شقيقة والدة كافن".
قالت نان كأنها قرأت ما كانت تفكر به ساندي".
" أوه".
أستغربت ساندي ونقلت بصرها بين ليماند ونان بسرعة وسألتها :
" كيف عرفت بما كنت أفكر فيه؟".
" أنت صغيرة , وعيناك صافيتان تعكسان ما في داخلك ".
أجابتها نان بصوت جهوري واضح , كانت عيناها السوداوان ترسلان بريقا ساحرا , ثم أكملت :
" لم تتعلمي بعد يا صغيرتي كيف تخفين ما بداخلك , أنت واضحة كالنهار وهذا ما يجعلك طيبة ومحببة , مع أنه يشكل خطرا عليك".
" هل عدت الى تكهناتك ؟".
سألها ليماند ونظر الى ساندي وخاطبها :
" تزوج أحد أبناء كالدويل قديما , غجرية صغيرة , كانت أبنة ملك الغجر في هذه الضواحي , تحمل نان في عروقها دما غجريا بالوراثة , وتتكهن أن هذه القطرات الغجرية تمكنها من قراءة الأفكار والتنبؤ بالمستقبل , لا تأخذي ما تقوله على محمل الجد فهو لا يحمل من الحقيقة قدر ذرة ملح".
" لا تضحك ولا تسخر مما ورثناه أنا وأنت من جدودنا ".
أجابته نان وهي تبتسم بحنان.
كانت ساندي تفكر أن الدم الغجري بينهما يمكن أن يكون السبب في سواد الشعر والعينين عندهما , علم أجناس البشر وأصوله يثبت ذلك , أذن نظريتها صحيحة بالنسبة الى عائلة كالدويل من أن أحد جدودهم قدم من الشرق الأوسط , أن كلمة غجري تشتق من كلمة مصري , وهي كلمة أعطيت لجماعة من الرحل قدموا من أنكلترا في القرن السادس عشر , وربما يكون الشعر الأسود والعينان السوداوان وراثة عن جماعة أستوطنت أسكوتلندا في قديم الزمان تعرف بالنكنس ( هم جماعة غريبة لا يعرف عنهم الا القليل تاريخيا).
وكانت ساندي قد سرحت برحلة عبر التاريخ , كعادتها , فلم تسمع ما دار من حوار بين ليماند ونان , وأجفلت قليلا حين أبعد ليماند كرسيه ليقوم , بعد أن أكمل طعامه , قال يخاطب نان وهو واقف:
"هل عندك مكان لتنام فيه ساندي؟".
" نعم , في الغرفة المجاورة لجناح الطفل".
" أظنك ستقولين لي أنك عرفت أنها قادمة الى هنا كي تساعد مرتا في رعاية الصغير , مع أن مرتا أهملت كليا أن تخبرني أنها دعت أبنة عمتها لتبقى معنا لنهاية الصيف ".
كان ليماند يخاطب نان بجفاء وقد رفع حاجبيه وأنفرجت أساريره عن أبتسامة ساخرة.
أتسعت عينا نان من المفاجأة وجالت نظرها بسرعة بين ساندي وليماند وأجابت:
" كلا , كلا لم أعرف , فقط لأنني ظننت أن وجودها قرب غرفة ابنة خالها مطمئن لها".
صمتت نان وقد بدا على وجهها هم كبير , ثم خاطبته بسرعة:
" لن تعيدها الى أنكلترا؟ لن تحرمها ضيافتك لأن مرتا لم تصرح لك حقيقة رغبتها؟".
" لن يعيدني الى بلدي , بل أنا التي أخترت العودة بنفسي , سأعود غدا بعد أن أرى أبنة خالي , سأعود بعد أن أعرف منها حقيقة ما حصل"
دافعت ساندي عن كرامتها بصوت متهدج , وأضافت:
" متى يرحل الباص من كيركتون الى دمغريز غدا؟".
