المنتدى :
الارشيف
فوضى الفصول ـ للكاتب محمد باقي محمد ـ
فوضى الفصول
“ طفولة “
الرايات
خافقة تحت سماء لم تتكّون
بعد…
أما نحن المنذورون لنحملها
تحت الريح
وتحت المطر
فعلينا أن نتكّون أيضاً.
ـ سعدي يوسف ـ
“ طفولة “
- 1 -
هكذا كانت الصباحات تهلّ مؤتلقة !
وعبر البراري المنداحة على مدِّ النظر كنت تركض حتى تتوحـد بالسمـاء، وترى إلى مـا لا نهايـة، بدءاً بسفوح "طوروس" ذات الـلـون الأسود المتداخـل بالبنفسجي شمـالاً، وانتهـاء بجبل "عبد العزيز" الرمادي اللون، ينهض عـن الأرض كنهدٍ جنوباً !
مأخـوذاً بأصـداء الطفولـة كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه، زمنــاً تفتقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، فيغيض " الزركــــان" من قبل أن يتناسل مع "الخابور"، وتتقزم من حوله أشجار البطم!
وفي حـلّك وترحـالك كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن "بطاحاً" كان يسبقك إليها !
غرباً كنت توغـل حيث الهواء ـ بُعَيْد الفجر ـ مفعمٌ برطوبـة رخيّـة، فيما "الجدَيدْة" ماتزال نهب نـوم لذيذ، فيشرع "الأحيمر" صدره للريح الغربية، يفتح خياشيمه ليعبّ منها، وتصهل الروابي والتـلال الصغـيرة بصدى الجرس المعّلق في رقبة "المرياع" !
صعداً نحو مركز القبة الزرقـاء الشفيفة، يرتفع قـرص الشمس، فتنبعث في الجـــو رائحة عشب يفقـد ما تبقى في الأنساغ من ريـق، وتلجـأ الطيـور و
الزواحف إلى حمى ذروة تقيها، و تتمايـل سوق القمح، و هي تنوء تحـت سنابلها، وتتلفح البرية بهواء راكد !
لابأس ! ما يزال الطقس محتملاً !
كنتَ تقــول، وتركـــض لتلاعب النعاج، تندفع من بعيد ملوحاً بعصاك، فيهتاج القطيع، وينحر يميناً و يساراً، ثم تعود لتجميعه، فينخفض ثغاؤه، تلاعب خروفـاً، وتضحــك، تأخــذ التراب بيـــن أصابعك، تفركه فيلثغ بالندى، تقذفه بعيداً إلى الأعلى، تنشره فـي وجه السماء، وترفع رأسك نحو الشمس، لكن هالة البهاء الخاطف لسناهـا يفجؤك، فتديـر رأسـك بسرعـة، و قد غطت يداك وجهك كله، بعد قليل تبعدهمـا، وتفتح عينيك، لكنك لا تـرى خلا السـواد ـ فيه ـ تومض نجوم صفر وحمر، ثم تعاودك الرؤية بالتدريج!
كانت المسافـات تسرقك، والوهـاد المستلقية في البهاء الطلـق تطويك، وها أنت تبتعد عن القرية، ولا شيء يوقفك، وقد يحدث أن تمرّ بك عربـة سيارة، فتسابـق ظلك إليهـا، وتنقلب يداك إلى مناديل ملوحة، ففي المعتاد من الأحوال لم تكن ترى عربة مثلها إلا مرة كل عام! كــــان ذاك آن يحّل الآغـا بالقريـة، فيرتفع الصخب، ويجتمـع الفلاحون في بيت المختار،بينما يتراكض الأطفال حول المضافة، يتأملـون العربـة بدهشـة، ثم يسقـط خـروف مسكين ضحيــة لتلك الزيارة !
تخـوم المنطقـة الجبليـة تندفـع نحـوك، وبفـرح غـامر تعتلـــي الصخور، لا أحد ـ إلاّك ـ عبر الجهـات الأربع ! سيد ما حـولك أنت، و قد تحمل آخـر ألسنة الريــح صـوت دوري ، أو درغل واقـع في الفخـاخ العديـدة التي
كنتَ تعدّها بمهـارة، فيصل إحساسك بالفـرح إلى الذروة !
عنـد الظهيـرة كـل شيء كـان يلتهب، ويصبح خانقـاً ومغبـراً، فتتمــدد في ظلِّ أشجـار البطم، وتمسح عرقـك، تسيح مـــع دورة الزمن متذكراً أيام الشتاء، فتبتسم ساخراً من نفسك!
في الشتاء أيضاً لم يكن ثمة ملجأ خلا الصخور!
حتى إذا وصلت أمك مع الحلاّبات عصراً، لـم تعـد الأرض تحملك، فتروح تنظر إلى وعاء الحليب وهو يمتلئ، ويعلـوه الزبـد، بينا تعالـج أصابـع أمـك أضرع النعـاج بخفـة ودرايـة، كنت تتمنّى أن تنحني لتـرى خيوط الحليب الحريرية، وهي تصطدم بالآنية النحاسية، بدلاً من الإمساك برؤوس الشياه العصية على الهدوء، لكنك ما تلبث أن ترفع الإناء نحو الأعلى، وتشرب الحليب الطازج بنهم، ناسياً كل شيء!
وحين كانت أمك تبتعد، وتندمج مع خط الأفـق الراحــل نحــو القرية، كانت يدك تمتدّ متسللة إلى جيبك، لتخرج علبة الثقاب التي سرقتها من الدار، ثم تندفع هنا وهناك، تجمع روث البهائم، وبقايا القش الجـاف، وتشـوي مـا اصطدتـه مـن عصـافير، إلـه المكـان ــ أنـت ــ في لحظـة واقعـة خارج مسارات الزمن، وانكسارات العالم ! بيد أن الغروب ما يلبث أن يزحف، فينحدر الطريق المُترب عائداً إلى القرية، يجرك خلفه منهكاً ملوّحـاً، وخلفك يسير القطيع مطاطئاً سابحاً في آخر التماع للشمس المحتضرة، بينما يتدلى لسان "بطاح" الأحمر! ومع اقتراب القطعان من القرية، كانت غلالة كثيفة من الغبار تتداخل بثغاء النعاج، وأصوات الرعاة، فيتحول بئر القرية، ومورد الماء إلى قفير نحل ـ فيه ـ تصطف رؤوس النعاج العطشى، ويشعر المتأمل في المشهد عن كثب بذلك الاتسّاق المهيب في الطبيعة، وهي تكشف عن أسرارها عبر تلك الهمهمات الغامضة المتبادلة بين عناصر الكون الأزلية، فيما يرين وجوم غريب على الطيور الداجنة والزواحف والهوام، وكأنها هي الأخرى مأخوذة بقدرة الخالق، ويروح الكبار في السن يسبّحون بحمد الإله في ما تبقّى لهم من زمن،في الوقت الذي يتراكض ـ فيه ـ الأهالي لمساعـدة الرعاة على منع القطعان من الاختلاط، والتأكد من سلامتها، فإذا ورد القطيع، ألفيت أباك في الزريبة ينتظر، بعد أن أعدّ المذاود بالعلف!
الإنهاك يداهمك، يأخذ مداه داخل الشرايين بعـــد يوم مرهق، و عيناك المطفأتان تجهدان في طلب الراحة ، فقط عليك أن تنتهي من تعليف القطيع، وتسكت تلك المعدة الجائعة !
ـ 2 ـ
أنت الآن في مملكة النشوة !
وفي اللحظة المنفلتة من عقــال أزمنة البشر، يبــدو المـرء متماسكاً قوياً كقلعة عصية على السقوط، إلا أن اللحظات المسربلة بالغموض كانت على الأبواب، حادة كمدية انتُضيت تطعـن فـــلول المعقولات المهزومة، فمادت الأرض، وما بدا متماسكاً قوياً راح يتشظى، وينهار فتاتاً! كنت تحس بأنك تقف في الفراغ، وما استجد من حولك لم يكن نسيجاً مترابطاً مقنعاً لمنطق الطفولـــة! فوقفت متمزقاً، موزّع النفس بين الماضي الأليف، واحتمـــالات المستقبل الغامض، وما كان لك إلاّ أن تبتهل إلى الله كي لا يقع ما تخشاه! الله ! ذاك الطيف غير المرئي، الكلّي القدرة، والمتناهي الجبروت، الذي يهوّم فوق تلك المناطــق العذراء، وكنتَ تتســاءل بحيرة، ما الذي يدفع أباك إلى النزوح نحو المدينة!؟ لماذا يريد أن يقتلع النبتة مـن جذورها إلى بيئة غريبة!؟ أنت جزء مــن هذا المكان، تمامـاً كمـا الشجرة الواقفة بباب القرية، وهذا المكان وهج في دمك، ينغل فيه بساحاته ومساربه، فهل جاءت نهاية الأيام اللذيذة التي كنت تقضيها تحت الشموس المتوهجة، وعلى ضفاف "الزركان"، وبين غيضاته!؟ " أنت ترين يا أم أحمد، أن أحمد قد كبر، وأنهى المرحلة الإبتدائية "، ليتك لم تنه تلك المرحلة! لو كنت تعرف بأنها ستبعد الأقمار عن أفلاكها لما فعلت، ولكن أنّى لك أن تعرف!؟
مساءً كنت تعود إلى البيت مغموراً بوشاح من السعادة، فلا تستطيع انتظار أمك كي تخلع الحذاء من قدميك، وتهاجم "منسف" البرغل بنهم، ضاحكاً من زجرها، لكن سعال أبيك الأجش يرتفع ـ فجأة ـ من الغرفة المجاورة، فتستقيم في جلستك، وتنتظر ريثما تخلع أمك الفردة الثانية، لتنتقل إلى الغرفة الأخرى، تقعد قدام النار، وتنظر إلى "المنقل" بيد أبيك، يفتح به باب المدفأة، ويخرج منها قطعاً من روث البهائم، بعد أن تحولت إلى جمرات حمراء رائعة!
كان أبوك كعادته يخرج كل ليلة إلى مضافة المختار للسمر، فتنسلُّ بدورك إلى أترابك، تقلبون العالم المحيط بكم إلى أعراس صغيرة على طريقتكم، لكن الهمهمات المبهمة التي أخذت تدور بين أبويك مؤخراً كانت تبدو غامضة، مثيرة للتوجس، والاهتمام الذي كان يرتسم على محياهما يدفعك إلى الاستماع " كما أنك تعرفين بأنني مريض، وأحتاج أن أكون قريباً من الأطباء"، وهكذا ـ وبكل بساطة ـ يؤول كل شيء نحو نهاية غير مشتهاة! كتب عليك ـ إذن ـ أن تترك "الجدَيدْة"، التي حفظتها في نبضك والأوردة، وتنسى فخاخك المخبأة طي التراب الرطب والقش المتقصف المبلول وبقايا الروث، فتتأكسد، ويحول لونها إلى أخضر عفن كذاك الذي يغطي الأرض غبّ تحلل الروث بمياه الأمطار، وتهجر أصدقاءك محمد وطه وحسّو! فمن بعدك لمطاردة الثعالب في الليالي المقمرة بين خطوط الفلاحة!؟ ومن ـ بعدك ـ "للغميضة" والركض الحافي على الحدود بين القرى المجاورة والقلب!؟ ومَنْ سيستخرج الفطر من باطن الأرض!؟ يا الله! و"الأحيمر" الذي ما يني يرافقك إلى المرعى مذ وعيت، مَنْ يمتطيه من بعدك!؟ ثم ما مصير "بطاح" رفيق اللعب، وحامي القطيع!؟
الفكرة تلو الفكرة تداهمك، وأنت كما سنونوة تاهت عن سربها، فدهمتها الثلـوج، وعـزّ الملجـأ، وفي ذلـك المدار الغامض لدورة الأشيــاء، راح الخيــط
الأبيض يختلط بالخيط الأسود!
و "الحسكة" هذه كيف تكون!؟
بكل ما التقطته أذناك من أحاديث متفرقة تطوف الذاكرة الذاهلة!
"بيوتها كبيرة، يعلو بعضها فوق البعض!"
كيف ذلك !؟ يلحّ السؤال !
وكيف ينزل ساكنو الأدوار العليا!؟ ثم لماذا يسكن الناس فوق بعضهم والبرية واسعة!؟
"وهي مضاءة بالكهرباء!"
وما هذه!؟
"حتى شوارعها مضاءة بمصابيح كهربائية!"
والشوارع أيضاً!؟
وتروح الذاكرة الواهنة تسيح على شتات الكلمات عن الحوانيت الملأى بالرز والعدس والسمن والسكر والدخان والأقمشة والأطعمة والحلوى والحبال والفاكهة والخضار! مكسورة هي المعادلة داخل الذهن المنهزم، فأين من هذا كله قريتك الخالية من الحوانيت، تنتظر "أبا عبدو الحواج" انتظار العيد، أو الموسم، فإذا أقبل بعربته المغلقة، حاملاً للأطفال السكاكر، والمناديل المصنوعة في "الموصل" للنساء، والدخان للرجال، قفزت القلوب من الفرحة، وتراكض الأطفال من حوله يحلمون،فيما تهوّم الأصوات المتداخلة، لتتكسر على حواف البيوت ونتوءاتها!
"وما أكثر العربات السيارة في المدينة ! بعضها كبير، وبعضها صغير!"
يا إلهي! يقفز السؤال:
كيف يسير الناس في الدروب إذن، ولِمَ لا يملك أهل القرية عربات سيارة!؟
تلوّح بيديك في الهواء، تطرد أسراب الأفكار والأسئلة الملحة، هذه المدينة قناص يقتنص اللحظـــات الهانئة من حياتك، وأبوك مــا ينفك يقرأ في رأس أمك !
"وشوارعها مغطاة بالإسفلت!"
فلا وحل في الشتاء، ولا غبار في الصيف!
وهكذا يسلبونك القرية! مدية فوق العنق، أو عنق تحت السكين! والأشياء الأليفة الحبيبة إلى القلب تنأى، القطيع، وبيت المؤونة حيث الطماطم اللامعة تراودك عن نفسها إثر زيارة الحوّاج، و رفاق الليالي العابثة المليئة بالصخب والمرح! معهم سرقت دجاج الأرملة "أم قاسم"، وانتحيتم ركناً نائياً، تأكلون اللحم، وتخفون الريش والعظام!
اشتعلي أيتها الذاكرة، واستحضري العالم كله، أو انطفئي و اخمدي، فلقد تعب المهر الصغير!
أتذكر ليلة كدنا نحرق محصول القرية!؟
يسألك "إبراهيمو"، حتى لو نسيت، فإن العقـاب الذي طالكـم يبقى وشماً في الذاكرة! الثعلب الملعون جُنّ حينما أشعلتم النار في ذيله وطار ـ ليلتها ـ نحو الزرع! يتوهم المرء بأنه قد نسي! لكنه في لحظة خارجة عن الإرادة، يكتشف بأنه لم ينسَ شيئاً، ذلك أن المخزونات تندفع كطائر حبيس أطلق! وها أنتذا ـ مـع رفاق اللهو ـ في طريقكم إلى بستان "أبي خليل"، معهم ذبحت البطيخ المسروق، ولم توفروا الشمّام والخيار، ومعهم يسوقك الشتاء إلى المدرسة غيمة باردة، تنتابها أحاسيس متضاربة، تراوح بين الوجل والترقّب والرهبة والفضول! يا للمدينة التي لم تكن تخطر في البال! كيف غمرت تلك البليّة عقل أبيك وأمك، وأصبحت شغلهما الشاغل!؟ هي تتساءل، وهو يجيب! هي تتخوّف من الخطو نحو المجهول، وهو يطمئنها، ويهدّئ بالها " الرزق على الله، والمثل يقول مطرح ما ترزق إلزقْ! لن نموت من الجوع، ففيمَ خوفك!؟ الله خلقنا، وهو كفيل بإطعامنا! لن نخسر شيئاً من المحاولة! ماذا سنخسر!؟ هه!؟ أجيبيني ماذا سنخسر!؟ ما الذي نملكه في هذه القرية لنفقده!؟ لا شيء! لا أرض، لا أقرباء، إنهم ليسوا عرباً حتى! لست أدري أيّ ريح مشؤومة حملتنا إلى هذا المكان! حتى لو كنا نملك أرضاً، لذهب جلّ محصولها إلى الآغا، فماذا تخشين بعد!؟" يا الله! طفل أنت، و"الجدَيدْة" أمك ومشيمتك والرحم، فكيف صدر ذلك الكلام عن أبيك!؟ اختلاط غريب في الأشياء يحجب المدى، ويكثّف الزمن في لحظة مشحونة بالأسى والانحراف في البوصلة! أنت خجل من كلامه، وفي سرّك تحمد الله؛ لأن أهل القرية لم يسمعوا ما قاله، ومع ذلك فأنت مدين لهم بالاعتذار! عاتبون هم لو عرفوا، لاشيء لكم في هذه القرية! طيّب، وبيتكم، وقطيعكم الصغير، وحبل السرّة الذي يربطكم بأهلها مذْ وعيتَ!؟ أهلها الذين ما تركوا فرصة إلاّ وأثبتوا فيها حبّهم لكم! والعشرة التي لاتهون إلاّ على أولاد الحرام!؟ و التراب، والزّل، والغَرَب، وشجيرات البطم، والأودية!؟ مسارب القرية وساحاتها، أعراسها، مآتمها، ليالي السمر، والأحاديث الليلية الشائقة!؟ ألا تكفي تلك المفردات كلّها لبقاء السماء زرقاء في سمتها!؟ وإذا لـم تكن تلك الأمـور مجتمعـة تعطـي الإنسـان حسّ الانتمـاء، فـما الذي
يعطيه ذلك الإحساس!؟
لا جواب! نهضت حالة انكسار عاجزة عن النفاذ إلى ما وراء الظواهر! لا شك في وجود خلل! نعم! ثمة قناع يحجب جوهر الأمور، ولكن أين يختفي ذلك القناع!؟
- 3 -
الليل، آهة حرّى، وأسى هاجع تحت صفحة الوجه الساجي!
والقمر، شرخ رقيق في القلب بين قرية وادعة حبيبة، ومدينة مُرتجة على أسرارها!
"الجديدة"، أفق مفتوح على السكينة والهدوء الحالميَنْ، وزورق مُشرع تحت عباءة الليل!
والبيوت، مربّعات سوداء لم تأخذ أبعادها بعد!
وأنت مهزوم غبّ الأحداث الأخيرة، ومنكسر حتى آخر راية! ثمة ـ في الجوف ـ عطب مبهم يعتقل العينين، ويمنع عنهما الكرى! "لمبة الكاز" ترسم ظلالاً باهتة على السقف الخشبي والجدران الترابية! و كشجرة أنهكها النخر وقفتَ منقسماً، تريد أن تحيط بالأشياء لتروي شوقك إلى عوالم أنيسة توشك أن تغيب؛ متمنّياً أن تنقلب الذكريات إلى وشم مطبوع في مدخل القلب، قبل أن تسلس قيادك للأيام، فتمضي بك بعيداً، ذلك أنّ أجزاء القرار قد تكاملت، وغداً، أو ربما بعد غدٍ ستحضر شاحنة لكي تقلّكم إلى المدينة! أعوامك الثلاثة عشر تصرمّت بسرعة لا تلوي على شيء! وهذا السقف المتكوّم فوق رأسك بألفة، يفعل ذلك للمرة الأخيرة ربما، ولكن هل هذا ممكن!؟
نهضتَ، أنت تعرف الدار شبراً شبراً،وكلُّ زاوية فيها تهمس لك بذكريات حميمة! الظلمة سيّد مهاب، وشقوق الباب الخارجي تسرق شيئاً من ضوء القمر! كان زير الماء يتربّع على حامله في الزاوية الشمالية الشرقية للصالة، فيما ألقت يد الإهمال بدلو قديم إلى جانبه، أمّا الحائط الشمالي فتتوسطه كوّة صغيرة راحت تتلصّص على البيادر الشمالية الراحلة بعيداً، ومن غرفة الأهل إلى غرفة الضيافة، فغرفة المؤونة، فالمعلف، كان ذلك البيت يزوّدك بالأمان طيلة السنين التي تصرمّت! رحباً كان وأليفاً، فنما حبه في قلبك نمو عشب يكسر القشرة الخارجية للأرض !
عبر المعلف اندفعتَ إلى الزريبة المتّصلة بالدار، فشعرتَ بقبضة جبّارة تعتصر الجوف! كانت الزريبة خالية، وبدت لك في غبش الفجر واسعة! لعلها لم تكن ـ بالمعيار الموضوعي ـ كذلك! لكنها المرة الأولى التي كنتَ تدخل فيها المكان وهو فارغ! آثار التبن والشعير والروث كانت منتشرة في كل مكان، فيما كانت عيدان الحطب تغطّي السقف المُغبّر، فاستدرتَ لتهرب من تلك الأحاسيس الضاغطة، بيد أنك تفاجأت بأمك وهي تقف خلفك! كانت عيناها تحملان طيف دمعة، بينما كانت أرنبة أنفها تشي بنشيج وشيك، فألقيتَ بنفسك في حضنها هارباً من توحّدك، مشيحاً بوجهك لئلاّ ترى الدمعة المفلتة برغم التماسك، واحتضنتك بقوة، فهل كانت هي الأخرى تهرب من وحشتها وتوحّدها!؟
متأبّطاً وحدتك، فاقداً التواشج مع الزمن كنتَ، وكان الفجر يهيّج في النفس رغبة عارمة في التوجه إلى ساحة القرية ومساربها، لتمرّ على البيوت، والبئر، ومورد الماء، والقبور، والأرض المفلوحة، والبيادر! كلُّ شيء كان يدعوك لأن تراه، وتلمسه لآخر مرة! ومن الأعماق شاط حنين حارق إلى الرعاة يضيعون في رهج الضياء! ولكن أيّ جدوى لتلك الأمنيات بعد أن باع أبوك النعجتين، والكبش، والعنزة الوحيدة!؟
كسوف مفاجئ في الشمس، وخسوف في القلب!
أن تعتلي ظهر "الأحيمر" لتطوف بحـــواف "الزركان" كحـاج، وتنتقل
بين غيضاته وأوديته وتلاله وحجارته وشجيراته وأرضه السبخية، تلك كانت رغبتك الأخيرة الممعنة في النأي! فمن أوصل الأمور إلى الأعتاب الموصدة!؟ ومن دفعك إلى التعلق بحبال السرّة بحثاً عن اندماج تستحيل معه الانفصالات!؟ و هاأنت تكاد أن تجهش، فتلك أشياء لا تخطئها الأذن لندرتها!نعم! إنّه الصوت الأبّح لمحّرك عربة!
وإذن، فقد أزف الوقت!