وران صمت لفترة بين الثلاثة , حدق ليماند لأول مرة في وجه ساندي , أنها المرة الأولى التي يوجه اليها نظرة ويرى وجهها بوضوح , مرت فترة وجيزة وهو يتفحصها بعينيه السوداوين , أحست ساندي بثقل نظراته وق جسمها كله , تسربت حمرة الخجل الى وجهها الشديد البياض , كان ليماند يفكر بالحل السريع لهذه المشكلة الجديدة , وبسرعة كمن توصل الى قرار مهم قال:
" لا لزوم لذهابك بالباص غدا , يمكنك البقاء أسبوعين فقط تساعدين فيها مرتا في رعاية الصبي , تذكري دائما أنني أنا مضيفك وأنا دعوتك للبقاء في منزلي".
كانت لهجته آمرة , وهذا جزء من طبيعته , ولكن وجهه الصارم لم يكن خاليا من الطرافة وعدم الأكتراث والبرودة كالسابق....
" شكرا".
قالت ساندي ببطء وأنكسار , أحتارت , هل عليها أن تنحني له أجلالا لكرمه , لم يجبها ليماند على شكرها , هز رأسه ودار خارجا من المطبخ , نظرت ساندي الى نان نظرة أستغراب , كانت نان تخفي ضحكة واضحة على وجهها وهي تصب المزيد من الشاي لنفسها, ثم قالت:
" يستطيع ليماند أن يكون متعجرفا حين يشاء , كنت أتساءل متى يعود لطبيعته الآمرة من جديد , منذ حضرت أبنة خالك مرتا الى هنا , وجلبت معها خبر موت كروفورد بقي ليماند منطويا على نفسه ,هادئا وحزينا , لم يكن أحد يستطيع التكلم معه , الأنباء المحزنة قلبت كيانه وغرق في حزن شديد على أخيه , بعد ذلك مر بفترة شك في صحة زواج أخيه بأبنة خالك!".
قاطعتها ساندي:
" أوه , لماذا الشك؟".
" لم يكن لديه علم بزواج أخيه وظن أن مرتا محتالة ومزيفة".
ودافعت ساندي عن أبنة خالها قائلة:
" لا يمكن لمرتا أن تفعل ذلك , أنا واثقة من صدقها , كانت زوجة كروفورد بالتأكيد ".
" تأكد ليماند من صدقها بعد أن رأى وثيقة زواجها , في البداية لم يصدقها".
" كم هو كثير الشك!".
" أنه ليس شكا بقدر ما هو حذر , أن ليماند يعرف أخاه أشد المعرفة , كما تعرفين أنت أبنة خالك , كان من المحتمل أن يعيش كروفورد مع مرتا بدون زواج وبالتالي يكون الصبي ولدا غير شرعي ".
" أفهم الآن تفكيره وسبب حذره".
سرت من شرح نان لهذه الأمور الدقيقة .
" هل تعرفين كروفورد؟".
سألتها نان تستوضحها المزيد من المعلومات لأن ذلك من صلب أختصاص عملها في منزل دانكريغان وأسراره وأكملت:
" هل حضرت زواجهما؟".
" كلا , لم أكن موجودة يوم تزوجا , كان الزواج في باريس حيث كانت تعمل مرتا عارضة أزياء لأحد بيوت الأزياء هناك , ذات ليلة ألتقت كروفورد في حفلة وتزوجا بعد اللقاء بثلاثة أيام".
" نعم".
أومأت نان برأسها موافقة :
" هذا ما قالته لنا مرتا , كان زواجهما رومنطقيا ! ألا تظنين ذلك؟".
" أوافقك الرأي ".
أجابت ساندي , وأردفت:
" ولم نرها بعد ذلك في أنكلترا الا يوم عادت مع ديرميد ابنها في الربيع الماضي بعد الحادث المشؤوم , كانا يتنقلان كثيرا".
" نعم, كان كروفورد يحب التنقل ويكره الأستقرار , ترك دانكريغان بعد أن غادر ليماند المنزل في دانكريغان".