وبدأ الناس يتوافدون للوداع كأغنيات مبحوحة حزينة! ملتاثاً كنتَ، و مشتتاً، فلم تستطع الإحاطة بتفاصيل المشهد الذي راح يدنو من نقطة اللاعودة حثيثاً! أيدٍ مصافحة، وأخرى تربت على الأكتاف، أو تحتضن القامات والضلوع بشّدة، في محاولة منها لمنع الانفصام المهيمن على اللحظة، أو تأخيره للحظات، والزمن يتشقّق، فتتشقّق معه الشفاه التي تجاهد الكلام من غير أن تجده،ثمّ هدر المحّرك مبتعداً، وبقيت أنظاركم معلقّة بالثلّة البشرية التي راحت تتضاءل، والأيادي الملّوحة التي أخذت تنأى؛ زارعة في القلب انفطاراً وشيكاً، فاعتصرت يداك مسند المقعد بقوّة، وحده"بطّاح" ظل يركض خلف الشاحنة بجنون، وخيلّ إليك أنّ عينيه كانتا تبكيان! وحين غابت اللوحة اليتيمة الممهورة باسم "الجدَيدْة" عن الأنظار، تصاعد نشيج حزين من مركز الذاكرة، واندمجت لوعتك بالمشهد الذي مالبث أن اتّحد بخطّ الأفق!
- 4 -
أيّ سطوة للأمكنة تتبدّى، بحيث تبدو محاولة فصم عرى الاندماج معها معادلة للموت! الزمان هو الزمان أو أكثر قليلاً، لكن المكان اختلف! ولكل مكان بصمته وملامحه, تلك البصمة الواثقة التي تؤكّد ـ في المجتبى الأخير ـ أنَّ النصر صنو الهزيمة في معركة كهذه! صحيح أن ما تصرّم من زمن لم يكن كبيراً, لكنّ ما يجري من حولك كان ـ بكل المقاييس ـ موغلاً في الغرابة! فهناك, في ذلك المدى المترع بالغبار,المتدثر بالنسيان, استلقى الحّي الذي انتهت رحلتكم إليه على كتف تلّة وسيعة, منذوراً لأصابع الهاجرة والإهمال, فنما في خلسة من الزمن, وتوسّع شرقاً, وفي وسطه ارتفع الخزان الذي يمدّ المدينة بمياه الشرب, باسطاً سلطانه على المكان كطائر خرافي هائل!
كانت البيوت الطينية المتناثرة قدام العين بطاقات احتجاج راشحة بالأسى, تستدعي المقارنة بين لوحتين؛ أنْ أين هي البيوت الكبيرة؛ التي كان أبوك يتكلّم عنها!؟ إنْ هي إلاّ أكواخ مهلهلة ترتطم ببعضها,وتستسلم لحواف أزقة متربة؛ شبيهة بعروق شاحبة في جسد منهك؛ فأين اختفت الكهرباء التي تنير هاتيك البيوت, وأين توارت المصابيح التي تضيء أزقّتها!؟
معمّداً بالانخداع الوالغ في الدم وقفتَ تتأمّل الحوش الذي توقّفت الشاحنة أمامه، فيما كّل شيء من حولك يتقصّف وينكسر!
أهذا هو المكان الذي كان أبوك يغزل صورته بمغزل عاشق وله!؟
كــان الحـوش مبنيـاً بحجـارة سـوداء غيـر مليّصـة, فبـدا ـ وقــد عــلاه الغبـار ـ كئيباً وباهتاً, ولم يكن ثمة باب يسدّ المدخل!
ولكن ما الذي أغراكم بتلك المقايضة التي لم تكن تعنّ في البال!؟
كلّ شيء من حولك كان غريباً, غير مألوف, وربما معادياً أيضاً! ذلك أن الدار التي ستطويكم تحت جناحها بدءاً من تلك اللحظة كانت تضمّ غرفة مستطيلة بلهاء، ضيقة وطويلة، تتّصل بغرفة أصغر، ربما كانت في أصل تصميمها مطبخاً! وراحت الألفة المُفتقدة بينكما تكشف لعينيك عيوب المكان تحت ستار مُسبق من الرفض المبطّن! كانت الجدران تنوء تحت وطأة السقف الخشبيّ المحمول على عوارض خشبية، وكانت يد الماء قد خطّت رسوماً غريبة على تلك الأعمدة؛ التي اسودّت بفعل الدخان الناجم عن التدفئة، فازدادت كآبة! أحاسيسك كلها كانت مرهونة لصالح بيت رحب أليف ظلّ هناك،أين منه هذا البيت الموحش؛ الذي يشكو ضيق ذات اليد، ابتداءً بدكّته الإسمنتية التي تنتهي إلى حفرة في الخارج أُعدّت لاستقبال مياه الاغتسال، وانتهاءً بالباب المتداعي ذي الشقوق الواسعة! بيد أن هذا كلّه لن يوازي جزءاً من معاناتك المرتبطة بمشكلة التغوّط، إذْ أن المرحاض ـ الذي عرفتَ اسمه فيما بعد ـ استوى في ركن من الحوش على شكل حفرة في الأرض، متدارياً بزاوية الحوش من جهة،في حين نهضت التلة الترابية؛التي اسُتخرجت من الحفرة نفسها،لترسم ساتره الأمامي من جهة أخرى. وهناك، على بعد خطوات من داركم راحت الأراضي الزراعية تغطّي المسافة الفاصلة بينك وبين أبيك بالأسئلة!
إذن! فمـا الفرق بين هـذا المكـان والقريـة التي تركتموهـا وراءكـم!؟ هناك ـ في القرية ــ كـان الناس سيجتمعون مــن حولكم لمساعدتكم في ترتيب
أثاثكـم، فيما لم يحركّ أحدهم ـ هنا ـ ساكناً! بل أخذوا يراقبونكم من خلف الأبواب المواربة من باب الفضول ربّما! هناك ما كان ليفوت أهل القرية أنكم مُتعبون، وأنّ أدوات المطبخ قد ضاعت بين أثاثكم، فيتسابقون إلى استضافتكم، و إطعامكم، في حين رسم الجيران ـ هنا ـ قطراً لدائرة ما تجاوزوها نحوكم! حتّى التّحية ضنّوا بها! ثمّ ما لبثوا أن أغلقوا أبوابهم، وانصرفوا إلى ما كانوا فيه!
أنت تقرّ ـ مُكرهاً ـ أن هذا الحيّ ليس قرية، برغم علامات التشابه، ولكن أحداً لا يستطيع أن يّدعي التماثل بين ما تراه عيناك، وبين تلك الصورة الموشاة بالألق، التي كان أبوك يرسمها عن القصور الإسمنتية الفارهة،والشوارع النظيفة المُعبّدة،والحوانيت الكبيرة الملأى بمختلف أنواع البضائع، والسيارات التي لا تُحصى، لكي يزيّن لأمك مغامرتكم هذه!
"يا امرأة أطلبي لبن العصفور هناك، وستجدينه في متناول اليد!"
فهل كان أبوك ـ لا سمح الله ـ يغرّر بكم!؟
ما الذي حدا برجل مثله إلى سكنى دار إيجارها اثنتا عشرة ليرة سورية!؟ كانت الدور ـ على حدّ علمك ـ تشاد لسكنى أصحابها، أمّا أن يبني المرء داراً لكي يؤجرها، فأنت لم تكن قد سمعت بشيء من هذا القبيل!
ومن غير أن تشعروا كان الليل قد أرخى غطاء معتماً على الكائنات، فأفسحت أمك مكاناً لنومكم وسط الأثاث المتكوّم بفوضى عجيبة! استلقيتَ فوق فراشك الجديد! كان التعب قد تسلل إلى الأعصاب المشدودة، التي نال منها السفر والقلق، موهناً محطات التماسك، فتوزّعت الأعضاء المُنهكة على أجزاء الفراش، تطلب راحة مرمّمة للخلايا، لكن النوم ـ بعكس ما هو مُتوقّع ـ أخذ ينأى، وراحت الغرفة الضيّقة تضغط على الأعصاب، وشعورك بالعزلة يسفّ روابي النفس العزلاء!
أهي الغرفـة ضيّقـة إلى ذلك الحّد ، أم أنـه القلـب يضفـي علـى الأشيــاء هواجسه ومخاوفه وانكساراته!؟
تساءلتَ، وهرباً من ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق،أخذتَ تتأمّل الأشياء التي كانت تتراءى ضائعة،ذلك أن بضع ساعات – فقط - كانت قد انقضت على رحيلكم عن القرية،لكنّ صورتها ـ برغم الإلحاح ـ أخذت تستعصي على الحضور، فتسرب الخوف إلى أعماق النفس المكروبة يرضّها!
أيمكن لنا أن ننسى بهذه السرعة!؟
انبثق السؤال في الجوف يمور ويؤلم ، لكن ما يحدث، راح ـ ككّل جديد ـ يفرض سياقه الخاص،وفي وقت متأخّر من الليل؛ تغلبّ التعب على الأسئلة القلقة المحتشدة في الرأس، فذهبتَ في نوم مضطرب مُثقل بالكوابيس!
- 5 -
يوماً بعد يوم كانت معرفتك بالمكان الجديد تزداد، لتنتقل العلائق إلى فضاء القبول المضمر! لم يكن ما يحدث بينكما توافقاً، بل كان نوعاً من الهدنة المفروضة عليكما، ربما لأن سفنك كانت تسير بعكس الرغائب، ولم يكن في الإمكان الإعراب عن احتجاج صغير يضّمد العجز المحسوس في الداخل!
غصنٌ ما كان مزهراً في الأعماق، بيد أنه تيبّس! قد يكون أشعة الطفولة التي أخذت تنضج، وتنتقل ـ قبل أوانها ـ إلى عالم الكبار! وقد تكون غربة داخلية أخذت تنمو، وتعتصر كل ما هو غضّ فيك، إلاّ أنك لم تكن تملك غير الاستمرار، فابتداءً بزقاقكم القصير الذي كان ينحدر من الشمال إلى الجنوب بشدة، وانتهاءً بالإعدادية التي فغرت بابها الحديدي البارد لابتلاعك؛ كان كل ما حولك يضغط، وينكأ الجراح الصغيرة!
كان الصف الذي استقبلك ببرود وتجاهل إحدى تلك المنغصات، فلقد انتظم في نسيجه خليط عجيب من البشر ضمّ أبناء الريف إلى جانب أبناء المدينة، ليعسكوا سلوكاً متبايناً تباين الأصول المختلفة التي قدموا منها! وكان التلاميذ القادمون من الريف ينتبذون بأنفسهم زاوية نائية من ساحة المدرسة؛ هرباً من السخرية التي كانت تسحب ظلها على المدرسين والموجهين والتلاميذ، لكن التعويض لا يلبث أن يطّل برأسه عبر التفوق في الدراسة؛ على أساس من التحدي والتحدي المضاد ربما، ولكن شتّان بين التحديَيْن،بين الفجّ المشاكس والهــادئ الحيّي، إذ هـاهـو الأخير ينجح في وضع حــدٍّ لغرور خصمه اللدود، وينتزع منه اعترافاً متذمراً بشرعية وجوده!
الجغرافيا بفضائها الملغّز، وأرضها المحيّرة، وأسمائها العصية على التذكّر، رسمت ـ بدورها ـ دائرة مرصودة حولها، فنشأ بينكما جفاء غريب، من غير أن تتبين طبيعة ذلك الجفاء أو منشئه، فإذا تصادف درس الجغرافيا ذاك مع الساعات الأخيرة من الدوام، فاض بك الكيل، ذلك أن الضغوط التي تنفر من شقوق الملل تتضافر مع استغاثات المعدة الجائعة، وسطوة النعاس، فيضحي التوفيق بين تلك الهزائم الصغيرة، ونظرات المدرّس الصارمة مشكلة بالغة الصعوبة! هذا إذا لم تتدخل عصاه في حل الإشكال الصغير بدلاً من عينيه المتربصّتين! وهاهو الجوع يضغط، والحركة في الجسد الغضّ تطالب بمجالها الحيوي، فيما ينقل السأم مشاعرك إلى خانة الإحباط، فتبدو تلك العذابات الصغيرة بلا نهاية، لكنّ المربع البليد يطلق سراحك أخيراً، فتتنفّس الصعداء، وتتخذ سمتك نحو الجسر الذي يصل حيكم بالبلدة! كان ذلك الجسر يفرض ضريبته على المارة، فلقد كانت السيارات التي تعبره تَشمُ أولئك المارة بنصيبهم من الغبار صيفاً، وحصتهم من الطين المتطاير عن عجلاتها شتاءً! غبّ الجسر كانت أقدام التلّة التي يربض عليها الحي تنهد بك إلى خاصرة ساقية؛ لتستريح بجوارها بعضاً من الوقت، متلهياً بالتطلّع إلى كوخ المجنونة "مارين"، المستلقي بإزاء خزان الماء كعلامة فارقة، فتتداعى لحظات اللهو الحمقاء متّكئة على عبث طفولي فظّ، إذْ ما تكاد المسكينة تصل إلى كوخها، إثر جولتها في أزقة البلدة، حتى تهاجمونها بقسوة، ليشهد المدى الممتد بينكم معركة حامية سلاحها الحجارة والشتائم، فلا تجــد فرصة للهدوء والراحـة غبّ يوم مـرهق! أمّا مـن هـي "ماريــن"!؟ ومن أين جاءت!؟ ومـن الذي أطلق عليها لقب "سيبورة"!؟ هل لها أقارب مثلاً!؟ فإنّ عالم الطفولة الشقية ما كان ليأبه بمعرفة الأجوبة،ثم أن أحداً لم يكن ليستطيع أن يضيء تلك البقع المعتمة من حياتها! أطفالاً كنتم، وما كان لشيء أن يقف في طريق لهوكم!وحين كانت "سيبورة" تمضي جلّ نهارها متنقلة من زقاق إلى زقاق؛ مسبوقة بثيابها الرثة المتباينة الألوان، كان الطريق يقودكم إلى كوخها لتلصّوه، إلا أنكم ما كنتم تعثرون على أي متاع خَلا دكّة خشبية قليلة الارتفاع، يعلوها فراش رثّ مغطّى بقطعة جلد صناعيّ تمنع عنه البلل، فيركبكم الحنق، وتروحون تبعثرون متاعها الزهيد، ثم تتخفون في انتظار عودتها! إنكم تتحرقون شوقاً لمعرفة ردّ فعلها على مزاحكم الثقيل، وهي توشك على إنهاء جولتها، ربما لأن بضعة قروش قد انتهت إلى جيوبها، لكنها تتفاجأ بالأثاث المتناثر حول الكوخ، فتتلفّت حولها، وهي تشتمكم في أصولكم والفروع، إنها تعرف بأنكم متخفوّن في مكان ما، لكنها لا تعرف أين! فتنتظر متربّصة لأنها متأكّدة بأنّ أحدكم سيفقد السيطرة على نفسه، وتفلت منه ضحكة مكتومة تدلّها على مكانكم، وعندها ستنخرطون في معركة جديدة غير متكافئة؛ لا يعلم نتائجها إلاّ الله!
كان سكان الحيّ يشكّلون خليطاً غير متجانس، بعضه يستمدّ دمه من نزيف ريفيّ مستمّر عن المناطق المجاورة، في حين تضخ المحافظات الأخرى بعضه الأخر، ولم يكُ الأمر ليخلو من ملامح غير واضحة لتجمّع منسجم القوام عندما يكون ذلك متاحاً! أما غالبية سكان زقاقكم فكانوا قد قدموا من ريف "حلب"؛ هرباً من الحاجة التي سرقتهم من قراهم، وبعثرتهم "كحواجين" في المنطقة الممتدة بين "الحسكة" و "الموصل"! وكان البقية يتوزعون على أعمال موسمية كما هو حال المناطق الزراعية عادة، فلقد كان قسم منهم يعملون كعتّالين في موسم القمح أو القطن، فيما اتكأ البعض منهم على شهادة محو الأمية للعمل كمستخدمين في المدارس والدوائر الرسمية، أما الذين حُرموا من هذه وتلك، فلم يجدوا بدّاً من تحويل غرفة من غرف دورهم إلى"دكاكين"؛ أخذوا يبيعون فيها شيئاً من الخضار أو السكر أو الصابون، من غير أن تنقطع أواصرهم بالقرى التي انحدروا منها تماماً، إذْ أنّ بعضهم كانوا قد تركوا وراءهم قطعة من الأرض؛ راحوا يستثمرونها بأنفسهم أو بوساطة مزارع!
وسط ذاك الخضّم أخذ أبوك يتفكّر في مهنة مريحة؛ تعينه على العيش من جهة، ولا توهن قلبه المريض من جهة أخرى، فقلّب الاحتمالات على وجوهها،بيد أنها لم تكُ تخلو من وجه كالح لا يتناسب ووضعه الصحي، ولمّا لم يقع على جواب مناسب، هدته أمك إلى الحلّ، فلم ينتظر طويلاً، بل عمد إلى باب الحوش يوسّعه، ثُمّ بنى بجانبه ـ من الداخل ـ ثلاثة جدران، ورفع فوقها شمسية من أكياس الخيش المشدودة إلى عوارض خشبية، وأخذ يعرض فيها الخضار نهاراً، أمّا في الليل فكانت أمك تعمد إلى إدخال بضاعته خشية أن تُسرق، إذْ لم يكن ثمة باب لدكانه!
بتعثّرٍ كان الرجل يبحث عن ظلّه، ويحاول أن يمسح عن حياتكم الصدأ، في انتظار الأيام الحبلى بالتوقع!
- 6 -
شيئاً فشيئاً كانت التفاصيل تنمو، وتنفتح لك مغاليق المكان، ويتكامل المشهد في المخيّلة، فعند تزاوج "الخابور" بـ "الجغجغ"، أو قبله بقليل؛ انزوت البلدة على استحياء؛تخفي ضآلتها وصغر سنّها بين المدن القديمات! كان الأول يتقدّم من الشمال الغربي، ثمّ ينعطف شرقاً ليخطّ حدودها الغربية والجنوبية،بينما كان الثاني يتهادى نحو الجنوب مترسماً تخومها الشرقية!
وفي أصل من ذاكرة الكبار كانت "الحسكة" مجموعة بيوت قليلة العدد، اجتمعت على خدمة الثكنة العسكرية؛ التي ابتناها الفرنسيون على شاطئ "الخابور"، غير أنّها اليوم تتمدد داخل أضلاع مثلث وادع؛ ضلعه الأول يمتد من ثكنة الهجانة غرباً، وحتى الثكنة العسكرية شرقاً، مروراً بالسجن، ودار المحافظة، أمّا ضلعه الثاني فيتّخذ سمته من ثكنة الهجانة جنوباً، لينطلق نحو ملجأ عسكري؛ بناه الفرنسيون على شاطئ "الجغجغ" شمالاً، في حين يعتقل الضلع الثالث ـ الذي ينطلق من ذلك الملجأ باتجاه الجسر المبني على نهر "الجغجغ" ـ المدينة، متمّماً دارة ناقصة تتخلّلها الفجوات غير المبنية بعد!
قد لاتكون المفردات كثيرة، بيد أنه لاشيء يستطيع أن يغيب عن الخطا اللاهثة وراء تفاصيل جديدة تضمّها إلى مخزونات الذاكرة، إذْ هاهي الأقدام تلوب في الأحياء الثلاثة التي نمت حول البلدة بسرعة؛ مستمدّة نسغها من نزوح ريفي لاينضب! إلى الشرق، وعلى الطريق الذاهب إلى "الهول"، فالحدود العراقية؛ كان حي "العزيزية" يتكوّم بإهمال وكسل، متطلعاً إلى اللحظة التي يُخدَّم فيها كالبلدة! وإلى الشمال من المركز كان حي "تل حجر" يرمق البلدة بعين حاسدة، ربما للسبب ذاته! أمّا إلى الجنوب، فقد ترامى حيّ "غويران" عند أقدامها، مستأثراً بالعناية والتنظيم، ربما لقربه من البلدة، أو لأنّ غالبية الموظفين القادمين من المحافظات الأخرى كانوا يستقرون فيه!
ثم راحت الأيام تتصّرم، وبتصرمها أنشأ المكان ينتقل من مناخ المهادنة إلى مناخ القبول تدريجياً، بحيث لم يمض وقت طويل حتى أخذتَ تقرّ بأنك تعلمت الكثير من الأشياء فيه! فأنت لا تنكر بأنّ أترابك في الحيّ هم الذين علمّوك السباحة، وإذا كانت المسألة تبدو عادية اليوم، إلا أن اللحظة الأولى ـ التي استطعتَ أن تضرب الماء فيها بيديك وقدميك ـ ستظلّ لحظة استثنائية مطبوعة في ذاكرة الطفولة! حدث الأمر ذات صيف، ولذلك فإنك تنتظر الأصياف المدهشة بفارغ الصبر! ثم أليست تلك الأصياف هي الفصول التي تغلق فيها المدارس أبوابها!؟ أما كيف وقعت المعجزة، فأنت لم تعد تتبين الأمر بوضوح! مرعوباً كنتَ، وكنتَ ترفض الخوض في الماء، وإذا امتدت يد أحدهم إليك ممازحة، تراجعتَ هلعاً، بيد أن التكرار والتشجيع أفقداك حذرك تدريجياً، وشيئاً فشيئاً أخذت تخوض في أماكن أكثر عمقاً! في ما بعد طغت رغبتك على الوجل والتردد إلى أن طفوتَ! ولم تصدق ما حدث ابتداءً، لكن المحاولة الثانية أكدّت لك حقيقة ما حصل، فخفق قلبك الصغير من الفرحة!
كانت كرة القدم معروفة في القرية أيضاً، بيد أن الكرة التي كنتم تلعبون بها ـ هناك ـ كانت عبارة عن لفائف من الأقمشة البالية، بحيث لم تكن قابلة للدحرجة الحرة، كما أنها سرعان ما كانت تتفكّك بفعل الركل، وعليه فأنت مضطر للإقرار بأن الفضل في انضمامك إلى فريق كرة القدم؛ إنما يعود إلى أترابك في الحيّ، وأنك تجرّعت ـ مع هؤلاء الأتراب ـ مرارة الهزيمة، كما تذوقّتَ معهم حلاوة النصر، فأخذ اندغامك بالمجموع يتنامى شيئاً فشيئاً! لكن ما أذهلكم عن أنفسكم تماماً؛ كان يوم أن اكتشفتم صالة السينما المعتمة، فهناك، في تلك الصالة المدهشة تفتّحت حواسكم على عوالم بالغة التنوع والغرابة، عوالم حالمة رهنت أفئدتكم لمصلحة حالة من التماهي العجيب، فأخذت أبصاركم الحائرة تتابع مصائر وحيوات أبطالكم الُمحببّين بجوارح الطفولة البريئة؛ التي لم يُخطّ عليها الكثير بعد! ليسجل المؤشر في خوافقكم تمزّق الأحاسيس بين العواطف والأهواء المتباينة والمتناقضة! إلا أن ذلك الهوى ـ الذي كان في طريقه إلى الإدمان ـ كثيراً ما كان يصطدم بصعوبة تأمين ثمن التذكرة، فيفوتكم أن تروا "عنترة بن شداد" وابنة عمه "عبلة"و"هرقل الجبار" و"أوليس" و "طرزان"، وقردته المدهشة "شيتا"! ثم أنكم لستم مشاهدين سلبيين، إذْ قد يحلو لكم أن تعيدوا تشخيص ما استأثر بألبابكم على الشاشة البيضاء، فيروح أحدكم يتقمص دور "طرزان"، ويتوارى خلف نبتات السوس والإثل المنتشرة على ضفاف "الجغجغ"، بانتظار أن يجيء الوحش! وربمّا عنّ لكم أن تنقسموا إلى معسكرين متناحرَيْن، يضم الأول البطل ورفاقه على قلتهم، بينما يضم الثاني الملك الشرير وأتباعه، فتقعقع السيوف المصنّعة من الأطواق التي تُلفّ بها أكياس الخيش، والتروس التي كانت في الأصل قطع صاج دائرية أو بيضوية، في حين تتكفل الأشرطة المطاطية بحلّ مشكلة الأقواس والسهام! تشتد المعركة، فيزخ عرق الطفولة، وتقفز القلوب الغضّة عن الصدور، لكن النصر يمشي في ركاب البطل من كلّ بدّ، ذلك أنّ النهاية في الفيلم جاءت على تلك الصورة! والآن!؟ كيف تتدبّرون ثمن التذاكر!؟ تتفكرون، وتشبعون الموضوع تفكيراً، وتيأسون، وتكاد خطاكم الغضّة أن تتفرّق يائسة، إلا أن الحلّ ما يلبث أن يومض في فضاء الذاكرة! فهناك، بإزاء الدرب المتلوّي في طريقه إلى جبل "كوكب" كانت قمامة المدينة تنهض على شكل تلّة وسيعةغير مُنتظمة؛ يطلق عليها أبناء الحيّ اسم "الزبالات"! إنّها المكان الوحيد الذي يمكنه أن يمدّكم بثمن التذاكر !هناك،كنتم تجدون أكواماً هائلة من القمامة التي تضمّ خليطاً عجيباً من قشور البرتقال والطماطم المتعفّنة، وقشور التفاح والموز، وفضلات الأطعمة، ونوى التمر، والورق المُستهلك، والزجاج المكسور الذي كان يغطّي النوافذ أو الأبواب، والزجاجات الفارغة، والكؤوس المكسورة، والأواني النحاسية، أو تلك المصنوعة من "البافون"، وعلب الأدوية الفارغة، وبقايا الخضار والأحذية الجلدية أو البلاستيكية، ومزق الثياب، والمصابيح الكهربائية التي كانت تنير الشوارع والبيوت ذات يوم، وأعقاب السجائر،والأدوات البلاستكية التي لم تعد صالحة للاستعمال، وبقايا الحبال والقنّب! كان الرماد يغطّي كل شيء، وأسراب الذباب تسدّ الأفق، بيد أنّكم ما كنتم لتأبهون بها، ولا بالرائحة الكريهة المنبعثة في كلّ اتجاه، فما يهمّكم من ذلك الخليط ، يتلخصّ في آنية نحاسية، أو مداسات بلاستيكية كانت تعطيكم بطاقة مرور إلى صالتكم تلك!
لم يكن حجم القرية، ولا طبيعة العلاقات بين أهلها تحيجهم إلى تكتلاّت كتلك التي عرفتها في البلدة، حيث الناس لا تعرف بعضها البعض، وحيث الميول والمشارب والأهواء والبيئات تختلف، لينضوي صبيتها تحت راية عصابات صغيرة بحسب أحيائهم، عصابات تضع حماية الحّي من صبية الأحياء الأخرى نصب أعينها! صحيح أنّها قد تتجاوز حدود تلك النوايا بفعل الإحساس بالقوة، لكنها ـ في النهاية ـ تتواضع على خطوط عامة لا تتخطّاها غالباً، فهي لا ترى تثريباً في التقاط بعض من أعقاب السجائر داخل صالة السينما المظلمة ، أو التسلّل نحو شاطىء "الجغجغ" من أجل السباحة في مياهه المالحة ، أو توجيه ضربة تأديبيّة ضدّ عصابة من عصابات الأحياء الأخرى، بيد أنّها لا تسمح بالسرقة، أو الإقدام على عمل مشين مثلاً!
وهاهو اليوم يمضي قدماً نحو نهايته،ولم يبق شيء يستطيع أن يبعث في نفوسكم الإحساس بالنشوة والسرور؛ لم تقدموا على اقترافه تحت ضغط الإحساس الطفولي بالحياة، وحان وقت عودتكم إلى بيوتكم التي غبتم عنها طويلاً! لكن مشكلة صغيرة تعترض تلك العودة، وتهددّ متعتكم بنهاية غير سارة، إذْ من يقنع أمهاتكم بأنكم لم تسبحوا في مياه "الجغجغ"، بعد أن تركت بصماتها المالحة على شعوركم وسراويلكم الداخلية!؟ وما السبيل إلى إقناع أولاء الأمهات بأنكم كنتم تلعبون في الظّل، بعد أن وشمت الشمس جلودكم الغضّة بوشمها!؟ بل ما الطريقة لإقناعهنّ بأن الجروح التي خلفّها الزجاج المكسور في أقدامكم، أو أيديكم وقعت لكم في مكان آخر؛ لا علاقة له "بالزبالات" المحظورة عليكم !؟ وهرباً من تلك الأسئلة الممضّة التي ما كنتم تلاقون لها إجابات فورية، فإنكم ما كنتم ترون بأساً في قضاء بعض من الوقت عند السيد "علو "! و "علو" ـ هذا ـ رجل في نهايات العقد الخامس من عمره، لا يعلم أحد ـ على وجه التحديد ـ من أين جاء! كان شعره المصفّف إلى الخلف يتكشّف عن الجبهة قليلاً؛ يخالطه شيءً من البياض، فيما كان وجهه المكرمش يشي بآثار الزمن! بيد أنّ العلامة المميّزة التي أعطته شهرته الواسعة تلك جاءته من شاربه الطويل المعقوف نحو الأعلى! ذلك أنه كان يبذل الكثير من وقته وعنايته لذلك الشارب، فيروح يصففّه، ويدهنه، ويتأمله بكثير من الإعجاب، بحيث راح البعض يراهن على أنّه يدهن شاربه بالسمنة العربية، في حين راح البعض الآخر يقسم على أنّه يدهنه بدبق التمر!
كان "علو" يلحم صفائح الجبن المُملّح للناس، فيدفعون إليه ببضعة قروش تقوم بأوده، ورغم أن قصته تبدو عادية في حيثياتها، إلاّ أنه بقصد منه، أو من غير قصد، كان قد دفع بالأمور إلى حدودها القصوى، فهو لم يكن يقيم في دار كبقية خلق الله، بل اتخذّ من المحرس العسكري الذي بناه الفرنسيون عند جسر "الجغجغ" مسكناً، ولم يكن لداره تلك نوافذ بالمعنى المألوف للكلمة، إذْ استُبدلت بشقوق طولانية تمكّن المتمترس في الداخل من النظر! كما لم يكن لها ثمة باب، بل فتحة ضيّقة منخفضة كان "علو" يسّدها بلوح من التنك في الليل! وكان الدخان الناجم عن اللحام يغطّي الجدران؛ باسطاً ظلّه على المتاع النزر الزهيد! بقي أن تأتي القصة على تتمّتها، وتحاول أن تجيب عن السبب الذي حدا بالأمهات إلى تهديد أولادهن بذلك المسكين، من غير أن تستطيع إحداهنّ أن تقدّم تفسيراً مقنعاً لتلك النقطة! ألأنّ الرجل كان يربّي مجموعة من كلاب الصيد في كوخه مثلاً!؟ أم لأنه كان غامض الهوية للناس، مجهول الماضي!؟ هل كان " علو" صياداً قديماً؛ يدفعه هوى متأصل إلى تقديم كلابه على نفسه في المأكل والمشرب!؟ لكن تلك الأسئلة ستظل سرّاً مستعصياً على الناس، ربما لأن أحداً منهم لم يكن قد كشف في الرجل ما يضير، بل أنه على العكس كان كثير المزاح، محبّاً للأطفال، وكثيراً ما ارتفع صوته بأغان تركية رخيمة، فهل كان " علو" تركيّاً ألقت به يد الترحال على ضفة " الجغجغ"، أم أن الأيام العاتيات هي التي بعثرت فقرات عمره بتلك الطريقة!؟ بيد أن الوقت أخذ يتأخر، ولم يبق أمامكم إلاّ أن تعودوا إلى دوركم، إذْ ليس من المعقول أن تبيتوا ليلتكم في الكوخ، ولا بدّ من المجازفة! ثم أنكم متيقنّون ـ في النهاية ـ من أن قلوب أمهاتكم ستلين، وعندها فإن تلك القلوب ستميل إلى تصديق أكاذيبكم برغم المظاهر المكذّبة، فتعودون، وأنتم ترددون في سرّكم أن لا بدّ مما ليس منه بدّ!
“ الشتاء “
- 1 -
الغيوم تندفع نحو الفراغ المتبقّي في القبة الزرقاء، ترسم أشكالاً خرافية، وتحجب الشمس الغاربة!
والمطر بوّابات تدفّقت تكسر حدود المدينة، تدغدغ رحم الأرض، وتهيّئها لانبعاث جديد!
غاضبة ومزمجرة اندفعت السماء تصبّ ميازيبها، فخوت الشوارع كشرايين شاحبة هجرتها الدماء، وأغلقت المتاجر أبوابها، وتسرّب صمت مبلول ينفي موران المدينة الصاخب إلى كهف الموات، ولم تبق كوى مفتوحة على بداية الليل؛ خَلا بعض المتاجر ذات الواجهات الزجاجية، التي احتجز المطر قسماً من أصحابها، ومنعهم من العودة إلى بيوتهم، بينما تأخّر بعضهم في الإغلاق على ظنّ منهم بأنّ ساعة الحظ مجهولة! ومع إيغال المساء في ليلة شتائية باردة، أنشأ الأفق الغربي الموشّى بالحمرة يميل إلى الدكنة، في حين كانت قدماك ما تزالان تجرّانك خلفهما من شارع إلى آخر، بحثاً عن زبون يقبل أن يشتري منك ورقة "يانصيب" أُخرى، فتغيب داخل أحد المقاهي وراء رائحة الدخان الممزوجة بعبق الشاي الدافئ، وتطلب إلى أحدهم أن يشتري منك بطاقة، لكنه يستشيط غضباً،وينهرك النادل، فتضيع فرصتك في التمتّع بشيء من الدفء، وتخرج!
ثانية يتلقّاك الطريق متلفعاً بالبرد والمطر،باحثاً عن ملجأ يقيك من البلل! أصابعك الراشحة بالبرد لم تعد قادرة على الإمساك بأوراق "اليانصيب"، فتبدّلها بأصابع اليد الأخرى، وتُدخل الأولى في عبّك، منتظراً من الطبيعة أن تتراجـع عـن حصـار الكائنـات ، لكنّها تأبى، فتقـف مـوزّعاً في مدخل أحد الأبنية!
هل تعود إلى البيت، أم تقصد ثلّة الشباب الذين كنتَ قد تعرّفتَ عليهم مؤخراً؟ وعندما يمرّ أحدهم، تنادي على بضاعتك، بيد أنه لا يلتفت، فتبتسم بمرارة!
من يتوقّف في جوِّ كهذا لشراء بطاقة!؟
قدماك آخذتان بالتجمد؛ بعد أن نجحت المياه في التسلل إلى الحذاء المثقوب، وهاأنت تخرجهما بصعوبة، وتدلكّهما بحثاً عن شيء من الدفء! لكن الوقوف في تلك الزاوية يعييك، ولا أحد يجيء، فلا تجد بأساً في ولوج مقهى آخر وراء رائحة الشاي والدفء الإنساني المُستمّد من الشعور بالتواجد مع الآخرين! إلا أن اليوم الطويل والبرد يفعلان فعلهما في الجسد المنهك، فيداهمك السغب، ولا تعود قادراً على الاستمرار بعد، فتعبر الشوارع نحو مقهى "الشباب" حيث ثلة الشباب تلك! وحين تدنو من المكان؛ تلتقط أذناك تتمة الحوار المحتدم!
ـ أليست نذالة ما بعدها نذالة!؟ ما البطولة في أن تجتمع دول ثلاث على مدينة واحدة!؟
يتصاعد الدم إلى الوجنات!
ـ ولكن أين هي مشاركتنا نحن!؟
وتأخذ الآراء الممسوسة بغضب خفيّ بالتباين، فإذا هدأ الإعصار، وعادت إلى الحوار لفحة الهدوء، تنحنحتَ على استحياء، وتغلبّتَ على خجلك مستفسراً!
أنْ ما هي قصة "بور سعيد" هذه!؟
فيتوقّفون هنيهة، ثم يبتسمون، لقد رؤوك أخيراً، وهـاهم يحدثونك عن
المدينة التي هاجمها الصهاينة والإنكليز والفرنسيون؛ من غير أن تجد الكلمات لنفسها معادلات موضوعية، وتتحرّج من السؤال ثانية، لكن علامات الاستفهام الممتدة بينكم تفصح، فيتسابقون إلى الإيضاح، وببطء عشب يتململ تحت الثلج، يأخذ الفهم بالدنّو، فما تعود تلك الأغاني التي تذاع مراراً، والتظاهرات التي اجتاحت البلدة في الآونة الأخيرة ضّد حلف بغداد سديماً ملغزاً، وتشعر بأنك تحتاج إلى استعادة الحديث كلمة كلمة حتى تفهم جيداً!
ـ أن لا شيء كالألم يجمعنا! لقد قالها الأقدمون: "آخر الطب هو الكيّ"! ويبدو أن لا بديل لنا عن الوحدة!
ويشتعل أحدهم بالحماسة:
ـ فعلها أبو خالد، وأمّم القناة!
ـ بل قل فعلها العمال السوريون الذين فجّروا أنابيب النفط كي لا يستفيد منها العدو!
ومع تقّدم الحوار كان شيء ما تحت الشغاف يتململ، يتكسّر الكلام، يتثلّم، ويتوّقف، ثم يعود متدّفقاً!
ـ وكيف تريد للوحدة أن تتحقق بين أنظمة مختلفة، الإمارة هنا، والسلطنة هناك، و … !؟
يصيب الكلام مقتلاً، فتتحول الأعصاب إلى سهام قيد الإطلاق، ويتوتر الجو منذراً بالانفجار، ويحلّق الدخان مهوّماً!
ـ قل إنك ضد الوحدة!
ـ يــا أخي المسألة ليست على نحو ما ذكرت، ولكن قل لي أنت، كيف نتحّد مع الجزائر المستعمرة، أو محميات الخليج!؟
يوغل الكلام في مدار الاتهامات، وتتشعّب الردود، فتصعب عليك المتابعة، وتتساءل:
من أين يأتيهم كل ذلك الحديث المنمّق!؟
لكن الكلام يهمد دفعة واحدة، وتصافح المياه الشواطئ بوداعة صلح غير معلن!
ـ هه! ألم تجد عملاً بعد!؟
يتوجّهون إليك بالسؤال بعد صمت!
ـ آه! من أين يا صديقي!؟
وتلتمع العيون ثانية، ويتوهج الدم في الأوردة، يسقط الهدنة المُضمرة!
ـ أين الدولة مما يحصل!؟
تتداخل الآراء، فيما تتساءل ـ أنت ـ في سرّك مندهشاً!
ما علاقة الدولة بالموضوع!؟
إلا أنك لا تود أن تفقدهم، فتفقد بذلك حسّاً نامياً بالتعاطف، باندماج الفرد في المجموع، فتروح تسأل، وتقرأ، وتمحّص، وبمرور الزمن تبدأ الصورة تنهض على عودها، وتجد الكلمات لنفسها ماهيّات!
كان الليل يتقّدم منذراً ببرد قارس، فاستأذنتهم في الانصراف، ونهضتَ! الأضواء تنعكس على صفحة الرصيف المغسول، وحبة المطر ترسم في محيطها فقاعة دائرية، والشوارع تتشّح بالوحشة والخواء، وأنت تغذّ السير محتمياً بالجدران والشرفات ما أمكن، وبرغم البرد والبلل راحت الذاكرة تغزل في حلمها صورة ما يجري خلف تلك الجدران من اجتماع العائلة حول الموقد! الأطفال يلعبون فوق البساط الصوفيّ الدافئ، بينما تلتف يد الزوج حول كتف زوجته!
مسكوناً بالرعب عبرتَ الجسر! كان النهر يصطفق هادراً، والريح تعول في الظلام كذئاب جائعة، فراحت الذاكرة تستعيد الحكايات المرعبة التي كان الناس يتداولونها ؛ عن عصابات مجهولة تعترض السابلة في طريق عودتهم، وتسلبهم ما في جيوبهم، ومن يدري، إذْ ربما كانت ستسلبهم حياتهم أيضاً، لولا ستار الظلام الذي كان يحميها من الانكشاف، وأخذ الخوف يسري في الفقرات المتوجّسة المتأهبّة لتلقّي طعنة غادرة، فيما بدت خطاك مُضخّمة، وغريبة عنك!
كانت بدايات الحيّ غارقة في ظلمة موحشة تنداح على الأزقة والبيوت والمفاصل، تحيل بمجملها إلى حالة شبيهة بالهدوء، لكنّها ليست هدوءاً بمقدار ما هي استكانة أو انكسار! وبتؤدة حاولتَ أن تتجنّب برك الماء والطين التي تناثرت في الدروب الترابية الضيقة، لكن نباح الكلاب لم يترك للأعصاب المشدودة فرصة للراحة إلى أن وصلتَ! كان باب الحوش منتفخ الأوداج بفعل الرطوبة، فدفعته بصعوبة!
ـ من !؟
ـ أنا يا أماه!
وانتشر ضوء "اللمبة" الشاحب مرخياً على الأشياء كآبة قد لا تكون في أصلها، بقدر ما كانت النفس المسكونة بالهواجس هي التي تراها من خلال كربتها بتلك الصورة! وببطء، بغير ما شهية أخذتَ تلوك العشاء المُكوّن من البطاطس المقلية بالزيت؛ بعد أن سخّنَتها أمك، ثم اندسستَ في الفراش، وشيئاً فشيئاً أخذ الدفء يشيع في الجسد، والأطراف المُتعبة تسترخي غبّ يوم بارد، فتدافع شريط غير منتظم من الذكريات؛ مستغلاً حياد الإرادة الواهنة، بيد أن النوم ظلّ ينأى، ربما لأن وقع مياه الدلف المتسرّبة عن السقف في الآنية بقي يضغط على الأعصاب مناكفاً!
ـ أمّاه، لماذا لا تبعدين هذه الآنية، إنّها تمنعني من النوم!؟
ـ لأنّ المياه ستغرق الأغطية يا بنيّ!
وأغمضتَ عينيك على دوار مميت! سنوات بائسة من عمرك كانت قد تسرّبت من بين أصابعك بسرعة! قد تكون قليلة في عددها، ولكنها نقلتك من سنّ الطفولة إلى سنّ الشباب، بعد أن اقتنص الشحّ وضيق ذات اليد بهجة تلك السنّ وزهوها، وترك لها الخيبات والأحلام المخفقة وأوراق "اليانصيب"، التي ظلت عالقة بجلدك كوشم!
كانت صورة القرية قد بهتت، إذْ كان ثمة مسافة طويلة تفصلك عنها، مسافة تقاس بما تركته في الروح من أثر ربّما، وربّما بما استجّد من أمور في الأفق، وما أكثر جديدك في تلك الفترة! ذلك أن المرض كان قد شدّد من هجمته على أبيك، وما كان الدواء رخيصاً، وحين راح الشفاء يعزّ، وأظهرت الأيام لكم وجهها المربد؛ تركتَ المدرسة في منتصف المسافة، فيما اضطرت أمك للعمل في الحقول المجاورة للبلدة، وفي الوقت الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ ما تنفّك تفقد بريقها على مذبح الأيام راحت الصرخة من مختلف أنحاء الجسد المتعب تعلو، فهل كنتَ ـ حقاً ـ قد قدمتَ إلى هذا العالم خطأً!؟
- 2 -
في الوقت الذي كان البلد يمور ـ فيه ـ بالحركة، وكلّ مواطن يشعر بأنّه قد أسهم في إسقاط عقب " الشيشكلي" العاتية، بعد أن رزح الناس تحتها طويلاً، ويحقّ له أن يصرخ بملء فمه، أو يجهر بما يريد، كنتَ أنت خارج السياق وحيداً مع مشكلتك، فراحت خطاك التائهة ترتطم ببعضها فوق الأرصفة، تلوب على غير هدى! ومع الجواب الذي تلقيّته من الدائرة الرسمية قبل قليل "أنْ لا يوجد عمل" أخذت المساحات بين اندفاعات الذات المقهورة والواقع تغتال أحلامك!
خفق الفؤاد حزنٌ يهدر متمرّداً على مدار الصمت، محتجاً على فداحة الخسران، فيما كل شيء من حولك أخرس، محايد، وحادٍ كمشرط، وبغير ما هدف راحت الأزقّة تسحبك خلفها، لتدور وتدور، تتقّدم حيناً، وتترّدد، وتحجم! ثم تحزم أمرك ثانية، وتقصد دائرة أخرى، لكن الإجابة ذاتها تصفعك! فتخرج من المبنى الرسمي متداعياً، منكسراً، ذاهلاً عمّا حولك!
أين تذهب الخطا المتعبة، وفي العالم كل هذا الخواء!؟
بيد أن الزمن ما كان ليقدّم أجوبة شافية وفورية، فترتد إلى أوراقك كسيراً، فيما الأماني تتضاءل! ومن حولك كانت الأمور تأخذ إيقاعاً مختلفاً، بحيث راحت تلوح للناظر ممسوسة بعصا سحرية، وأنشأت الأحلام تكبر مأخوذة بأصداء النصر بين أن يبقى الفلاحون في الأراضي التي كانوا يعملون بها! وأن يُربط الأجر بالإنتاج، وأن تتحقّق "الديموقراطية" لكلِّ المواطنين! كلّ فرد كان يحاول ـ من جانبه ـ أن يبني حاجزاً في وجه الزمن الراشح بالرعب ليعزلـه، ويطــرد آونة الرداءة، إلا أن جدار العزلـة بينك وبين مـا
يحدث أخذ يعلو!