تنهدت نان وسرحت عبر ذكرياتها , قامت ساندي تمع الصحون الوسخة , كان عليها أن تبدي رغبتها في المعاونة في أعمال المنزل بالرغم من شدة تعبها , أعترضتها نان بلطف:
" أتركي , لا عليك".
" لكنني أرغب في مساعدتك فترة أقامتي هنا".
وتمتمت:
" لو أن مرتا أستأذنت السيد كالدويل قبل دعوتك لتمضية الصيف هنا؟". ألا يكفيه أن يعيلها هي وأبنها؟ هو الآن مثقل أيضا بضيافتي!".
كانت تجمع بقية الصحون وتضعها في المغسلة :
" عليّ أن أعمل لقاء سكني ومعيشتي هنا...".
" لا تهتمي , أرجو أن لا يكون ليماند قد أثقلك بشرح أعبائه المالية؟".
قالت نان وهي تضحك.
" نعم , ذكر لي أن عليه ديونا متراكمة ورثها عن والده وهو يعمل لسدادها , كذلك ذكر لي أن السقف يرشح في فصل الشتاء ويحتاج للترميم , ثم لحظت بنفسي أنه يحتاج لسيارة جديدة بدل سيارته المكسرة والمحطمة التي يستعملها , ...".
كانت ساندي تتكلم وهي مهمومة , فتحت حنفية الماء الساخن وبدأت عملية جلي الصحون المتراكمة أمامها .
" كل ذلك صحيح".
أجابت نان وهي تحمل الى ساندي بقية الصحون الوسخة لتنظفها .
" لقد تعب كثيرا خلال السنتين الماضيتين حتى تمكن من أيفاء جميع ديون كافن , لكنه أنتهى من هذه الأزمة تقريبا".
" سيدة كوري...".
" نادني نان , الكل يناديني بهذا الأسم".
" أذن , هل لديك فكرة , لماذا لم تستأذنه مرتا قبل أن تدعوني ؟".
" لأنها تخاف منه قليلا".
" هذا ما قالته لي أمي وهي تقرأ بين السطور في رسالة مرتا لي , لكن لماذا تخافه؟".
" أعتقد لشدة الشبه بينه وبين أخيه في المظهر الخارجي ويختلف معه كثيرا في الطباع والأخلاق , أنه غامض وهذا يخيفها ,ألا توافقين ؟".
" الغموض يخيف لفترة قصيرة ".
أجابتها ساندي ثم سألتها:
" ماذا تعرفين عن كروفورد؟".
" كان يخالف في طباعه كليا شقيقه ليماند , كان كثير الحركة , طائشا , متكبرا , سريع الغضب شديد الحساسية , ويستولي على محبتك لدقيقة ويثير غضبك بطيشه السريع دقيقة ثانية , كان الأبن المفضل لوالده كافن , لكنهما تشاجرا آخر المطاف".
تنهدت نان وهي تعيد هذه الذكريات وأكملت:
" لو كتب كروفورد لوالده يعلمه بولادة حفيده لكان كل شيء هنا قد تغير وربما رأب الصدع الذي أتسع بينهما مع مرور الأيام".
تمنت ساندي لو تعرف سبب شجارهما ولكنها أحست أن نان أنزعجت من أثارة هذه الذكريات الأليمة , أكملت ساندي جلي الصحون بدون حديث , وعندما أنتهت منها همّت بتنشيفها ولكن نان أصرت عليها بالتوقف قائلة:
" لقد عملت أكثر مما يجب , أرى أنك منهوكة القوى من شدة التعب , سأريك غرفتك لتنامي ".
" أود رؤية أبنة خالي قبل أن أنام".
" سترينها في الصباح , كل شيء يكون في الصباح على ما يرام , الشمس المشرقة فوق الرمال , الطيور المزقزقة , سأخبر مرتا بوصولك حين تحضر من سهرتها , تعالي معي الآن الى الطابق العلوي".