فهل كان ذلك الجدار إحساساً بالقصور عن التواصل مع الجماعة التي لم تمنح لقامتك مداها!؟ أم كان شعوراً بالظلم والفوات؛ من غير أن تستطيع تلمّس مصدر ذلك الظلم بوضوح!؟
لكن الأجوبة راحت تراوغ؛ مستعصية على مداركك المتواضعة، فكنت تمضي مع الأرصفة،في الوقت الذي كانت الحياة فيه ـ تتصرّم ـ صاخبة؛ لا تلوي على شيء!
ـ شدّادي، مَرْكدة! شدّادي، مَرْكدة!
يرتفع صوت دلال المرآب، وتنطلق السيارات بسرعة البرق؛ تمزق براءة الصمت، وحياده المخاتل، بينما ثلّة من البدو تساوم بائعاً على صحيفة دبس، نادل المطعم يحمل طبقاً كبيراً ـ فوقه ـ اصطفت صحون عديدة، ومجموعة صغيرة من النساء اجتمعن لشراء الجبن، عربة شاحنة راحت تفرغ حمولتها في أحد المستودعات، واللحّام يصرخ في "صبيّه" موبخّاً، وعلى الرصيف تهاوت أسرة ريفية أمام عيادة الطبيب، وفي انتظاره تمدّد مريضها على الأرض؛ واضعاً رأسه في حجر أمه! الكلّ مشغول بنفسه، ولا أحد يدري ما بك !
ألستَ والبلد شيئاً واحداً!؟
أليس البلد مجموع مواطنيه!؟
أليس الخاص جزءاً من العام!؟
تتساءل وطعم المرارة يسفُّ الحلق، وتتساءل أيضاً!
والآن، إلى أين!؟
لكن المشاعر المتشظّية لاتجيب، والأسئلة تضغط، تجرح المشاعر الكليمة، وتبحث عن يد حانية رحيمة، فلا ترى ملاذاً يخلصّك من الألم غير ثلّة الشباب تلك؛ حيث يمكنك أن تطلب توازناً مُفتقداً، وتتخفّف من الثقل الذي يبهظ كاهلك! لكنك تعرف بأنّ الوقت غير مناسب، ذلك أنهم ـ الآن ـ منهمكون في أعمالهم، فكيف ستتخفّف من تلك الأحمال التي تنوء بها!؟ كيف!؟ وهرباً من الأسئلة المحتشدة في الرأس؛ لا ترى ضيراً في المحاولة؛ بأمل أن تقع على بعضهم هناك!
حين وصلتَ؛ فاجأك دخان كثيف يصعب معه التنفسّ! كان إيقاع النرد يتداخل مع قرقرة "الأراكيل"، والأصوات المبهمة التي تنداح في أرجاء المكان! وفي زاوية قصّية وقعت عيناك على بعضهم، فتنفسّتَ الصعداء، ودنوت منهم متهاوياً على الكرسيّ، متدارياً بتماسك هشّ، لكنه لم يكن كفيلاً بإخفاء حالتك، فكان أن وضعوا أيديهم على الخلل!
ـ ما بك لستَ على ما رام!؟
وكمن كان ينتظر ذلك السؤال اندفعتَ ثائراً مثل بركان حبيس زالت الطبقة الرقيقة من التربة عن سطحه، فتدافع الكلام متشنّجاً؛ مزدحماً بالمرارة والعكر والدموع التي استطاعت أن تفلت رغم الكبح! وشيئاً فشيئاً راح الاحتقان المؤلم يخفّف من غلوائه، والغصّة الجريحة في الحلق ترخي من قبضتها!
ـ هوّن عليك يا رجل!
ربتَ أحدهم على كتفك، فيما انبرى آخر بغضب!
ـ ولكن بالله عليكم؛ أين الدولة مما يجري!؟
وفي غمرة الحوار الذي احتدم، تداخلت الآراء، اشتطّت وتباينت، بيد أنكّ كنت عاجزاً عن الاندماج والتواصل! ربما لأنّ عمرك المنقرض راح يهبّ زمناً أجوف تذروه الأيام، و لا شيء إلاّ قبض الريح، فأنت تريد عملاً حقيقياً، لا كلاماً عن العمل! عملاً يشعر المرء بعده بالتعب، فيلقي بجسده على الفراش لينام من غير كوابيس، بينما ينصرفون إلى معالجة المسألة في إطار هلاميّ، فيتحدّثون عن الدولة، ودور الدولة، واجباتها وحقوقها، متى قصّرت، وأين! كلُّ شيء مكّرر ومُعاد، وألمك الخاص يصدّع النفس، فتنأى ـ بها ـ عنهم، وتنسحب نحو الأعماق، نحو الفقرات الضائعة من تاريخك الشخصيّ! بعد قليل كنتَ تجد نفسك في الطريق مهاجراً أبدياً معمّداً بالتشتّت وانقسام الخلايا! ولأكثر من مرة تُفاجأ بجرمك على قيد خطوة أو أقل من سيارة استطاع سائقها أن يكبح جماحها في آخر لحظة، لأنك كنتَ تقطع الطريق ساهماً، وتسمع ذيل شتيمة أو تحذير أو معاتبة؛ فيما الأشياء تبهت، وتنشرخ ألفتها المستوطنة في العينين والقلب بحكم التعوّد، فتبدو الشقوق ـ التي كانت محطات التماسك تخفيها ـ جلية في جدران البيوت الكابية التي كنت تراها كلّ يوم! وتتساءل بحيرة!
أهي البيوت ذاتها، والشوارع، والأزقة!؟
كل شيء يلوح لك غريباً، صلفاً، ومنصرفاً لذاته، ذلك أن الجواب الذي تلقّيته ما يزال يحفر في الجوف ويؤلم، فتروح الأزمنة والأمكنة والألوان تختلط في شبكيّة الذاكرة، وتحسّ بأنك رأيتَ ما تراه الآن آلاف المرات، وأنّ ما يحدث لك حدث كثيراً من قبل، ربّما في أزمنة غير هذه الأزمنة، أو في حيوات أخرى؛ ويبدو لك مفهوم الزمان والمكان نوعاً من الوهم! وهكذا تظلّ الشوارع تستأثر بخطاك الحائرة عبر الدروب والأزقة والسكك ذاتها من غير أن تشعر، ثم لا تعود السيالة العصبية المُستفّزة تكفي لصدّ التعب، فتخور قواك، ويشهر الجوع سيفه، وعندها فقط تقطع الدروب نحو البيت سغباً، حاملاً وجعك لتصدى به!
- 3 -
حاملاً أملاً مبهماً عن غدٍ مورق، غدٍ أكثر ثباتاً؛ كنت تخرج من الدار كلّ يوم، ورغم أن ذلك الحلم لم يكن يستند إلى أساس واقعيّ ملموس، إلاّ أن الأعماق راحت تنتفض من تحت الركام، مبعدة عن الضلوع مرارة اليأس في محاولة منها للتماسك، أو الإرجاء، فمن يدري! أمّا من أين كانت الروح تستمد ذلك الافترار الغامض، فأنت لم تحاول أن تتفكّر في الأمر كثيراً، بيد أنك ترجّح أنها ربما كانت تمتح انفراجها من اليأس نفسه، لتقودك خطاك خلف ذلك الانفراج إلى مركز البلدة على أمل أن يختلف اليوم عن البارحة!
وعلى امتداد الساحات في تلك البلدان التي عُرفت ـ في ما بعد ـ بالعالم الثالث؛ أخذ الغرب يلملم حوائجه على عجل، ويرحل، فراحت الصحارى والكثبان والغابات العذراء تستفيق، وتنفض عن الجسد المُداس انتهاك الغريب وقسوته! كانت الدماء الزكية تكتب صفحات جديدة في تاريخ تلك البلدان، وتضمّخ أرضها الطاهرة بعبيقها! الآن ـ قالوا ـ يمكننا أن نبكي شهداء هذه الأرض، ونعيد كتابة اسمها في سفر العصر! ومن كلّ مكان راح صوت "عبد الناصر" ينساب عبر المذياع هادئاً، واثقاً، مستفيضاً في شرح دوافع العدوان وأهدافه، بينما أخذت الأحداث تتسارع بشكل يصعب معه التتبع! إذْ هاهي المدارس تغلق أبوابها مستنكرة اعتداء الدول الثلاث على المدينة التي استعصت عليهم، فامتلأت أزقة البلدة بالطلبة الذين أفلتتهم مدارسهم من عقالها، لينقسموا إلى مجموعات صغيرة تبعثرت هنا وهناك بحسب الجنس فعلى الواجهات الزجاجية المزدانة بالثياب الزاهية توزّعت الفتيات ثللاً أشبه ما تكون بباقات من الزهور، في حين تناثر الشبان من حولهنّ، وراحوا يتأملون الوجوه الشابة التي تشفّ بالروعة والحسن، والعيون الناعسة التي راحت تتطلّع إلى الدنيا بدهشة الاكتشاف! القامات مشيقة فيها هَيَف، والخصور ضامرة فيها خَوَص، والأرداف مثلما حقول القمح خصبة وناضجة! أنت الآخر كنت تنساق وراء الصدور الرجراجة،والأرداف العامرة بتوق، ومن مركز الرغبة كان السؤال يشيل!
هل سيكون لك خفراء مثلهنّ يوماً!؟
أيمكن لعالمك القاسي أن يتضوّع بذلك الشذا كلّه!؟واحدة كهذه الجميلة التي تغسل الرصيف أمام بابهم مثلاً !؟
أيّ قدّ هذا الذي راح يفصح عن الحدود المدهشة لمملكة الجسد التي تنغل في الدم!؟
بيد أن أوراق "اليانصيب" ما تني تذكّرك بنفسها، فتتثلمّ الأحلام،وتتكسّر تكسّر موجة وانية على شاطئ صخّري! وتظلّ الأزقة تلحقك بذيلها مُسيراً بقوة غامضة، باحثاً عن لاشيء، أو عن شيء تجهله! تلوب وتلوب إلى أن يهبط الليل، وتزنّ العضلات المرشومة بالتعب، فتعود إلى الدار متكدّراً هامداً! أمّا كيف وهنت رقابة الأعصاب في تلك الليلة، بحيث لم يعد التراجع ممكناً، فأنت لا تملك إجابة محدّدة، إذ قد يكون التعب آنَ يتجاوز العتبة هو السبب، وقد تكون حالة التشظّي الممسكة بجماع النفس، ذلك أنك كنت تروغ عن ذلك الجزء من شارع "الفردوس" عادة، لكنّ الفخ أطبق عليك هذه المرة، وإلى اليمين راح مكتب الحزب الشيوعي يرمي رشاشاً من الضوء نحو الخارج، فأخذت منابت النفس تنضح بحصار نفور، وطفقت الاندفاعات المختزنة في الأعماق تطفو على السطح؛ متأرجحة بين الرهبة والفضول! في البدء أنشأت محطة الرفض تتململ،فهؤلاء الناس يريدون تسليم البلد "للسوفييت"،ومع ارتفاع الهمس إلى تخوم اللغط راح شعورك يصّعّد إلى مرتبة الكراهية،ربّما لأنك ابن تربية زميّتة، وهؤلاء كفاّر لا يقيمون للدين وزناً، كما أنهم والغون في الإباحة! كان اللغظ المثار يضعك على حواف الإقياء،ويثير في بدنك القشعريرة، بينا الطيوف تجول في الرأس كأفراس برية جامحة، مسترجعة الخشوع اللامتناهي للمصلّين من ذاكرة الماضي! تواصل غريب مع المجهول المقدس يُستعاد من زمن الطفولة؛ آنَ كنت ترافق أبيك إلى مسجد القرية حيث الطهارة والنظافة والهدوء! شعور ثالث راح يتململ، ناقلاً العلائق إلى مدارات الفضول في محاولة لاكتشاف ما يمور تحت الجلد، إلاّ أنّ التردّد كان يكبح ذلك الشعور، تردّد يمتح ماءه من كلمات أبيك الفيّاضة بجرسٍ حادٍّ ما يزال يطرق جدار الذاكرة "أنّ من كفر بالله أُدخل جهنمّ، وساء مصيراً، وهل ترى نار المدفأة يا بنّي!؟ إذن، فلا تنسَ بأنّ نار جهنمّ أشدّ حرارة منها بمرات سبع! كلّما احترق جلد الكافر فيها، أبُدل بجلد آخر!" فيتزعزع أمانك الداخلي، ويتقوّض تقوضّ بيت متداعي الأركان؛ فاجأته ريحٌ زعزع!
ولكن، ألا نموت!؟
تسأل، فيجيبك أبوك:
ـ هناك لا نموت يا بنّي! هناك يُدخل الله المؤمن إلى الجنة ليتنعمّ فيها بما يشاء، ويعدّ للكافر عذاباً شديداً، إذ يخرجه من النار ليلقي به في نهرٍ من الجليد، ثمّ ينقله إلى جبل مُضرّس بالأدوات الحادة، ويلقي به من علٍ، فيتدحرج، وتنغرس المدى والشفرات في ظهره وخاصرته وبطنه وصدره!
يا الله!!
تنكمش العضوية في حالة دفاع لا إرادي عن النفس، وينتصب شعر البدن من هول الصورة، وما يكاد أبوك ينهي موعظته متفننّاً في رسم مشاهد التعذيب المُعدّة للكافرين؛ حتى يكون الخوف قد شلّ كلّ شيء فيك، فتنهض للصلاة خاشعاً مواظباً إلى حين! لكن الزمن ـ ذلك الغول المرعب الذي يأتي على كل بريء وجميل ـ يجد طريقه إلى الذاكرة، فتتراخى مواظبتك، تتحلّل، ورغم محاولات التذكّر التي تطلّ برأسها بفعل الخوف المتأصِّل في النفس، يؤازر الكسلُ والطفولة ـ التي تمجّ التكرار والواجب ـ ذلك النسيان، أو التناسي، إلى أن يكون لك مع أبيك موعد آخر!
وبسرعة ابتعدتَ عن المكان، ميمّماً وجهك نحو الجسر، بعد قليل كانت العتمة تغيّب خطواتك، فيما راح ظلّك يتطاول مع ابتعادك عن مصدر النور!
- 4 -
متشبّثاً بذكريات القرية الغافية على مرمى حجر من الحافة الشمالية للحدود السورية كنتَ، كما طفل وُلد في خوف الأزمنة، وظلّ راغباً في العودة إلى الرحم الآمن، فحينما يكون الحاضر لوحة قاتمة الألوان خارج شبكية الرغبة، والمستقبل مُضببّاً بحجاب من القلق والاهتزاز؛ لا يملك المرء إلاّ النكوص نحو الماضي الأثير بحثاً عن السويعات الآمنة المسروقة في غفلة من الزمن! ساعات طويلة كانت تمضي وئيدة وانية، وأنت مستلقٍ على ظهرك تستحضر ذلك الماضي لحظة بلحظة، لعلّ الصدع في النفس المكروبة يلتئم! لكن الطيوف لم تعد أماناً مُطلقاً، لا لأمر خارج عن إيقاع الحدث، وإنمّا لأنّ إدراكاً خفيّاً بدأ يطفو على السطح كبقعة زيت، ويتسّع كاشفاً سراب طمأنينتك الخادعة، إذ لم تكن القرية الجنة التي توهمتها! شبيه طعنة في سويداء القلب فاجأك الاكتشاف، فترنّحتَ، وإثر كلّ حوار مع ثلّة الشباب تلك كانت حصون الماضي ـ بالتتابع ـ تُدكّ، وتتهاوى، فتتشظّى بقعة أخرى من بقاع النفس، إثر انتقالها إلى مملكة المعرفة، أو الشك، أو الحدس المُبهم بأنّ ثمة شيئاً ما ليس على ما يرام! نهماً إلى التعلّم كنتَ، راغباً في معرفة المزيد، في تعلّم كلّ ما يحيط بك، ذلك أنك لم تكن تتصّور بأنّ المعرفة يمكن لها أن تؤلم!
ـ يشاع عنكم الكفر! أخبرني، أما تخشون عذاب الآخرة!؟
وجم "حسين" مُباغتاً بفجاجة السؤال، ثم استوعب الموقف المفاجئ، وانطلق في قهقهة مديدة!
ـ ما رأيك في أن نتمشّى قليلاً!؟
كان الأصيل يهبط فوق البلدة ببطء!
ـ أنتم في الأصل قرويّون، أليس كذلك!؟
أنْ نعم! هززتَ رأسك بدهشة، وأكمل!
ـ وأهل قريتكم يعملون في الزراعة!؟
وبماذا يعمل أهل القرى عادة!؟
هذا ما أرادت النفس المفاجأة بأسئلته الغريبة أن تجهر به، لكنك فضّلت أنْ تتروّى، فكفكفتَ مشاعرك في انتظار التتمة!
ـ ولكنكم ـ كما علمت منك ـ لا تملكون أرضاً زراعية، فهل تساءلت عن السبب!؟
نحن لا نلعب الشطرنج ـ هجستَ، وهجستَ أيضاً ـ وهو يعرف كل شيء عنك، إذْ سبق لك أن كلّمته عن نفسك، فلماذا يتهرب من أسئلتك!؟ ثم أنك لم تكن قد طرحتَ على نفسك سؤالاً كهذا، بل أن أسئلة من هذا القبيل لم تكن قد خطرت لك على بال!
ـ السبب!؟ هكذا! نحن في الأصل لم نكن نملك أرضاً!!
وكمن وضع يده على سرّ مهّم قال:
ـ حسناً! حسناً، ومن يملك الأراضي الزراعية في قريتكم!؟
فأجبته بضيق:
ـ نصفها للآغا، والبقية حصص متفاوتة! هناك أيضاً فلاحون يعملون بالحصة، وهؤلاء لا يملكون أرضاً!
ـ ولكن الآغا لا يقيم في القرية، فكيف آل إليه ذلك النصف، في الوقت الذي لايملك فيه الفلاحون المقيمون الذين أشرتَ إليهم شيئاً!؟
متعجباً من طبيعة أسئلته كنتَ، ومستاءً، فانبريتَ له بصوت عال:
ـ كيف "من أين له" !؟ لقد ورثها أباً عن جد، ثم أنه الآغا!
وما كانت المسألة محسومة بعد، وما كانت واضحة، وكان ذهنك أشبه بغابة عذراء! في ما بعد عرفتَ كم تعب هذا "الحسين" حتى يرجّ الثوابت المعششّة في الرأس، وتحوز الفهم! مكابراً كنتَ وعنيداً، رافضاً أن ينهار عالمك المورق البهيّ من الداخل، لينهض محلّه السؤال:
كل ذلك السوس أين كان يختبئ!
عن سلاطين بني عثمان حدثّك، وعن ولاتهم، فعرفتَ كيف انتقلت الأراضي من نظام الحيازة الإسلامي إلى الإقطاع ذي الملكية الثابتة! وبشكل غامض استطعتَ أن تحدس كيف جرت الأمور في ما بعد! إذْ أن المستعمر الغربي اعتمد على أولئك الآغاوات، ليبقى أطول مدة ممكنة في المنطقة! وبشكل أقلّ غموضاً استطعتَ أن تحدس كيف بقيتم بلا أرض، فبدا هذا الكوكب المسحوق بالأسماء عارياً في ذهنك من غير حجاب، وأنشأتْ صورة جديدة لأبي العبّاس، وأبي سفيان، وابن الحكم، والحجاج، ومعاوية، والرشيد، وابن طولون، وكافور الإخشيدي ترتسم في فضاء الذاكرة!
التاريخ يكتبه الأقوياء!
والحديث يتداخل بالقراءة في سفر الفتوحات، والأراضي المُستصلحة، وقادة الجيش، والاستغلال الذي سبق له أن أثار الزنج والقرامطة وبابك الخرمّي! وقالت عكرشة بنت الأطرش:
لماذا لا تردّ علينا صداقنا يا بن أبي سفيان!؟ فأجاب:
لأن للدولة أموراً أولى وأهمّ! وقالت:
عجباً يا بن أبي سفيان! أكلّ ما فيه منفعة لنا، فيه لكم ضرر!
فردّ متأففّاً:
ما ينفع فيكم يا أهل العراق! فقّهكم ابن أبي طالب!
الآن ـ تفكّرتَ ـ علينا أن نبحث عن قبر أبي ذرّ، ونرثي ابن أبي طالب، وغيلان الدمشقي!
وكأعمى أبصر فجأة كنتَ تترنحّ بين الومضة وصدمة الواقع! ذلك أن تراكم الأحاديث كان قد خلخل الصور المغزولة في الذاكرة ببهائها وألقها، لتحلّ محلها صورة جديدة للقرية، فبدت خارج حيثيات العاطفة أكواخاً مسكونة بالفقر والاستلاب، وراحت الخيوط التي كانت تشدّك إلى القرية الملاذ تتقطّع، فبقيتَ في معدة المدينة رقماً ضئيلاً، مُهملاً، ومجهولاً! هذا لأنها لم تتمكّن من تحويلك إلى إنسان مدينيّ! فترسّبتَ فيها كطعام غير قابل للامتصاص! وهاأنت تمضي فوق الأرصفة كعربة خرجت لتوّها من ضباب كثيف، ربما لأنك لم تعد ذلك القرويّ البسيط كالماء، الواضح كحقيقة عارية لا جدال فيها، في الوقت الذي لم تظهر لك فيه ـ هذه البلدة ـ إلاّ وجهها الرافض! وفي سرّك رحت تردّد:
هكذا إذن! فهذه الأراضي لم تكن قديماً على ما هي عليه اليوم! أمّا كيف تمّ تسجيلها في الدوائر الرسمية باسم الآغا،أو غيره، فإنّ الوسيلة في هذا العالم الموبوء ما عادت مجهولة! وربما لذلك السبب تراه يسرف في ملاهي حلب ودمشق وسواها، فهو لم يكدّ فيها، لم يتعب، لذلك هانت عليه، فأجرّها إلى المزارعين عندما عزّ عليه تأمين ما يلزمها من بذار وأجور وخلافه! بيد أنّ وضوح الصورة، أو التفاصيل هي ما كانت تنقصك!
ـ حسناً، ونحن!؟
ـ أنتم تمثلوّن حالة خاصة حسبما فهمت منك، لأنكم كنتم مطلوبين بثأر، وعليه فلقد تفرقّتم في القرى البعيدة عن قرية المغدور، وكان أن قاد الحظّ أسرتكم إلى قرى الأكراد، فبقيتم من غير أرض!
ومرة أخرى أردتَ أن يبقى السهم في مرماه!
ـ وماذا عن الإلحاد!؟
فهزّ كتفيه قائلاً:
ـ هي علاقة خاصة بين المرء وربّه!