أقتنعت ساندي , لحقت بها الى الطابق الثاني , جناح الطفل يقع في أقصى الممر بعد ثلاث غرف نوم , واحدة ليلعب فيها الصبي , وواحدة لمرتا وقربها غرفة ساندي.
" هنا الحمام".
قالت نان وهي تشير الى باب مفتوح يخرج منه نورضئيل".
" كان ديرميد يخاف العتمة وقرقعة أبواب القصر وصريرها , أبقيت له هذا الضوء في الليل , ستنامين في هذه الغرفة القريبة من غرفته , هي غرفة صغيرة ولكنها تطل على الحصن القديم ومصب النهر , هل هناك أي سؤال قبل أن أتركك؟".
" نعم , لديّ سؤالان من فضلك , أذا لم أعرف أجابتهما لن أنام!".
" أسألي فورا , أنا أفهمك".
" أولا , من هو جوني؟".
" هو أبني الوحيد , شاب مهذب ويصغرك بقليل , عمره واحد وعشرون سنة , عاش كل حياته هنا , حضرت الى القصر بعد ولادته لنعيش ونستقر هنا , لم أكن أملك أي شيء , قتل والد جوني بحادث , صدمه جرار في المزرعة ومر من فوقه ,كنا نستأجر من كافن مزرعة صغيرة , سيعمل جوني في خدمة ليماند فترة الصيف فقط , هو مثلك طالب جامعي , لديه بعض الأصدقاء في نادي اليخوت , دعا مرتا لمصاحبته الليلة ليمرحا معا , أسألي سؤالك الثاني!".
" ماذا يعمل السيد كالدويل؟".
" هو ملاّك مع أنه لا يملك الكثير من الأ**** , باع عدة مزارع كانت تؤجر لمزارعين يعملون عنده , كذلك باع الأ**** الواقعة في الناحية الثانية الى البناء , باع بعض أملاكه ليسدد بثمنها بعض الدين , كذلك أستعمل قسما آخر من المال للبدء في أستصلاح أ****ه الزراعية".
" أقصد ماذا يفعل للأرض لتصبح منتجة وتعطيه المال؟".
كانت ساندي تستوضحها في محاولة لمشاركة ليماند همومه المالية , وأكبرها في نظرها أعباء أعالة مرتا وأبنها.
" لديه قطيع من الأبقار والخراف وبعض الحيونات اللبونة الأخرى , لديه فراخ , والآن بدأ بتربية الأرانب".
أجابتها نان وهي تبتسم أبتسامة عذبة حنونة.
أنه مزارع!".
" نعم , هذا ما يسمى , كان والده كافن يفضله في الجيش مثله , لكن ليماند كان يرغب في تربية الحيوانات المختلفة , أدارة المزرعة همه , كان دائم الخلاف مع والده بسبب أدارة الأملاك , مما أضطر ليماند لترك دانكريغان , تنقل في بلدان مختلفة في بريطانيا يعمل في المزارع , هل ترغبين في المزيد من الأسئلة يا عزيزتي؟".
" شكرا , هذا يفسر الآن وجود العجل الصغير في المقعد الخلفي في السيارة".
سرّت ساندي أن بعض الغموض بدأ ينجلي حولها .
" عمت مساء , سأتركك لتنامي , وتصبحين على خير".
كان الفراش قاسيا وضيقا ولكنه نظيف , رائحة الشراشف ذكية , نامت ساندي فورا , حلمت قبيل أنبلاج الضوء أنها سجينة في قبو الحصن ,حضر لنجدتها من سجنها فارس يمتطي حصانا أسود ودرعا من القرون الوسطى , كانت أوسمة الشرف تزين صدره وفي خوذته ريشة زاهية , ترجل عن حصانه ومشى شاهرا سيفه بيمينه , ولما وصل اليها رفع قناعه عن وجهه , نظرت اليه لتتعرف الى مخلصها , وجدت نفسها تحدق في عيني ليماند كالدويل السوداوين.