ولم يكن جوابه مقنعاً لك، فترددّتَ قليلاً، ثم تغلّبتَ على ترددك، وأطلقتَ آخر سهامك!
ـ و الإباحية!؟
وكانت المدينة شاهداً على شخص مندغمٍ بالأسى لأنه لم يُفهم، فردّ معاتباً!
ـ وهل تصدّق كلّ ما يُقال!؟ نحن ندعو إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة، لأننا نرى كم هو صعب أن نلحق بركب الأمم المتطوّرة، بينما نصف مجتمعنا مُقيّد! لكن أعداءنا يشيّعون عنا الكثير! إنهم يريدون أن تبقى الأمور كما هي، لأنهم أصحاب مصلحة في ذلك، فما لك ولهم!؟
كان الكلام يوغل ويتشعّب، فيما كانت البلدة تغيّبكم في أزقتها الضيّقة، ولمّا لاحظ رغبتك في الانصراف، ربت على ذراعك بمودة!
ـ نلتقي!
ولـم تكن المحاكمــة المنعقدة فـي الداخـل قـد توصّلت إلــى قرارهـا غبّ
انصرافك، إذْ كان ثمة أكثر من توجّه يتوزعّك، إلا أنّ بساطة الرجل وقدرته على الإقناع لم تفلحا في دحر التحفظات الضاربة جذورها في الأعماق!
في ما بعد أخذت البلدة تحتضن شابين منشغلين عما يدور حولهما بأحاديث طويلة، هامسة، أو محتدمة! وبالرغم من الحذر الذي تسلّحت به النفس؛ كنتَ تشعر بأن ضباباً كثيفاً ينزاح عن الأعماق بعد كلّ حوار، وأنّ بقعة أخرى تسلم نفسها لدائرة الضوء!
فأين تكمن المشكلة!؟
ولماذا لا تستطيع أن تسلّم نفسك بكليّتها إلى "حسين"!؟
هل يختبئ تحفظّك خلف الجذر التربوي الصارم!؟
أم هو حسّ الإثم، ينهض من تحت ركام التربية الدينية المتزمتة!؟
أنت لا تملك إجابات قاطعة، لكنك تكاد تلمس ذلك الحاجز الذي لا يُرى! جدار غير محسوس، غير أنه موجود بيننا وبين الآخرين، ما يدفعنا للاحتفاظ بمسافة تفصلنا عنهم، ويصعب علينا تخطيّها، بل أن الأيام كثيراً ما تثبت صحة ما ذهبت إليه انطباعاتنا الأولى، وهي تقيم جدارها باسم الخجل مرة، وباسم الرهبة مرة أخرى، وباسم الشعور بالعيب، أو الحس بالإثم، أو باسم مسافة تروم النفس من ورائها الأمان مرّات !
كان كلامه مقنعاً، مترابطاً، يلمس فيك المواجع، ويرشّ الملح فوق الجراح الراعفة، فتتولاّك الحيرة والانقسام، لكن الأجوبة تتوه وتماري، فتعود إلى أوراق "اليانصيب"، التي أكلت من عمرك وأعصابك سنوات، لترجع إلى البيت في نهاية اليوم متداعياً تماماً، ذلك أن الجهد الذي كنتَ تبذله لم يعد جهداً عضلياً فقط، بله عضلياً وعصبيّاً بآن! وهاأنت تدرك بأن ذكريات الطفولة ـ تلك ـ لم تكن إلاّ حاضناً لطفولتك، وأنّ مشاعرك نحوها مُستمدة من بهاء الطفولة نفسها، لا من طبيعة تلك الذكريات، إلاّ أنك بقيتَ على عادتك في الاسترخاء فوق فراشك، مستعيداً حياتك حرفاً حرفاً، باحثاً في الثنايا الندية عن تلك اللحظات الفارة من كلّ قيد، لتضع قوانينها وفق منطقها الخاص، من غير أن تعبأ بالعالم كله، وذلك في حالة نكوص ربما! فإذا انتقلتَ بخيالك إلى ما بعد، إلى الراهن المربد، فاجأتك بلدة كالحة، عصيّة على الإمساك، تأبى التفهّم، فيما أنت على حوافها كمّ بيولوجيّ رثّ ومُهمل!
- 5 -
كأن أحداً ما ضايق الشمس ، أو أبعدها بيديه ، فلم تعد تلك الشمس الكاوية ، بل أضحت شمساً أخرى ، وانية ربما ، فاترة ومتعبة ، والهواء الذي كان زفرة حرى وحارقة قادمة من أتون عظيم ، استمد – هو الآخر – من الأفق الغربي برودة وروى ، وشيئاً من الغبار أيضاً, وراحت التربة التي تشققت شفاهها ترجو مطراً يروي الأعماق العطشى ، فيما أنشأت الأشجار تتخلى عن أوراقها الصفراء الذابلة ، في محاولة مخفقة لاستجداء عطف السماء ، إنه مساء خريفي آخر يحيل إلى الإحساس بالنهايات ، ويؤسس لوحشة لا تريم !
موسم القطن كان قد أضحى على الأبواب ، فتوشت الحقول بألوان شتى مستمدة طيفها الواسع من ثياب العاملات في جنبه ، وراح بياض القطن يمازج خضرته بنصاعة رائعة ، بيد أن أمك كانت مكرهة على ترك عملها في الحقول ؛ بعد أن أحكم المرض قبضته على أبيك ، لتلازمه ، وتسقيه الدواء ، وكان عليك أن تعود إلى البيت بسرعة في الأيام الأخيرة مخافة أن يحصل مكروه أثناء غيابك عنه ! كانت الصورة الكلية قاتمة ، فأنت لم تكن قادراً على ترك عملك ، لتلازم أبيك في مرضه ، لكن تخليك عنه يعني ببساطة تامة ضياع آخر مورد لكم ، في الوقت الذي كان المرض فيه – أساساً – يلتهم جل ذلك المورد ، ثم من يعرف إلام ستؤول الأمور في النهاية !؟
وهرباً من هاجس مخيف راح يحفر في المخيلة ، أخذت تتحرى في تفاصيل أخرى ، لعلها تشغلك عما حولك قليلاً ! كانت ألوان الخريف الباهتة قد التفت بسواد الليل ، بينما توارى القمر خلف غيوم بيضاء متفرقات ؛وبتؤدة مرت عيناك بأمك المقعية على حافة فراش أبيك الذاهل عن نفسه ، ثم انتقلت إلى علب الدواء المتناثرة حول المخدة ، فالسقف الخشبي ذي الرسوم الغريبة ! كل شيء كان يرسف في هواء راكد ، يندغم فيه حامض البول ببقايا الطعام الخاص بالمريض ، ورائحة الدواء النفاذة !
-أماه ، لو ترتاحين قليلاً ، سآخذ محلك في العناية به !
تنهدت المرأة بحرقة !
- حسناً يا بني !
وتمددت على جنبها الأيمن لترتاح بعضاً من الوقت ، فأسندت خدك إلى يدك متفكراً في الجسد المسجى على الفراش ، بعد أن تضاءل إلى حدوده الدنيا ، وأضحت عروقه بارزة ! كان الجلد قد تدلى عن كثير من المواضع . بعد أن تناقصت الكتلة العضلية بسرعة ، أما الوجه الذاوي فقد علاه شحوب مرعب ! وخلا القلب المريض ، الذي راح يدفدف جاهداً لتأمين شيء من الدم ، لم يكن في الكتلة النائمة أي حركة تنم عن الحياة !
يا الله ! أهذا هو الرجل الذي كانت خطاه تفتت الحصا من تحتها !؟
أهذا هو الأب الذي كانت ضحكته الفياضة تجلجل مدوية عارمة !؟
طويلاً شاغلتك مثل تلك الأسئلة ، وراحت تفاصيل بعينها تترى على شاشة الذاكرة – ربما – لخصوصية فيها ! بعضها يعود إلى أيام الطفولة المبكرة التي كنت تمتطي فيها ظهره ، أو ترافقه إلى المسجد لترى إلى تلك الحركات الطقسية الغامضة التي يقوم بها المصلون ! وفي الحالات كلها كنت تعرف كيف تأخذ منه ما تريد ، بعد أن وضعت يدك بصورة غامضة على تلك الروح المتسامحة المتدارية بمظهره الخشن ، فقط كان عليك أن تتحاشى ساعات غضبه النادرة ! بينما بعضها الآخر يعود إلى الفترة التي بلغت فيها مبلغ الرجال ، وجلها يقوم على تفاهم عميق من غير لغط أو لغو ! كان الرجل يتابعك بصمت وأمل ، يريدك أن تكبر بسرعة ، فهل كان يدري بما ستؤول إليه حاله !؟ أما كم من الوقت ظلت تلك الأسئلة تلح ، فأنت لا تدري ! وكيف سرقك النوم جلوساً ، فأنت أيضاً لا تدري ! ولا تدري متى أو كيف اكتشفت أمك ما حدث ! كل ما تعيه أن صرختها المفاجئة شقت جهامة الليل إلى شطرين ، فاستويت في جلستك مداهماً بحس الانخطاف ، وتطلعت حولك مستطلعاً ! كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل ، وللحظات اختلط عليك المكان والزمان والحدث ، فأجهدت تفكيرك تريد أن تتذكر كيف ومن ومتى ولماذا ! كانت أمك تولول وتلطم خديها ، فأسرعت إلى حيث فراش أبيك ، ووضعت يدك على صدره ، لكن قلبه لم يكن ينبض ! التفت إلى أمك ، ففاجأك شعرها المنقوش ، والذعر العميق الذي يطل من عينيها ! كان منظرها غريباً ، يبعث على الخوف ، فوقفت زائغاً مجفلاً كحيوان صغير فاجأته الأضواء الكشافة ! ومن أنحاء الغرفة المنذورة للذهول ، راح طقس جنائزي يعلو وينتشر ، فيما تمدد الموت في المكان بكثافة ، وأخذت عيناك الحائرتان تمران على كل شيء ، بيد أنهما ما كانتا لتربان ، أو أنهما كانتا تريان ، لكن العقل الداخل في مدار الصدمة لم يكن قادراً على التحليل والربط والتفسير !
أين اختفت الدموع !؟
وأي يبس أصاب مفاصل الروح !؟
أي قصور ممعن في السيطرة على الأشياء تبدى !؟
وأي إحساس بالعجز !؟
شيئاً فشيئاً أخذت الأبعاد تتضح في الذهن المضبب ، وأدركت بشكل أولي فداحة الخسران الذي ألم بكم ، فأردت أن تصرخ ، أن تضرب الأرض بقدميك ، أو تبكي ، لكن اليباس الذي غل الروح لم يكن قد فارقها بعد ! شئ ما كان يريد الخروج على شكل نقمة أو عويل ، لكن الوسيلة أعيته ، فانشبحت فوق الجثة العزيزة بطولك ! إلا أن الأيام ظلت تخب كما كانت ، فأخذت الحادثة تنأى ، وراحت التفاصيل تتأبى على الحضور ، فإن فعلت، فإنها أخذت تفتقد إلى الترابط والوضوح ، بحيث ما عادت لحظات التذكر الغامضة تترافق بتلك النار الكاوية التي كانت تلفح الضلوع إثر الأيام الأولى لمصابكم الأليم ، بل إنها اكتفت بإيقاع من الأسى الهادئ فقط ! إيقاع مبهم لعله – أصلاً – يتعلق بما تكشف لك خلال المأتم ، ذلك أنك أمضيت الأيام القليلة التي تلت الوفاة مختنقاً بوحدتك ، إذ راح الآخرون يمرون بداركم من غير أن يعرجوا عليها ، تاركين لك مشاعر الضآلة ، والإحسـاس بفداحة الفـقـر الذي يشتت الصلات ، ويقتنص من النفس كل ما هو إنساني ونبيل ، مخلقاً لها المياه الآسنة والصدأ ومشاعر القسوة !
واليوم ، فإن الذكريات والوقائع تزدحم في الذاكرة، إلا أن حس الفقد والفقر والانكسار المستمر ؛ كلها أدخلت تلك الذكريات في المحرقة ، وأنضجتها ، بعد أن أسلمتك إلى حالة من الحياد أقرب إلى التسليم ، فأخذت تتأمل في محيطك بانتظار ما سيحمله الغد ربما !
-6-
أنت لا تطلب ملكاً ضائعاً ، ولا مالاً ينهمر عليك كالمطر ، بل أن كل ما تبغيه هو موطئ قدم ، ولقمة نظيفة ، وثوب خال من الرقع ، فهل هذا كثير على بلد راح يعد بغير حساب !؟ ثم أن تلك المطالب هي الأخرى مطالب مؤقتة ، فأمورك لا يمكن لها أن تستمر على تلك الحال ، إذ أنك لـن تـبقى مترهباً إلى الأبد ، وغداً أو بعد غد ستهمس لك فتاة من وراء الزجاج ، فتستجيب لها ، وتؤسسان معاً أسرة متكاتفة ؛ قد تكون صغيرة في البدء ، لكنها ستكبر في ما بعد ، ويملأ فراخها أركان الأرض الأربعة ! وهذا كله يحتاج إلى دخل ثابت ومستقر ! وبالأعراف والسنن كلها تبدو مطاليبك مشروعة ومتواضعة ، فلماذا تاهت في زحام الحياة على تلك الصورة !؟
كانت التساؤلات العديدة تبرق في فضاء الذهن بلا استئذان محمومة أو مراوغة ، تفند ذاتها ، أو تدحض بعضها البعض بالتتالي ، ثم تعاود انطلاقها على صفحة وجهك المربد ، بحيث تستطيع العين الملاحظة تلمس آثارها فرادى أو مجتمعة، بينما كانت قدماك تقودانك بشكل آلي نحو السوق!
كانت الشوارع والأزقة مزدحمة بطلبة المدارس ، ولم يكن هذا جديداً عليك ، إذ سبق لهم أن غادروا مدارسهم قبل أيام ، لكن الجديد في الأمر أن إضرابهم هذه المرة كان موجهاً ضد الحكومة ذاتها ، وهذا ما أثار فضولك ، فنسيت هواجسك الصغيرة ، وانزرعت وسط لغة جديدة تفرض منطقها وسياقها ! موظفو الإدارات ، وأصحاب دكاكين البقالة ، ومتاجر الألبسة الجاهزة ، وسوق الصاغة ، والحلاقون ، وأصحاب المطاعم ، الكل أسلموا أنفسهم لصمت مريب ينذر بالانفجار ! ثم جاء الهدير مزلزلاً ، جارفاً في طريقه كل شيء ! ومن كل مكان راح الناس ينحدرون نحو الساحة المركزية ، التي تستطيل أمام دار المحافظة ، فدنوت من أطراف المكان لإرضاء فضولك ، كانت الساحة تعج بحشود غفيرة ، فيما أنشأت جموع أخرى تتقدم نحوها من جهة دار البلدية ، وأخذت الأطراف تضخ المزيد من الناس في المحيط البشري الهائل ، إلى أن اكتظ المكان ، وأضحى محشراً حقيقياً يموج ويترنح كسفينة في طريقها إلى الغرق ، بما جعل أي حركة وسط تلك الحشود أمراً بالغ الصعوبة !
بعضهم كان محمولاً على الأكتاف يهتف مستنهضاً فيهم الهمم ، فترتهج الجموع ، وتروح تردد الهتافات التي تدفع عن الصدور غيظاً ظل مكتوماً فيها زماناً ، بينما كانت الشعارات تتداخل ، فهذه تهتف للوحدة ، وتلك للديمقراطية ، وثالثة للخبز والسلم والحرية ! البعثيون والشيوعيون وقلة من القوميين العرب قد تجمهروا في المكان ، في حين غاب عنه القوميون السوريون أو تداروا ، بعد أن اتجهت أصابع الاتهام إليهم إثر مقتل العقيد عدنان المالكي ! أما الإخوان المسلمون فكانوا يعدون على الأصابع ، برغم ما يشاع عن كثرة أعدادهم في المحافظات الأخرى !
كان العرق يزخ من الجباه ، يرشح بغزارة عبر الأجساد المتراصة ، لكن المد راح يتزايد – لحظة فلحظة – مع تدفق المزيد من الناس نحو المكان، فأخذ بعضهم بتسلق الأشجار وأسوار الأبنية المجاورة ، أو باعتلاء ظهور العربات السيارة المصطفة على الأطراف ، بحيث أضحى التقدم أو التراجع وسط تلك اللجة في حكم المستحيل !
فجأة ترنحت الجموع المتداخلة ، فماجت ذات اليمين وذات الشمال كموج شرس لا يعرف طريقه ، وأنشأت تتفرق بفعل قوة مجهولة ! ومن خلال فرجة في الحشود المتراجعة لمحت رجال الشرطة الذين كانوا يتقدمون لتفريق المتظاهرين ! كانت الهراوات والعصي المنذرة تلمع في أيديهم، فآثرت السلامة ، وانسحبت من زاويتك بسرعة !
كانت الشوارع البعيدة عن الساحة تكاد تخلو من الناس ، والمتاجر ما تزال موصدة ، فيما كان سوق الهال – الذي ينهض على ربض من الأرض – بدوره مغلقاً ، فبدت أزقته الضيقة الخالية من الناس موحشة ، مع أنها كانت تبدو أكثر سعة لخلوها من البشر والعربات والخضار المعروضة على جوانبها !
لم تكن قد بعت شيئاً من أوراق اليانصيب في يومك هذا ، بينما راح النهار ينسحب من البلدة كموجة ناكصة ، ولم يكن ثمة أمل في أن تجد مشترياً ، ذلك أن المدينة كانت قد نذرت نفسها للصمت ، فخوت شوارعها إلا في ما ندر ، ولم يبق أمامك إلا العودة إلى البيت ، فقطعت الشوارع مهموماً متكدراً ! ومع اقترابك من الحي راحت حركة غير مألوفة تملأ أزقته ، فدفعك فضولك لتتبع الأمر ! كان اللغط يعلو عن طعنة سكين تلقاها أحد شباب الحي في تظاهرة اليوم ، وراحت الأزقة الغارقة في ظلال المساء تنقل الخبر بشيء من الخوف والترقب ، إذ كان ثمة سؤال ملح !
والآن ما العمل !؟
نقل الشاب إلى المشفى كان مستحيلاً ، لأن مشاركته في التظاهرة ستنكشف ، وعندها فإنه سيتعرض لغضب رجال الأمن ! أما إسعافه بالوسائل البدائية فلم يكن مضموناً ! وكانت القصة تلامس فيك وتراً ما ، فأخذت تتابعها عن بعد ، من غير أن تتقدم نحو دائرة الضوء كثيراً ، كان الفضول يدفعك إلى الأمام ، لكن الخوف كان يسمرك في مكانك ، مصراً على تذكيرك بكلمات أبيك التي ما تزال ترن في الذاكرة / أن ابتعد عن السياسة يا بني ، فهي لا تطعم خبزاً ، ثم أن العين لا تقدر أن تقاوم المخرز ، هذه حكومة يا بني ! حكومة ن فلا تلعب بالنار ، وإلا عرضت نفسك للخطر !/ فقعدت في الدار تتسقط الأخبار ، ومع أنك لم تكن تعرف الشاب ، إلا أنك شعرت براحة عميقة حينما سمعت بأنه يتماثل للشفاء ! فألقيت بالموضوع جانباً ، ورجعت إلى أوراق اليانصيب التي توالجت بحياتك توالج اللحمة في السدى !
-7-
وأخيرا، هاهو التاريخ الأبكم ينشق عن فجر مؤنس طال انتظاره، فابتداء بالغمر الأزرق ، وانتهاء بمدى الصحراء راحت الأشياء تشع بسحر خاص ، كأنما مسها ساحر ! وفي البيوت والمتاجر والأزقة والأسواق والسكك أنشأت الأمور تتخذ إيقاعاً متسارعاً مع إعلان الوحدة بين سورية ومصر ! فأخذت تتأمل في الناس والحدث ، وتعد نفسك للإقلاع مع الريح ! لم يكن ثمة شيء واضح في مدى الرؤية ، لكن جزءاً مهماً من الحلم كان قد تحقق ، جزءاً استقى ماءه من المدرسة والشارع والإذاعة والصحافة والتظاهرات الغاضبة التي كانت تدعو إلى الوحدة ، ربما لأنها كانت ترى بأن الأوان لردم الهوة التي تفصل تلك الأرض عن الأمم الراقية قد أزف ، فأخذ الجميع يعدون أنفسهم لخير عميم هلت بشائره ! كل شيء كان يندغم بطقس من القبول ، خلا بضع أسئلة راحت تطفو على السطح !
لماذا لم يقف حسين ورفاقه إلى جانب تلك الوحدة !؟
بيد أن توجيه سؤال كهذا إليهم لم يعد ممكناً ، لأنهم اختفوا كما يخـتفي الماء في اـلرمل ! فاختلفت الآراء في تفسير اختفائهم !
بعضهم قال بأنهم انتهوا إلى السجن !
وقال البعض : إنما هم متخفون هنا وهناك !
بينما قال آخرون : لكن قسماً كبيراً منهم غادر البلد !
كنت تتمنى أن يكون حسين نفسه إلى جانب تلك الوحدة ، ربما بسبب من المودة التي كنت تكنها له ، لكنه غاب مع الغائبين ، فيما انشغلت - أنت – بالبحث عن عمل يدرأ عنك تقلبات الأيام ! فبقيت تتردد على الدوائر الرسمية كعادتك ، من غير أن تنتبه إلىأن ذلك التردد كان يتطابق مع اللحظات التي لا تجد فيها أوراق ( اليانصيب ) المشهرة في يدك مشترياً ، فتنضح النفس باليأس ، وتظل تلوب في تلك الأزقة التي كانت تنهبك كل يوم بحثاً عن الرغيف ، إلى أن يزحف التعب نحو العضوية المحاصرة بين واقعها المؤسي وأحلامها الممزقة ، ثم ينتهي يومك عند ثلة الشباب التي انشغلت – في تلك الفترة – برسم أحلام وردية للأيام القادمة !
كانت بشائر المصريين قد وصلت إلى البلدة ، وكان للحياة أن تمضي هادئة واعدة ، ريثما تنجلي الخطوة القادمة !
ولكن ، لماذا أمحلت السماء في هذه السنة !؟
سؤال راحت الشفاه تلهج به في منطقة تعد الزراعة عمودها الفقري ، فيما أخذت عيون الفلاحين تتعلق بقزعات الغيوم القادمة من الأفق الغربي ، تنطر مطراً راح يعز ، وفي البحث عن الإجابات كان ثمة ما يدعو إلى التوجس !
غضب هذا ! قال البعض !
ممن وعلام !؟
غير أنك انشغلت عن اللغط المثار الذي أخذ يتغلغل في ثنايا الأرض وشقوقها بما استجد في أفقك ، فلقد وقعت أخيراً على عمل بصفة (( قياس )) لدى مديرية المساحة ، وبدا لوهلة أن النحس الذي وشم خطواتك قد تنحى قليلاً ! فاندفعت نحو الدائرة باكراً في صبيحة اليوم التالي !
لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة ، فراحت خطاك تذ رع الأزقة المحيطة بها، بينما كانت الأعماق مرسحاً لمشاعر عديدة ومتناقضة بآن ! ولما أزف الوقت ، خطوت نحو الداخل بخطا متقصفة ! كان قلبك قد ضاعف من وجيبه ، وجبهتك ترشح بعرق غزير وبارد ، فيما أخذت أعصابك تتوتر تحت تأثير النظرات الفضولية التي انصبت عليك من كل حدب ! فالتجأت إلى عب الطاولة المخصصة لك ، وراحت عيناك تتحاشيان نظرات الآخرين المربكة ، متلهية بالتطلع عـبر الـنافذة المواجهة !
شيئاً فشيئاً أنشأ المحيط يخفف من ضغطه ، والأعصاب المشدودة تعود إلى مدارها الهادئ، فشرعت في اختلاس النظرات إلى المكان بين الحين والآخر ، مستغلاً انشغال الآخرين بما بين أيديهم من أوراق ! كانت الغرفة التي ستضمك مع آخرين إلى حين ضيقة ، ومع ذلك فقد غصت بأربع طاولات، احتل رجلان توسطت بهما سنون العمر اثنتين منها، بينما استأثرت سيدة أصغر منهما بالثالثة ، والى حائطها الجنوبي اتكأت خزانات حديدية ضاعفت من ضيق المكان ووحشته، أما نافذتها الوحيدة فراحت تقتنص من الحديقة المجاورة رؤوس أشجارها !
شـرح رئـيس الشـعبة طبـيعة العـمل الـمطلـوب منـك إنجازه، فغرقت في الأوراق المكدسة فوق المنضدة ! وكان الأمر جديداً عليك، فغاب عنك أن ليس ثمة رابطة بين صفتك في العمل والعمل الذي كلفك به ! وما كنت قد اعتدت البقاء في مكان واحد لفترة طويلة، لكن إحساسك بأنك مراقب، وحجم العمل الكبير سرقاك، فلم تنتبه إلى تصرم الوقت إلا مع تهيؤا الآخرين للانصراف !
كـان الجوع قد انضم إلى حبات العرق المتلألئة فوق الجبين ، وكان ثمة دوار خفيف في الرأس، فترسمت دربك نحو البيت بسرعة ! إلا أن الأيام التي تلت لـم تـنقض بالطـريـقة ذاتها، إذ بدأت - أكثر فأكثر _ تشعر بأنك تقف على ارض صلبة، وأن المكان يخصك بقدر ما يخص الآخرين ، فتراجعوا إلى حدودهم الطبيعية !
أما اللحظة التي لا تنسى بحق ، فهي تلك التي أمسكت فيها أصابعك المرتعشة بأول اجر شهري لك ، ذلك أن المبلغ كان كبيراً ، فأخذت تحملق فيه بذهول !ألف طيف التمع في الذهن ، وألف حلم مكسور هاجس النفس مذكراً ! وعلى قلق أنشأت تستعيد الخطط التي كنت قد أعددتها حول أوجه التصرف به ، وراح ذهنك يجتهد في اصطفاء ما يمكن شراؤه في ذلك الشهر ، وما يمكن أن يؤجل إلى شهر آخر ، ولكن الأولوية في المشاريع الصغيرة كلها كانت من نصيب ثوب أمك الجديد ،لأ ن ثوبها كان قد بلي تماماً ، وفقد ألوانه ، بحيث لم يعد ارتداؤه يليق بها ! حذاؤك هو الآخر كان قد اهترأ ، فبدا شراء حذاء آخر مطلباً ملحاً لا يقبل التسويف !
كان الزمن قد شرع بالانتظام في مدار اكثر هدوءاً ، لأنك _ الآن _ تتحصل على (( معاش )) ثابت ، يردع عنك التقلبات الحادة للأيام ، فاستكنت النفس لحاضرها إلى حين ! لكن المقام لم يطل بك في تلك الغرفة ، إذ طرأ ما حسبته في صالحك ، بسبب من مقاربته لطبيعة التجوال فيك ، وذلك عندما صدر قرار بضمك إلى فرقة من فرق المساحة ، فأخذت القرى المتناثرات في أنحاء المحافظة تتجاذبكم ، وتحتفظ كل واحدة منها بكم زمناً يطول أو يقصر ، لتمضي شبكة الدروب بكم _ من ثم _ نحو قرية أخرى !
- 8 -
ربما كان الشتاء بأمطاره وأوحاله في منطقة تفتقد إلى الطرق المعبدّة كمنطقتكم، هو العائق الوحيد في وجه عملكم، ذلك أنّ الدروب الترابية التي تصل بين القرى المتناثرة كحباّت عقد؛ كانت تنقلب إلى مصائد حقيقية للسيارات عقب الأيام المطيرة! بحيث يضحي السير عليها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولولا ذاك الفصل الأهوج الذي يبطن احتمالات شتّى يصعب التكهّن بها، لما وقف شيء كحجر عثرة في طريقكم، لا الصيف الأحمق الغاضب أبداً والمتعرًق، ولا الخريف الأعجف بشمسه المحايدة المحتضرة! وعندها، فإنّ الكثير من العطلات الأسبوعية كانت ستندرج في محيط عملكم الميداني، ثّم من يدري، إذْ ربماّ طال الأمر بعض الأعياد أيضاً!
كانت القرى شديدة التماثل كسبحة من الطين تزيّن حباّتها صدر الأرض، لأنها كانت متقاربة التصميم، ليس من الخارج فحسب، بل في تقسيمات بيوتها من الداخل أيضاً، تلك البيوت التي كانت تشبه بيتاً ما، في مكان ما، في زمان ما لم يعد موجوداً! ليزهر الحنين إلى فترة وادعة أضحت طيّ ماضٍٍ بعيد، ربمّا بسبب من رؤية تلك السقوف الخشبيّة المقوّسة تحت ثقل التراب المليّص، والكوى الصغيرة، والأحواش الواطئة، وأعشاش العصافير، لكن ذلك الحنين لم يعد يشبه الحرقة الكاوية التي كانت تجتاح الأعماق بعد الفترة الأولى لرحيلكم عن القرية، وككلّ مبهظ كنت تتنهّد هامساً!
هو الزمن يؤكدّ في المجتبى الأخير، أنه الرابح الأوحد،وأن لا رابح سواه!
كانت أعمال التحديد والتحرير تختلسكم من حضن دوركم، وتلقي بكم في محرقـة عمل مديد وصعب، يبدأ صباحـاً بإعـادة رسم حدود القريـة، وفرز
العقارات الزراعية عن البيادر والمقابر والتلال، ومن ثمّ تسجيل أسماء مستثمريها، وينتهي مساءً برسم المخططّات، وحساب المساحات الزراعية، ليجمعكم الليل تحت عباءته، فتنطلق أحاديث شتّى، تبدأ من نهاركم الذي رحل لتوّه، مستعيدة الأحداث الطريفة التي وقعت لكم فيه، وتنتهي عند حواف البرهة التي تجمعكم حول إبريق الشاي، بعد أن تمرّ على المواضيع المطروحة للنقاش، سواء منها ما يتعلّق بظروف العمل ومشاكله، أو ما يتعلّق بالشؤون العامة المتحررّة من أسار العمل ورتابته، وما كان الأمر ليخلو من علاقات متفاوتة تنشأ بينكم وبين الأهالي!
وللسنة الثانية على التوالي أمحلت السماء إذْ لم تغب الشمس الوانية عن نهاراتها إلاّ لماماً طيلة فصل الشتاء، فلم تبلّل نهاياتها العطشى بالمطر، بما جففّ الضرع، ولم تنبت الحنطة التي أودعت الأرض السمراء أسرارها، وراحت الماشية تنفق جوعاً على تخوم البادية بعد هزال! كان الأصفر يطالع الناس هشاً متقصفاً، حتى لكأنهم ما يزالون في فصل الخريف، في الوقت الذي كان الربيع ـ فيه ـ قد عبر نصفه المؤسّس للأخضر عادة، فعاد الهمس يطال موضوع الساعة !
أما قلنا لكم إنّه غضب!
كان الخوف من المحل وشلاً مدّملاً عرف الناس ألمه، فراحوا يتأمّلون الأرض المختنقة بعطشها، والسماء التي لم تستبدل ثوبها الأزرق بترقبّ وقلق، ثّم أردفوا بمرارة!
أنبأناكم بأنّ هذه الوحدة لا تحمل لنا خيراً، فما صدقّتمونا!
وفي المفارق والمنعطفات أخذ الهمس يتعاظم؛ بأنّ "عبد الناصر" يخطّط
لإسكان خمسة ملايين نسمة في الجزيرة السورية، فرّد المتعاطفون:
ليس في الجزيرة وحدها، وإنمّا في كامل الإقليم الشمالي!
لكنّ المتطيرّين من مواقعهم تابعوا:
أرأيتم!؟ فيما تابع المؤيدّون :
وما الذي يشكل في الأمر!؟
فتساءل المتشككوّن بدهشة:
كيف! وهل تظنوّن الإقليم الشمالي هذا بقرة حلوباً!؟ سنموت في الشوارع جوعاً! سترون!
وكان ذلك الهمس يجرحك!
طلبنا الوحدة، فتحققّت، فما الغريب في الأمر!؟
ولم تكن قد نشأت أيّ علاقة مباشرة بينك وبين المصرّيين فلم تصدّق ما كان يشاع عنهم!
من أنهّم ينظرون إلينا كمستعمرة!
وهم يتجاوزون القوانين!
يا أخي، ما عاد بإمكان الرجل أن يصرّح بما يجول في ذهنه حتى لزوجته خوفاً من رجال المخابرات!أمّا بالنسبة لك، فإنّ الوحدة كانت فأل خير، ذلك أنك وقعتَ في مستهلّها على عملك الحالي! وكنت تتفكّر بأنّ إسرائيل هزمتنا عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف لتَفَرقّنا!
وقلتَ: نسينا مَثَل الرجل الذي استدعى أولاده الثلاثة قبيل الموت، وفرّق عليهم عصّياً، طالباً إليهم كسرها، ففعلوا! ثمّ جمع العصّي في حزمة، وطلب إليهم إعادة الكرّة، فامتنعت عليهم العصّي! فقال لهم: مَثَلكم مَثَل هذه العصّي، إن افترقتم حلّ بكم الضعف والهوان، وإن توحدّتم اجتمعت لكم القوة والمنعة!
إلاّ أنّ الآراء المتباينة كانت تستعصي على اللقاء، فتمضي بقية السهرة بين ورق الشدّة، أو لعبة إخفاء الخاتم، ثمّ يُغرّم الفريق الخاسر بديك رومي، أو بشيء من الفاكهة!
في صبيحة اليوم التالي كنت تنطلق نحو الخلاء متوحداً، أو برفقة المجموعة، بما يقتضيه الظرف، وذلك بعد أن سقطت تلك الحساسيات الصغيرة من حساب أفرادها، ربّما بحكم المعاشرة الطويلة، فصار بإمكان أيّ منهم أن يحلّ محل الآخر بحدود! وعليه؛ فإنك لم تكن كثير الاختلاط بالأهالي، وكنت تذهب في تفسير احتفائهم بكم إلى سجاياهم الكريمة، لكن الفلاح الذي دنا منك ذات صباح، ظلّل ذلك التفسير بغلالة من الشّك والحيرة! ربما كان اللطف الذي أظهرته له هو السبب في تجرؤّه، ولكنّك كنت معذوراً، لأنك كنت تودّ أن تعرب له عن امتنانكم لما تلاقونه من استقبال حسن، فكيف بدر منه ما بدر!؟ شديد الغيظ كنت ومهاناً، إذ لم يكن ثمة مجال للخطأ في فهم مراده! إنهّ يعرض عليك رشوة مبطنّة! حاراً تصاعد الدم إلى قمة رأسك، وثرت في وجهه بشدّة، فأُسقط في يده، وانصرف عنك بارتباك، لكّن الأعصاب المتوقدّة لم تستعد هدوءها إلا بعد حين، ومن يومها أخذت تدقّق النظر في الناس جيداً، لتفهم الدوافع اللاطية خلف ما يظهر من سلوكهم!
وهـاهـو غيابكـم عـن بيوتكم يطـول، فيزداد شوقكـم إلى أهلكـم، بيد أنّكم
تتحاشون إثارة الموضوع في تواطؤ شبه معلن، رغم أنه أضحى مقروءاً في عيونكم، إلى أن يطفح الكيل، موهناً فيكم القدرة على التغاضي، وما يعود التجاهل مجدياً، فتلحّون على رئيس الفرقة من أجل أن يسمح لكم بزيارة خاطفة للبلدة، وتلحفون، لكنّه يماطل قليلاً في البدء، إلاّ أنّه ـ في ما بعد ـ يتنبّه إلى أنكّم تكادون لا تنجزون عملاً يُذكر، فيدرك بأنّ مماطلته لم تعد مجدية، ويرضخ لإلحاحكم، وعندها تركبون الدروب شمالاً، أو جنوباً بحسب الجهة التي كنتم تعملون فيها، تسبقون توقكم إلى أحضان زوجاتكم وأطفالكم، فتمضون ليلة دافئة في بيوتكم، لتعيدكم العربة السيّارة في صباح اليوم التالي إلى مواقع العمل، بعد أن تكونوا قد استعدتم شيئاً من نشاطكم!
فما الذي ألقى "بحسين" في طريق الذاكرة !؟
ما الذي أعاد صوته الهادئ إلى الذاكرة السمعية!؟
هناك، في ذلك العراء المديد استلقت القرية ـ التي غادرتموها منذ سنوات بعيدات ـ على حواف "الزركان" بكسل! وعلى الفور تداعت ذكريات عزيزة على قلبك، فأخذتَ تتحراهّا بعين الشوق والفضول! كلّ شيء كان ما يزال على حاله تقريباً، أو أسوأ قليلاً! الساحة الضيّقة، البيوت المتماثلة التي تتزاحم من حولها، وتغيّب ملامح الدروب المتفرّعة عنها، المتابن، والدروب القصيرة الضيقة! ليس هذا فحسب، بل أنّ بعض بيوتها كانّ قد تهدّم جزئياً، أو كلياً، بعد أن غادرها أهلوها قاصدين المدينة، فنهضت محلّها تلّة ترابية، وتيبسّت البساتين الصغيرة المسيجّة التي كانت تفصل هاتيك البيوت عن بعضها، فيما لم تقع عيناك على شجرة بطم واحدة حول المكان، بعد أن طالتها يد الاحتطاب بشكل فظيع، وعدا الخراب العميم، فلم يكن ثمة شيء قد تغيرّ، وتداعت أصوات وأصداء وألوان وطيوف وروائح بعينها، إلاّ أنها اليوم ما عادت موجودة، بعد أن غاب من غاب، ورحل من رحل! حتّى الذين بقوا كان الزمن قد طالهم، فما عادوا أولئك الأشخاص الذين عرفتهم ذات يوم! الآن فقط، كانت صورة القرية قد استقرّت في خلايا الذاكرة بلا رتوش أو إضافات على شكل أكواخ تنضح بالفاقة والجهل والتخلفّ! وكان "لحسين" دور أساسيّ في نزع الغلالة الرقيقة عن عينيك! كنت تتمنىّ أن يكون مخطئاً في ما رسمه، لكن السيف الذي هوى مزّق الحجب، وحين دارت العربة حول القرية فاجأك بناءان جديدان في الجهة الغربية، فتساءلتَ عنهما، ثمّ عرفتَ بأنهّما مستودعان لمزارعين يقيمان في البلدة المجاورة!
كان التماثل بين كلام "حسين" واللوحة التي تراها كبيراً، فتداعت ذكراه بإلحاح، وراحت الأسئلة تضجّ وتتلاحق "أن كيف عشتَ تلك السعادة في عبّها!؟ أنت لا تستطيع أن تمضي في هذا المكان ليلة واحدة فقط! ربما استطعتَ أن تمضي فيه فترة قصيرة كضيف، ولكن حتى تلك الفترة ـ على قصرها ـ ستمّر عليك بطيئة، ثقيلة ومملة!" وبرغم أن الاكتشاف لم يعد جديداً إلاّ أن حزناً رهيفاً كحرف شفرة راح يتنامى نادباً الصلات الإنسانية المتشظيّة، إذ أن ملاذاً وهمياً آخر أخذ يتداعى، تاركاً مكانه أسلاكاً شائكة تحفر في النفس، وتجرحها!
عبر النافذة كان السكون عميماً، وكان ثمة قمر شاحب يضفي على السكون جلالاً ومهابة، فانكفأتَ في فراشك، مصعّداً آهة سخونة! ولأيام عديدة تلت راح ضيق مبهم يثقل على الصدر كلمّا نهضت الصورة في المخيلّة!
- 9 -
قد لا تكون سعادة خالصة، ولا خوفاً خالصاً ما يتوزّع القلب، بل هي مزيج من هذه وتلك راحت تلهج في الدمّ، لتغرق في عرقك مهتزّاً كقصبة في مهبّ الريح! ومن حولك كان الناس يتدافعون، فلم يبق ثمة مكان لقدم، وراح صوت الطبل يقوّض هدوء الحي، في الوقت الذي أخذ الأطفال ـ فيه ـ يتراكضون حول حلقة الدبكة!
كان الزقاق مُتخماً، ومن فوق الرؤوس ارتفعت غلالة من الغبار الذي أنشأ ينطلق عن أقدام الراقصين، بينما كانت الزغاريد المنطلقة من أفواه النساء تصّم الآذان! وعلى الرغم من المظاهر المؤكدّة، كنت ما تزال تكذّب ما تراه عيناك! مؤشّر الذاكرة مضطرب، يرتحل إلى الوراء، أو إلى الأمام، ينسج ما قبل وما بعد، ما حدث وما يمكن أن يحدث، ليودعه في صندوقها المقفل إلى حين، فيما راحت أحداث الأيام القليلة المتصرّمة تتداعى، إذ أن كآبة غامضة أخذت ترين على روابي النفس مؤخّراً، واسمة مزاجك بكدر قلق، ولياليك بأرق عنيد، لتستيقظ عند الصباح خاملاً، متكسّر الأطراف! وكان ثمة خيال نسائي غامض يتكشّف جزئياً عن كوابيس تناهبتك، من غير أن تشير الذاكرة إلى امرأة بعينها، بمقدار ما كانت تشير إلى المرأة كجنس مختلف! لم يكن ثمة نسوة في حياتك، لذلك راح توقك اللايُحدّ إلى امرأة يتضوع أريجها في محيط العمر يرهج الدم، وينتش في النفس الكثير من الآمال، لكن الأيام التي توالت رتيبة بلا جديد، دفعت النجوم إلى التساقط في شقوق النهار الباهتة، فلقد كنت جاهلاً بعالم النساء الرخيّ، ولم تكن تعرف شيئاً عن الكلام الذي يمكن أن يقال في حضرتهّن، فإن تصادف وجودك معهن في مكان واحد؛ جّف حلقك، وشحب وجهك مع هجرة الدماء عنه، ثمّ تورّد بالدم المتدفق من الوجنات حتى تحمرّ أذناك! ولم تكن تعرف سبيلاً إلى التغلب على تلك المشكلة! كل محاولاتك في هذا الاتجاه أخفقت، كما أخفقت محاولاتك الرامية إلى تناسيها أيضاً، وهاأنت تعمل وتسير وتأكل، تنام وتسافر وتعود، لكن جزءاً من دماغك يأبى الاندغام في تمام اللحظة، بل يظل يعمل في اتجاه آخر، فإذا سايرته بمكر لسبر ما يمكن سبره، قادك إلى صورة غامضة لامرأة غائمة الملامح، نائية!
وهكذا راحت الأيام تمرّ بطيئة، ثقيلة الظل والخطو، تنشر هنا وهناك ردود أفعال تتسم بالعصبية، ردود تدخل في باب التفريج ربما، بيد أنّها لم تكن تسفر عن شيء، فيطل الإحباط برأسه ضارباً جذور التماسك في أسّها! وكمن يقرأ في كتاب مفتوح كانت أمك تتابع أحوالك من ركنها المنزوي، إلى أن فاجأتك يوماً:
ـ أحمد! لماذا لا تتزوج!؟
كضوء كشّاف باغتك السؤال، فأجبتها مأخوذاً:
ـ أتزوج!؟
ـ نعم تتزوج، فأنت لم تعد صغيراً أم أنني مخطئة!؟
فقلتَ بحيرة:
ـ كيف!؟ أنت ترين الظروف، و……
ـ وهل تعتقد أن الظروف ستتغيّر برمشة عين!؟ أنت لستَ ساحراً يا بني، فما الذي يمكن أن يتبدّل في حالنا بعد سنوات خمس مثلاً!؟ لا تقل لي
أنك ستنتظر مدة كهذه، أو أكثر!
وأنشأ ذهنك يبرق بكلّ الاتجاهات، مقلبّاً الاحتمالات على وجوهها كافة، ذلك أن الكثير من التفاصيل كانت تحتاج إلى شيء من التمحيص!
ـ طيب، والمهر!؟ ثم ماذا عن العروس!؟
ـ أمور الزواج مُيسّرة دوماً، ربما لحكمة من ربّك يا بني! ثمّ من تظننّا نقصد!؟ ليس أمامنا إلاّ أعمامك، والدم لا يصير ماءً كما يقولون!
لم تكن المفاجأة قد سحبت ذيولها عن كتفيك بعد، ربّما لأن المسألة كانت ما تزال مشوشّة في ذهنك، فأرجأتها كما هي عادتك في الأمور التي لا تملك لها حلاً عاجلاً!
ـ دعيني أقلّب المسألة في ذهني بعض الشيء يا أماه!
ـ ولكن يا بني!
ـ أرجوك يا أماه!
ـ حسناً يا ولدي!
لكنك حينما انفردت بنفسك؛ سارعتَ إلى مصارحتها بأن العجوز قد وضعت يدها على الجرح، فحالكم لن تتبدّل بين ليلة وضحاها، وأنت لن تنجح في إقامة علاقة عاطفية مع إحداهن! أمّا ما يدعيّه أقرانك من رسائل، أو لقاءات مسروقة في غفلة عن الأهل، فستظلّ بالنسبة لك أمنية غير مُدركة! لقد جنّبتك إحراجاً كبيراً بمكاشفتها تلك، لأنك كنتَ ستخجل من مفاتحتها! هي محقّة والله، وليس على كلامها أي تثريب، فأن تتزوج اليوم خير لك من أن تتزوج غداً، إذْ من يستطيع أن يتكهّن بما ستؤول إليه المهور والمصاربف غداً! ولكن ارتباكك أغلق الباب في وجهك إلى أمد، فكيف تعود إلى فتحه!؟ أنت مكابر بطبعك، ولن تستطيع مفاتحتها بالأمر، وقد يتصرّم وقت طويل حتى تعود ـ هي ـ إلى الخوض فيه ثانية! ثمّ ماذا عن الطرف الآخر؟! مَنْ مِنْ بنات عمك ستكون من نصيبك!؟ أنت لا تعرفهن جيداً، ورسومهن لم تعد تحضر في الذاكرة إلاّ بصعوبــة، لأن زياراتكم المتباعدة ـ التي انقطعت منذ أمد ـ ما عادت كافية لاستحضارها، أو لأن الصورة كلّها كانت غائمة ومُبهمة! ولكن ماذا لو رفضوا!؟
كصفعة مباغتة فاجأك السؤال، فحاولتَ إقصاءه، لكنه راح يلحّ، وأخذتَ تعلّل النفس بالأمل؛ مؤكّداً على صلة القربى حيناً، مستحضراً مواضيع أخرى لعلّها تشغلك، بيد أنها راحت تصبّ في الاتجاه ذاته، فأنشأتَ توبخّ العجوز في سرّك، ربّما لأنها لم تقترح لك واحدة منهنّ، ولو أنّها فعلت لأراحتك من عناء الاختيار، لاسيما أنك مقرّ بأن لا سبيل إلى الزواج غير ما ذكرتْ! فهل كانت تقرأ ما يجول في رأسك من طيوف، حين عادت تفتح لك كوّة الأمل!
ـ يا بني، لمَ لا نحزم أمرنا، ونقصد الجماعة في ما نحن مزمعون عليه!؟
في ما بعد سطرّت الذاكرة في دفترها نهاية موفقّة لرحلتكم؛ التي انضمت إلى قائمة الذكريات السعيدة في حياتك! كان عمّك لطيفاً في استقباله، وتمكّن من إزالة الارتباك الذي سيطر عليكما بلباقته وحسن تصرّفه، فهل حدس الموضوع بقضّه وقضيضه!؟ تلك كانت المرة الأولى التي تراه فيها بعد وفاة أبيك، وكنتَ تجهل كيف يتصّرف الناس في مثل تلك المناسبات، لكن أمك استطاعت أن تتدبّر الأمر راسمة الخطوط الأولى لقصة زواجك! قد يظن الآخرون أنّ الأمر كان سهلاً، غير أنه لم يكن كذلك، وعلى العموم فإن هذه المسألة لم تعد مهمّة الآن، لأن القصة كلها أصبحت في ضمير الماضي، أضحت جزءاً من تاريخك الشخصي؛ رغم أنها غير قابلة للنسيان، ففي تلك الليلة أخذت ظلال المساء تتطامن، وليل كتوم واعد يهّل، وراح المدعوون يتناثرون فرادى إلى بيوتهم، ولمّا انصرف الجميع، دخلتَ على عروسك! هناك، على بعد أمتار وقفت الفتاة التي دخلت حياتك فجأة ملتفّة بعباءتها البيضاء! كان ضوء "اللمبة" شاحباً، فلم يبدُ منها سوى خصلات أثيثة من الشعر، وعينين سوداوين فوق وجنتين شديدتي السمرة! ثمّ كان أن رفعتْ رأسها لوهلة، فعرتك رعشة، وراح جسدك يضجّ بالعرق! كان عليك أن ترى المرأة التي هبطت عليك بغير ميعاد؛ بعد أن محت خطا الزمن ملامح الطفلة الصغيرة التي كانَتْها يوماً، ورغم أن العباءة كانت تلفّ كامل الجسم، إلاّ أنّ جذعها الناهض داخل العباءة لم يغب عنك!
ولكن؛ ما الكلام الذي يقال في موقف كهذا عادة!؟ رباه! أيّ حيرة!؟
بكلّ ما سمعته من أترابك عن مغامراتهم العاطفية استنجدتَ، لكن الذاكرة ـ التي تفاجأت بالموقف على الصعيد العملي ـ نضبت، خوت تماماً، وأخذ صمت خفر ينفر من كلّ شيء، صمت يشعر المرء معه بأن كلّ خطوة تنذر بمفاجأة، وكلّ عبارة تنطوي على فخ! فأيّ موقف غريب وجدتَ نفسك فيه!؟
كان عليك أن تكسر حاجز الصمت الذي أثقل عليكما، وتردم المسافة الفاصلة بينكما، فدنوتَ منها، وحرّكتَ يديك بحيرة باحثاً عن كلمات تناسب المقام، لكن النظرة الخجلى التي خالَسَتك لبرهة، والإجفال غير المحسـوس الذي اعترى الكومـة المتسربلـة بثيابهــا، أفاءت الكلمـــات التي
كانت في طريقها للخروج إلى الصمت،فغضضتَّ! ولكن لا بدّ من حسم الأمر!
تفكرّتَ، وجذبتها برفق، فلم تنبس ببنت شفة، بل انساقت إليك بطواعية! كان عليك أن تكمل ما بدأته، فتغلبّتَ على غضاضة الموقف، ونزعتَ عنها العباءة، لتتفاجأ بحبات من العرق الناعم تنتظم الجبين كما النمنم، ولم تكن حالك بأفضل من حالها، بيد أنك كنتَ تدرك بأنّ التراجع لم يعد ممكناً، فالتفّت يداك حول خصرها، وتلاحقت الأنفاس المضطربة، ولما وقعت شفتاك على الوجنة السمراء، انتقل إليها طعم الجليد والنار من تحت الجلد، شيئاً فشيئاً بدأ الجليد يذوب، في ما راحت يدك تتوغّل في بلاطة الظهر الفسيحة، وتضغط صدرها الناهد إلى صدرك!
أيّ حمّى قلقة راحت تعدو في الدم!؟
وأيّ جذوة كانت تشعّ من مكامن اللذّة!؟
كانت المرأة التي تضمّها عظيمة الكفلين، وكانت عانة ندية كطحالب الجبال قد نبتت لتوّها هناك، ومع الكرّ والفرّ أنشأ الجسد الأنثوي يشبّ كعجاج في الدم، وراحت العضلات و الأعصاب والخلايا تتوتّر طالبة المزيد! لم يعد للزمن معنى مع التفاصيل الموغلة في العذوبة، الموغلة في اللدونة، ولم يعد للأشياء من حولكما وجود! غابت، تلاشت في الإيقاع المتناغم للجسدين المنتشييَنْ بدهشة الاكتشاف، وراح المدّ يرتفع نحو ذروته القصوى، نحو عوالم رحيبة وملوّنة!
برضى استلقيتَ على ظهرك؛ بعد أن تعمّد جسدك بالطقس المُقدس، عبر النافذة كان القمر ينسخ الظلمة التي نذرها الليل عل نفسه، فيما بدا العالم من حولكما هادئاً، غارقاً في غبطة وسلام عميمَيْن، وإلى جانبك كانت المرأة التي ستشاركك أيامك القادمة قد غطّتْ في نوم عميق!
“ خريف آخر “
- 1 -
مترنّحاً وعاجزاً عن الفهم وقفتَ أمام العبارة الراشحة بالألم، وراحت الأنباء المتضاربة من كلّ لون تتوالى، وتزيد الصورة بلبلة، فيما ظلت الأسئلة تضجّ وتتلّمس طريقها بصعوبة، لتعرف إن كان ما حصل حقيقة أم كابوس، فهجستَ:
ولكن كيف حدث هذا!؟ وهجستَ:
لقد تركنا الأمور على عواهنها، ولو أننا احتكمنا إلى الحوار، وضربنا على أيدي المخربّين لكان هذا أجدى لنا!
كان هيكل المشفى الكبير ـ المُزمع افتتاحه ـ يربض على مربّع واسع من أرض "العزيزية"، وعلى قدم وساق كان العمل قائماً في الأبنية السكنية عند التخوم الشمالية للأرض الموسومة بحي المطار، إلا أن الناس تاهت عنها، ربما لأنها لم تعد تسمع صوتاً غير صوت جوعها، وما كان باليد حيلة، فهمستَ:
لله الأمر من قبل ومن بعد، ثمّ من يدري، فقد يكون العام المقبل علينا عاماً خيّراً، يعّوض ما أصاب الناس من ضيق وعنت!
وتهادى، لكن مقدماته لم تكن أمينة للأمنيات التي تدارت في الصدور، فتضاءلت الناس، وضجّت، وأخذت الهمهمات تدخل مدار الاتهـام الواضح:
قلنا إنه غضب، لكننا لم نجد أحداً ينصت إلينا!
وقلتَ: ولكننا كسرنا الطوق الذي فرضه الغرب علينا، وهانحن نستقدم السلاح من الدول الاشتراكية! بيد أنهم تابعوا احتجاجاتهم:
لقد أهلكنا تسلّط الأجهزة، ثمّ أننا لسنا مُستعمرة لأحد!
غرباء عن بعضهم كانوا، منغلقين على وجعهم الخاص، فتاهت الأصوات والخطا، وفي الوقت الذي كان الكلام ـ فيه ـ يدور ويداور ويشتطّ ويرتطم؛ انتشرت على الملأ قوانين جديدة أدهشتهم، إذْ تقرّر وضع سقف للملكية الزراعية، ليُوزّع ما يزيد عن ذلك السقف على الفلاحين المحرومين من الأرض، بينما طالت قوانين التأميم الشركات الصناعية الكبرى، فكانت بلبلة عظيمة؛ غادر الكثيرون من أصحاب تلك الشركات ـ في خضمها ـ البلد في غفلة عن الأعين، لكنّ الحكومة لم تكتفِ بما تقدّم، بل وضعت يدها على عمليات الاستيراد والتصدير، متشدّدة في إبعاد كلّ يد عن ميناء "اللاذقية"! وعلى الرغم من أن "مصر" أيضاً كانت قد شهدت القوانين ذاتها، إلاّ أن الموضوع برمتّه ظلّ سابقة غير مألوفة، رأى فيها الكثيرون مخالفة لتعاليم الدين الحنيف! حتى أكثر المؤيدين حماسة تردّدوا، واستسلموا لصمت حائر له أكثر من تفسير، فيما لم يجرؤ الكثير من الفلاحين على الاقتراب من الأراضي المستولى عليها، إمّا لمكانة أصحابها الدينية، أو لأنهم كانوا ما يزاولون يتذكّرون بكثير من الخوف سطوة مالكيها السابقين، وفي كلّ الأحوال فإن المسألة لم تخلُ من حسّ مُبهم بالإثم!
للسنة الرابعة على التوالي استوطن المحل الأرض، فأضحت جديبة كامرأة عاقر! كان الجّو مشحوناً بالترقّب، فانكمشت الناس متطيّرة ممّا يحدث، وعلا صوت الحاجة على كل صوت، وراحت رائحة نذير مُبهم تزكم الأنوف، لكن التكهّن بما يمكن أن يحمله الغد لم يكن أمراً سهلاً، إلى أن جاء اليوم الذي استيقظ فيه الناس على نبأ "الانفصال" الصاعق، المبددّ لأحلامهم!
والآن!!؟!؟
ورحتَ تضرب أخماساً بأسداس، فالأمر كله لم يكن قابلاً للتصديق بتلك السهولة، فهمستَ بحنق:
متوحدّين كنّا، فهزمنا الدنيا كلّها يوماً، وتفرقّنا، فتكسّرنا على أصابع البلدان الأخرى!
لكنّ الصمت امتصّ كلماتك، رغم أنها شكلّت الحلم الذي وسوس للناس ردحاً من الزمن، فاندفعوا إليه بقوة، وحققّوا جزءاً منه، على أن تليه الأجزاء الأخرى، غير أن الرياح جرت باتجاه آخر!
كوعل محاصر في حضرة صياد لا يرحم بدوتَ، بينما كانت البلد تميد تحت أقدام المتظاهرين الرافضة، وبدا كل شيء قابلاً لأن ينفجر ثانية! كان العطب ينعكس على الوجوه الساهمة في كلّ مكان، بعد أن أبهظها الإحساس المؤلم بانكسار أحلامها، ربّما لأن الناس كانت تريد الوحدة، ولكنها ترفض أسلوب الحكم، وكان ذاك هو مأزقها!
أمّا أنت فكان أن تملكّكَ شعور حاد بالنكوص، بأنّ شيئاً ما ليس في مكانه! كان هذا واضحاً في وجوه الناس، وفي حركتهم، أمّا هل كانت البلد تعبر مخاضتها، أم تدخل جحيمها الخاص، فإنّ الإجابة لم تكن سهلة! إحساس ممضّ راح يلحّ في التعبير عن نفسه:
فهل هو نقمة!؟ أم أنه غضب!؟
وراحت الأسئلة تحاصرك، وراحت الوجوه تحاصرك، وراح الهواء يحاصرك، وفي تلك الأزمنة التي أشعرتك بأنها ليست لك كنتَ تهرب، إذْ لم يكن ثمة خيار آخر، ولم تجد مُتنفّساً غير العمل، فأخذتَ تعمل بطاقتك كلّها، ربّما لأنك لم تكن تودّ أن يكون في نهارك لحظة فراغ تتسرّب منها الهواجس، ومع ذلك فإنّ جزءاً من دماغك كان يعمل في اتجاه آخر، فكان أن انتبه "خليل" إلى حالتك تلك!
ـ ما الأمر يا أحمد!؟ لا تبدو على ما يرام!؟
وكنتَ عاجزاً عن التفسير!
ـ لا أعرف على وجه التحديد! لكن الأشياء من حولي تفقد معناها، وتبدو لي بلا طعم أو لون أو رائحة!
كان "خليل" قد تخرّج من كلية الحقوق مؤخرّاً، وراح يخطو خطواته الأولى في عالم المحاماة، في الوقت الذي كانت الحياة ـ فيه ـ قد دفعتك بعيداً عن الدراسة بتلك الصورة الدراماتيكية! إنه واحد من زملاء الدراسة الأقلاء الذين استمرّت علاقتك بهم على اختلاف الدروب!
ـ ولكن ما يحدث خارج عن إرادتنا يا أحمد! ثمة ظروف تفرض نفسها علينا في بعض الأحيان، فلا نملك إلاّ أن نكيّف أنفسنا معها، ولو إلى حين!
وكنتَ ممتلئاً بالمرارة، متمزّقاً، وعاجزاً عن المتابعة، ولكنك جاريته في الحدود الدنيا!
ـ ماذا تقصد بالظروف!؟ ثمّ لماذا نخضع لهذه الظروف خضوعاً كليّاً، بدلاً من أن نسهم في صياغتها وفق ما نريد!؟
ـ حسناً! أنا لست مختلفاً معك في الأساس، ولكن ماذا لو خرجت الأمور من أيدينا لفترة من الزمن!؟ هل نفقد توازننا بهذا الشكل، أم نتعامل مع الظروف المستجدّة بما هو ممكن، إلى أن تأتي اللحظة المؤاتية، فنغيّرها!؟
وأعيتك الكلمات، إذْ كيف لك أن تشرح له ما تحسّه بدقة!
ـ يا عزيزي ما يقال هو مجرّد كلمات، والكلام لا يغيّر من الواقع المناقض للأماني شيئاً!
ـ فماذا تقترح أنت!؟
ـ لا أدري! لا أدري! ثمة فكرة تدور داخل هذه الجمجمة، لكنها لم تتضّح جيداً بعد!
وراح شهر رمضان يدنو متئّداً، من غير أن ينتبه الناس السادرون في هواجسهم لمقدمه! كانت انتفاضة "حلب" في وجه الانفصال قد أخفقت، فقلتَ لنفسك:
لابأس، فقد يحمل الصوم للنفس العزلاء بعضاً من السكينة والهدوء!
ذلك أنّ رمضان كان ما يزال يحتفظ في النفس بشيء من بريقه القديم، ففي مطلعه كانت الدنيا ـ من حولك ـ تُشحن بألق شفّاف، والنهارات تكتسب بعداً آخر، بعداً غير منظور، مُستمدّاً من هالة القداسة التي كانت تحيط به ربّما، فيضحي كلّ شيء مُعمّداً بوهج من القناعة والرضا والنور! وفي مطلعه ـ أيضاً ـ كان أبوك يمّون البيت بالدبس والتمر والبطاطا، مستضيفاً على مائدة الإفطار بعضاً من الأصدقاء أو الجيران، فينقلب البيت إلى خلية نحل تمور بالحركة والنشاط والبشْر! إلا أنّ اللحظات التي لا تُنسى بالنسبة لك تظلّ متمثلّة في تلك الهنيهات التي كنتَ تتكّئ فيها على الحائط الغربيّ للدار في انتظار مدفع الإفطار، وحين ترتفع الغمامة السوداء الناجمة عن إطلاقه فوق تل "غويران"، متداخلة بصوت الآذان، كنتَ تسبق صوت المدفع نحو باب الدار، لتندسّ بين أبيك وأمك المتحلّقيَنْ حول سفرة الطعام، التي كانت تحمل صنفاً خاصاً برمضان من كلّ بدّ! أمّا العالم الأكثر نشوة وسحراً فيظل متمثّلاً في عالم السحور الذي كان بهاؤه ينداح على حواف النفس، فأن تفيق ليلاً، فتشارك أبويك طعام السحور، ثمّ تنهض أمك المتلفّعة بملاءتها إلى الصلاة، وتدعو الله أن يغفر ذنوبكم، فيما يتمتم أبوك ما يحفظه من أدعية، وهذا كلّه في هدأة من الليل ، شيء رائع لا يتكرّر؛ وأخيراً يهلّ العيد، فأيّ فرحة لها أن تعادل فرحتك بالثياب الجديدة والسكاكر و"العيديّة" التي تخشخش في الجيب! أمّا إذا أبدى أبوك شيئاً من التباطؤ أو المماطلة في شراء ثياب جديدةلك، متعلّلاً بظرف ما، فإنك تحرد عن الطعام، وتتضامن أمك معك، حتى يضطر إلى الرضوخ لرغباتك، فإذا جاءت ليلة العيد؛ أخرجت أمك الستائر البيضاء المُزّينة بشغل الأبرة، وغطّت بها النوافذ والجدران، ومن يدري! فقد تبيّض الجدران نفسها بالكلس الأبيض، وتزنرّها بالنيلة الزرقاء، ثم تفرش البساط الصوفي ذا الرسوم الجميلة الملوّنة على الأرضية، فيبدو بيتكم شبيهاً بالجنّة التي كان أبوك يتكلّم عنها دوماً!
وفي صبيحة العيد كنتَ تفيق بعد نوم مضطرب، مليء بالأحلام العذبة، وكانت تلك الأحلام تختلط بأحلام اليقظة، بما يتعّذر ـ معه ـ فصلها عن بعضها، فتُخرج بنطالك من تحت الفراش الذي كنتَ نائماً عليه، فإذا به مكويّ كسيف صقيل! وتلبسه على عجل بعد أن فقد الصبر سطوته على النفس المتلهّفة، وتخرج على الرغم من أن الظلمة لمّا تمحّي تماماً، فتدخل مع أترابك بيوت الحي بيتاً بيتاً، من غير أن تسهو الذاكرة عن بيت واحد، إلى أن تمتلئ أكياسكم بالسكاكر والأحلام الملوّنة!
قُبيل العصر كنتم ترجعون إلى بيوتكم مُنهكين، جائعين، وسعداء بآن، وكانت أمك تنتظر أوبتك بفارغ الصبر، فلقد تأخّرتَ عن موعد الغذاء!
ـ تعالَ يا حبيبي! تعالَ، لقد جعتَ، تعالَ وكُلْ!
إنك جائع لا شكّ، ومُتعب، ولكنك مشغول بما هو أهمّ، فلقد عاد أبوك من صلاة العيد، وعليك أن تتحصّل على "عيديّتك" أولاً؛ على أن تزيد عن تلك التي أخذتها من الآخرين!
إيه! أيّ ذكريات، ولكن الغياب يقوّض الأيام في الذاكرة، فلا تتكرّر، بحيث يبدو الإمساك باللحظة المتصرّمة كمحاولة للإمساك بالسراب! حتى أمك ما عادت تلك الصبيّة المسكونة بالحركة، التي كانت تنفخ في الأشياء بعضاً من روحها، لتنبض بالحياة! لشدّ ما كسرها رحيل أبيك المبكّر! وهاهو شهر الصيام يلّوح بيديه مودعاً، وعيد آخر لا كالأعياد يجيء، ربما بتأثير من مواجع الفترة الماضية، فتناهض ممنياً النفس القلقة بجديد بدا موغلاً في النأي! وتتفكّر:
ربّما كان علينا أن نستفيد من القرارات التي أصدرتها الحكومة حول إعادة مصادرات التأميم إلى أصحابها في تعبئة الناس ضدّها!
وتتفكّر أيضاً: إذا لم نستطع أن ننظّم تلك التظاهرات والإضرابات التي عمّت البلاد في تيّار، فعلى هذه الأرض السلام!
وكان عليك أن تترجم ما يدور في ذهنك بصورة ما، فقلتَ لنفسك: أن نخطو خطوة واحدة، خير من أن نمضي العمر كلّه في الكلام!
وكان أن ضمّك "الاتحاد الاشتراكي" الوليد تحت جناحه، فانشغلتَ تماماً بما يجري!
- 2 -
وعلى نحو مفاجئ وقاصم هاجمك المرض، لكنك عرفتَ ـ فيما بعد ـ أن الواقعة لم تحدث بغتة كما تراءت لك لأول وهلة، وأن الكثير من الإشارات كانت تفصح منذرة، إلا أن جهلك بالعواقب من جهة، وميلك إلى تبسيط الأمور من جهة أخرى، حجبا عن ناظريك حقيقة ما يجري، فكان أن وصلت الأمور إلى مفترق صعب!
في البدء راحت آلام شديدة تغزو أسفل الظهر، بحيث لم تعد قادراً على ثني جذعك، أو رفع يديك إلى الأعلى إلاّ في حدود ضيّقة! بعضهم تكهّن بنقص في التكّلس، فيما تكهّن آخرون بلمعة في الظهر! هؤلاء اقترحوا أن تشرب بيضة نيئة كلّ صباح لمدة أربعين يوماً، واقترح أولئك نوعاً من اللبخات؛ التي ما عدتَ تتذكّر المواد الداخلة في تركيبها، بيد أن الألم تشدّد في ضغطه، وكان لا بدّ من عرض الموضوع على الطبيب، الذي أكدّ على الراحة التامة، فتمددّتَ على ظهرك أياماً عشرة، إذْ لم يكن ثمة خيار آخر! كان الأوان لدفع فاتورة وقوفك المديد في العراء بصيفه الخانق، وشتائه القارس قد أزف، وابتداءً بصبيحة اليوم الخامس أخذ الألم يتراجع موحياً بالشفاء! فالتحقتَ بفرقتك ثانية، وغرقتَ في دوامة العمل، ذلك أنك كنتَ تجهل بأنّ مرضك علّة ميكانيكية؛ ستتفاقم إن رجعتَ إلى الأعمال المجهدة، ولم يلبث الألم أن هاجمك متشدّداً في ثورته، بحيث أضحت أي حركة معادلة للموت، ولم يقتصر الألم على أسفل الظهر في هذه المرة، بل اتخّذ لنفسه مساراً آخر يتفرّع عن العمود الفقري نحو المفصل الحرقفي، فامتداد العضلة الخلفية للفخذ والساق! ولم يكن ثمة مناص من مراجعة الطبيب ثانية! لم تكن قد سمعتَ بالتهاب العصب الوركي، أو فتق النواة اللبيّة من قبل، و لهذا أقلقك الاقتراح الغريب !
ـ أخ أحمد، أنصحك بأن تعرض نفسك على أخصائي في الأمراض العظمية أو العصبية! سافر إلى "حلب"، واستشر طبيباً هناك!
وتهاويتَ على المقعد متفكّراً، لكنه لم يتركك لهواجسك طويلاً!
ـ لا شيء مهمّ يا أخ أحمد! فقط أريد أن أطمئن عليك!
ـ ولكن إلامَ تذهب أنت في حالتي يا دكتور!؟
ـ لستُ متأكّداً! ربما تكون مصاباً بالديسك!
كانت التسمية غريبة عليك، فتململ الخوف الهاجع تحت الجلد، وتساءلت بحيرة:
ولكن أين العلاقة بين العمود الفقري، والألم المنتشر على امتداد القدم اليمنى!؟
وانتبه الرجل إلى شرودك، فقال:
ـ أخ أحمد، لا تتوهّم مسبقاً! سافر أولاً، وعندما تعود سنرى!
وغادرتَ العيادة ذاهلاً! في الخارج كانت الشمس شعاعاً واهناً يمتصّه ضباب خفيف، غير أنك كنتَ منشغلاً عمّا حولك، فأنت لم تسافر خارج حدود المحافظة من قبل، ولا تعرف كيف ستتدبّر أمورك هناك! كان السفر إلى "حلب" معادلاً لأن تدفع سبع ليرات في الذهاب، ومثلها في الإياب، وربما استتبع الأمر ليرتين أو ثلاثاً للفندق عن الليلة الواحدة! ثم أن الطبيب سيطالبك بعشر ليرات على سبيل الكشف، هذا إذا لم يطلب صوراً وتحاليل مختلفة! أنت لم تتفكّر في الطعام طبعاً، ربما لأن رغيفاً من الخبز كفيل بحلّ المشكلة، ولكن ماذا لو جنحت الأمور نحو العمل الجراحي!؟
وراحت تلك الأسئلة تلهج في طلب الأجوبة، لكن "خليلاً" تدّخل ليمنعك من الاسترسال فيها!
ـ يا أحمد أنت تنظر في الأمور مجتمعة، فتعظم في عينك! ثمّ من يدري يا أخي، فقد لا يحتاج موضوعك في النهاية إلى أكثر من زيارة للأخصائي!
ـ ولكن! فاحتدّ:
ـ دعك من "ولكن" هذه! تدبّر أمرك في السفر الآن، وفي ما بعد سيكون لكل حادث حديث!
فسافرت إلى "حلب"، لتخطّ الذاكرة في سِفْرها ذهول الروح أمام أبهّة مدينة ملأى بالعمارات الشاهقة، مزدحمة بالعربات المختلفة، وقرميد المدن ذي الأصول القديمة! كان الطريق إليها طويلاً، فاستيقظت هواجسك ثانية، لتسطّر أسئلة الغريب في ذاكرة السفر، في حيرته من مثل أين تنام!؟ وكيف السبيل إلى عيادة الطبيب!؟ ماذا لو تهتَ في بحر هذه المدينة الكبيرة!؟ وهل ستكفيك النقود التي تحملها معك!؟ وهكذا ظلّت الأسئلة تأخذك وراءها، إلى أن توقفّت السيارة في ساحة "باب الفرج" التي عرفتَ اسمها فيما بعد، فنزلتَ منها مُشعثاً، مُنهكاً، وتلفتَّ حولك بحيرة!
أين أنت!؟
ومن فوره تمطّى الذهول في وهاد النفس!
من أين تجيء كلّ تلك الحشود!؟
كان الناس يتدافعون من حولك جماعات، فتغلبّتَ على تردّدك؛ و استفسرتَ عن فندق تنام فيه! وبدوره راح الجوع يضغط، فرشوته ببضع لقيمات، ثمّ أويتَ إلى غرفتك بالفندق لترتاح! ولمّا جاء الصباح؛ قصدتَ عيادة الطبيب القريبة من الساحة، فنهض رجل كان قد تجاوز العقد الرابع من عمره بقليل من خلف الطاولة!
ـ أهلاً، أهلاً سيد أحمد، تفضّل!
ونابت الرسالة التي كان طبيبك قد كتبها في الكلام بدلاً عنك!
ـ لابأس يا سيّد أحمد، ولكن هل تتمدّد قليلاً!؟
وتأملّ في الصورة الشعاعية التي كنتَ تحملها مليّاً، ثمّ رفع قدمك اليسرى إلى الأعلى، فلما جاء دور اليمنى؛ أبت أن ترتفع، وراحت مكامن الألم تنزّ، فربت على كتفك!
ـ حسناً، حسناً، هلاّ جلستَ!؟
وأنشأ يتحرّى المنعكس العصبي عندك بوساطة مطرقة صغيرة مُغلفّة بالبلاستيك الأسود!
ـ آهّا، سيّد أحمد أريدك أن تتمّشى على رؤوس أصابعك!
فمشيتَ بشيء من التعثّر!
ـ يكفي يا سيّد أحمد، يكفي! والآن امشِ على عقبيك لأرى!
وامتثلتَ، فتنهّد قائلاً:
ـ سيّد أحمد، ثمة انقراص في المستوى الواقع بين الفقرة القطنية الخامسة والعجزية الأولى! حالتك واضحة تماماً، ولا أعتقد أنك تحتاج إلى صورة شعاعية جديدة! باختصار يا سيّد أحمد فأنت مصاب بالديسك!
وكانت المسألة تشكو شيئاً من الغموض بصورة ما، فسألته:
ـ وماذا تريدني أن أفعل يا دكتور!؟
ـ قبل كلّ شيء عليك أن تبدّل العمل الذي تقوم به!
ـ كيف!؟
ـ لا تخف، سأزوّدك بتقرير طبيّ، وعندما تعود إلى بلدتك عليك أن تتقدّم بطلب إلى دائرتك، لكي تحولّك إلى اللجنة الطبية لفحص الموظفين، وفي ضوء التقرير الذي سأكتبه لك، فإنها ستقرّر نقلك إلى عمل إداري!
وكان ذهنك يشتطّ في اتجاه آخر، فسألته بقلق:
ـ وهل تعتقد بأنني سأحتاج لعمل جراحي!؟
ـ أوهّو! لا … لا! لقد شطحتَ بعيداً يا سيّد أحمد! أنت ما تزال شاباً، و في مثل حالتك نفضّل أن نجرّب العلاج المحافظ، أمّا المداخلة الجراحية، فلا نلجأ إليها إلاّ إذا فشل العلاج المحافظ! على كلّ حال تلك أمور يعود تقديرها لي؛ فدع عنك هذه الهواجس! سأصف لك بعض الأدوية، ولكن عليك أن تتذكّر دوماً بأن الراحة هي نصف العلاج! وأنا أفضّل أن تتمدّد على فراش قاس، وألاّ تنهض إلاّ لقضاء حاجة، وبعدها سنرى!
وتركتَ "حلب" وراءك! كان كلامه قد بعث في نفسك شيئاً من الطمأنينة، من غير أن يخلو الأمر من بعض المنغصات التي تتعلّق باللجنة الطبيّة، وتغيير العمل، لكنك أرجأتَ المسألة إلى ما بعد عودتك!
- 3 -
ثم ماذا بعد حساسيتك المفرطة تلك!؟
الإحساس بالعجز، أم المرض، أم الانقطاع المديد عن الناس والحياة الاعتيادية!؟
ترى أيّهما يأتي قبلاً، وأيّهما بعد!؟ أيّهما السبب الذي يفضي بالآخر إلى تلك الحال، وأيهما النتيجة!؟
ساعة إثر ساعة كان الوقت يمضي وئيداً، وأنت مستلقٍ على ظهرك، عاجز عن الحركة تقريباً، إذْ باستثناء قضاء حاجة ما كانت الحركة محظورة عليك تماماً، ربّما لأن التحسّن كان شديد البطء هذه المرة، فراحت الأسئلة تتلاحق، ليتضافر اليأس مع الملل، ويتراكم بكلّ سواده ومرارته في سراديب الذاكرة المكتظّة بدماملها!
ثمّ ماذا لو أقعدك المرض!؟
وعند هذا السؤال- على وجه التحديد- كان كلّ شيء يلبس سواده الخاص، بينما يرين سكون مميت على الروح المتشرنقة بيأسها وخوائها! إلا أن بقعة ما، بقعة نائية في الأعماق ظلّت تدرك بأن إحساسك بالعجز ما هو إلاّ نتيجة وليس سبباً، ذلك أن المـرض كان قد فرض عليك فسحة إجبارية طويلة تتفكّر خلالها في حالك، وفيما تخبئّه لك الأيام، فأخذتَ تدرس الاحتمالات كافة، لكنّها بعيداً عن كلّ مؤشّر بدت لك مؤسية! لم يكن مرضك هو السبب الوحيد في حساسيتك تلك، إذْ هاهي الأيام التي تلت عودتك من "حلب" تفاجئك بكل غريب، ربّما لأنّك كنتَ تتوهّم بأنك تعرف دائرتك جيداً، لكنك اكتشفتَ بأنك مخطئ، فلقد رفضت طلبك الذي تلتمس فيه عرضك على اللجنة الطبيّة!
والآن!؟
أنشأ السؤال يسطّر نفسه كهمس حائر ينثّ من مسام الجلد، وفي غمرة الذهول جاءك الحلّ الذي تاه عنك من أحد الزملاء:
أنْ وسّط أحد المتنفذيّن بالموضوع!
ولمّا لاحظ حجم الدهشة التي انداحت على ملامحك، أردف:
ـ ما بك!؟ ألستَ من سكّان هذه الأرض!؟ ألا ترى إلى ما يجري من حولك!؟
ولكن حالتي واضحة وضوح الشمس في يوم قائظ!
هذا ما أرادت النفس أن تجهر به في ردّة فعلها الغاضب! بيد أنك ما إن هدأتَ، وتفكّرتَ في كلامه ملياً، حتى وجدتَ فيه الكثير من الصواب، فالتجأتَ إلى عبّ الصمت هامساً:
هكذا هي الأمور إذن!
كنتَ تتوهّم بأن الأيام المكفهرّة قد رحلت عن حياتك، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت العكس، وأخذت صورة مُضبّبة للأيام المقبلة تلوح في الذهن، وتدفع الأحاسيس الغافية نحو الحافات، إذْ كان عليك أن تتفكّر في حلّ يحفظ لك ماء الوجه، فلم تجد مخرجاً آخر، وفي هذه المرة وافقت الدائرة على ما سبق لها أن رفضته! فتساءلتَ:
ولكن ماذا لو وقع لك أمر مماثل أمام اللجنة الطبية لفحص الموظفين!؟
وبحسب ما جرى، فإن هواجسك لم تكن بغير أساس، إذْ ما الذي تتوقّعه من أناس لا تعرفهم، إذا كانت دائرتك قد تصرّفت بما يخالف واقع الحال!؟ هنا استطعتَ أن توسّط البعض في المشكلة، فماذا ستفعل هناك!؟
وراحت أعصابك تتشظّى في فضاء تساؤلاتها خلف الاحتمالات المختلفة لإمكان ما قد يحدث، لكن موافقة اللجنة على طلبك أعاد لتلك الأعصاب شيئاً من هدوئها!
غبّ أيام كلفّوكَ بعمل إداري في مديرية الزراعة، فابتعدتَ عن مرسح الأحداث الأخيرة قليلاً، لكن ذلك الابتعاد لم يفلح في كبح مخاوفك، فأنشأتَ تتأمّل في الدلالات والمعاني التي تكشّفت عنها أحداث الأيام القليلة التي تصرّمت، وفي غياب من حسّ الأمان أخذتَ تتساءل عن المصير الذي ينتظر عائلتك فيما أنت عاجز وأعزل! كان قلقك ينصبّ بالدرجة الأولى على ابنك، لأنّ أمك امرأة كبيرة في السن، قليلة المطالب، وكسرة من الخبز تسدّ حاجتها! وزوجتك امرأة صابرة، مدبّرة، ولن يُعييها الرغيف أبداً، أمّا ابنك الصغير الذي عرفتَ بوجوده في لحظة تختصر العمر كلّه في خانة النشوة، وآنَ جاء ملبيّاً لهفتك ، كان للأرض رائحة عشب الغابات وشذى الزيزفون! أمّا ابنك ـ هذا ـ فهو صغير ما يزال، وأنت تخشى أن تظلمه الحياة كما ظلمتك! لذلك ربّما أخذ إدراك مبهم يتململ، ثمّ يتبلور ويتضح تدريجياً، إدراك راح يقرّ بأن "خليلاً" و "إبراهيم" كانا محقيّن في ما ذهبا إليه حول ضرورة انضمامك إلى النقابة، وأخذ هذا الإدراك يكبر شيئاً فشيئاً، إلى أن انضممتَ إليها!
لم يكن ثمة مَلْمَح واضح للعمل النقابي في الذهن، فأنشأتَ تجتهد في ذاك الاتجاه، متوهمّاً بأن الأمور مُيسّرة، مرهونة بالإرادة والتصميم، إلا أن الواقع العملي فاجأك بأنّها ليست كذلك، وببطء وعناء شرعت صورة ابتدائية للعمل النقابي تلملم نفسها،
بينما راحت القراءات والحوادث المستجدّة تصقل تلك الصورة يوماً بعد يوم، ثمّ أنّ "خليلاً" لم يأل جهداً في كشف ما استغلق عليك من مفاهيم، ولم تكن المثابرة لتنقصك،ربما لإحساسك المرمض بالظلم والفوات!
فهل كان الزمن قد ظلمكَ حقاً!؟
لكنّ الإجابة على سؤال كهذا لم تكن مجدية، فيما النفس ما تزال ترزح تحت وطأة شعور كذاك! شعور يرى بأن العالم المسكون بالعدل والسلام ما يزال بعيد المنال! ثمّ أنها لن تكون إجابة محايدة وموضوعية، لكنها ستقف على سرّ تعاطفك مع المظلوم تارة، وسخطك على النفس العاجزة؛ المتألمة من ضآلتها تارة أخرى، وستفسّر لك ارتفاع صوتك في وجه مظلمة أصابت عاملاً هنا، أو حيف لحق بعامل هناك، من غير أن تأبه بالنتائج، لتفتقد علاقتك مع الإدارة إلى المودّة! وكان غياب التفاهم بينكما مُتوقّعاً، لكن الذي بدا لك غير مفهوم، هو ذلك التماثل المقيت بين موقف الإدارة ذاك، وموقف غالبية أعضاء اللجنة النقابية، بما كان يدفع الأعصاب إلى حافات اشتعالها!
ولكن أليست مهمتّهم هي الدفاع عن حقوق العمّال!؟
بيد أن صمتاً عاجزاً عن التبيان كان يجابه ذاك السؤال، فتزداد عناداً، وتزداد صبراً، وتزداد إصراراً، ويوماً بعد يوم كانت الأرض تشتّد تحت قدميك، ترسخ وتتوطّد، ومن كلّ مكان، من فرق المساحة التي كانت تركب شفق الدروب، إلى لجان توزيع أراضي أملاك الدولة والاستيلاء التي لم يُكتب لمهامها إتمام الدرب بعد، فورشات الميكانيك، وجموع السائقين راحت العيون التي كانت قد أضحت موئلاً لعروق التعب الحمراء، والظهور التي كانت أعباء الحياة قد أحنتها؛ تدفعك إلى كفكفة مشاعر الإحباط، فلقد بدأتَ تلمس بوضوح التفاف العمّال من حولك، ما منحك ثقة كبيرة بالنفس وبالآخرين، فرحتَ تغزل صورة بهيّة للأيام المقبلة، تتعزّى بها عن أيامك الكالحة!
- 4 -
إنّه يوم من تلك الأيام التي يقال فيها بأنها لك، وليست عليك!كان شباط يجّر مؤخرته فوق الثلوج مندحراً، وقزعات من الغيوم البيضاء الصغيرة تتناثر هنا وهناك في سماء عميقة الزرقة، بينما راح آذار ينساب زلالاً من بين السطور، أمّا الأخضر الذي كان حتى الأمس القريب قد فقد ملامحه تحت وطأة عبث ثقيل للطين، فلقد راح يفتّر بالتدريج، وأنشأت الحيوانات التي نذرت نفسها لسبات طويل تستيقظ!
متوتراً قدام فسحة الدار أخذتَ تذرع المكان جيئة وذهاباً! كان الانتظار قد نال من الأعصاب المشدودة، فيما كانت الدار قد انقلبت إلى خلية تعجّ بحركة محمومة، لكن الصغيرة التي أصرّت على استهلال حياتها بالبكاء أخيراً، أطفأت رماد الأعصاب المشتعلة بقلقها، فدخلتَ بلهفة:
ـ الحمد لله على سلامتك يا أم خالد!
وانخفضت عيناها بذلك الخفر الأنثوي الذي ابتدأ بأمنّا حواء ربما، وشعشعت ابتسامة ذاوية فوق الوجه المُنهك بآلام الطلق والولادة!
قلتَ: لن يشعر "خالد" بالوحدة بعد!
وقلتَ: ترى ما الاسم الذي يليق بهذه القادمة التي ملأت الدنيا صراخاً!؟
وانشغلت الأسرة باستحضار الأسماء التي يمكن أن تُطلق عليها، ولمّا تبرعم الاسم في المخيلة؛ شقّت ابتسامة عريضة طريقها إلى زوايا الفم والعينين!
"سورية"! نعم "سورية"، فليس ثمة أسم أبهى من هذا الاسم!
ولم يلق اقتراحك أي اعتراض، فتفكّرتَ: إنْ يأتِ الخير يأتِ فرادى، و إنْ يأتِ الخراب فإنه يعمّ! فمن يدري!؟ لقد كان ما مضى في مجمله انكساراً، وقد تسطّر هذه الصغيرة خاتمة لذلك الانكسار!
كان الذين قادوا ثورة آذار ضدّ الانفصال قد أطلقوا الأحلام والفراشات الملوّنة على أعنتّها، غير أن أكثر تلك الوعود ملامسة لشغاف القلب تمثّل في إعادة الوجه الوحدوي للبلد، فأخذتَ ترفل في طيوفك الملونة، وقلتَ: نحن أبناء اليوم، فلنر أي جديد يخبئه لنا! ورميتَ بأيام السجن الذي أطلقوا سراحك منه خلف ظهرك، أو هكذا خُيّل إليك، ذلك أنّ مؤشر الذاكرة راح يمّر على الأحداث سريعاً، مؤكّداً أن ثمة أحداثاً في الحياة لا يمكن للنسيان أن يمحوها!
ليلاً كان الوقت! وكانت الكائنات الحية قد تدثرّت بالصمت، حين أفقتَ من النوم على خشخشة خافتة، وأصختَ السمع جيداً، لكنك لم تستطع أن تتبيّن إن كان ما سمعته من دبيب فوق السطح هو وقع أقدام، أم خشخشة جرذ، فاستويتَ في فراشك!
ـ ما بك!؟ سألتك زوجتك!
ـ لا شيء! أريد كأساً من الماء!
كان السكون العميم يسرّ بنذير مُبهم، وفجأة علا صوت قرع على الباب، فالتقت العيون الدهشة متسائلة عمّن يكون الطارق في مثل ذلك الوقت، وارتفعت أمك بجذعها الأعجف!
ـ ولكن من الذي يمكن أن يقصدنا في هذه الساعة!؟
أمّا ما حدث بعدهــا، فلقد عبر الشاشة مُشوّشـاً، مُبهمـاً، فسقطت بعض
التفاصيل في شقوق الليل والنسيان، بحيث لم تتمكن الذاكرة من تسجيلها في دفترها المهترئ!
من يا ترى!؟
تمتمتَ، وفتحتَ الباب، وبسرعة؛ وقبل أن تستوعب الموقف امتدّت اذرع كثيرة من قلب الظلام، وجذبتك إلى الخارج، لكنك تمكنتَ ـ خطفاً ـ من التقاط الرسم الخارجي لأشباح بشرية متدثرّة بالعتمة فوق السطح، وخلف النافذة، وأمام باب الحوش، فتساءلتَ بدهشة:
كلّ هؤلاء جاؤوا للقبض عليك!؟ ثمّ تساءلتَ:
هل ولولت أمك بعد أن استوعبت المفاجأة!؟ وهل صرخت زوجتك بعد أن ندّت عنها تلك الشهقة!؟
لم تكن تعرف كيف جرت الأمور من بعدك في البيت، فلقد انطلقت عربة الجيب خبباً عبر الدروب المتدثرّة بالوحشة والظلام، بما لم يسمح لك بمعرفة المزيد!
وخالد!؟ فجأة قفز الوجه الطفولي البريء إلى ساحة الذاكرة!
ترى هل أفاق على ما جرى!؟ هل رأى شيئاً!؟ أنت لم تسمع له صوتاً، إلا أنك ـ الآن ـ لم تعد متأكّداً من شيء! يا الله! أيّ رعب سيتغلغل في مسامات الطفولة إن كانت عيناه قد وقعتا على شيء من المشهد!؟ ثمّ ماذا عن الجيران!؟ لماذا لم يخرج أحداً منهم من باب الفضول على الأقل!؟ إذْ من غير المعقول أن تكون أمك وزوجتك قد صمتتا بعد أن جرّوك بتلك الطريقة، ولا بدّ أنّ صراخهما قد زرع جنبات الليل بالرعب واللوعة، ولا شك أن الجيران قـد اجتمعـوا علـى صراخهمـا، فلمـاذا لم تسمع حركتهم!؟
لقد غادرت السيارة المكان مسرعة، وربّما لهذا لم تقع عيناك على أحدهم!
ولوّحتَ بيدك كمن يحاول أن يطرد ذكريات غير مُستحبّة، لكنها ظلّت تلحّ، وتطغى على السطح باندفاعات غير مُنتظمة! في ما بعد عرفتَ كيف تصرّمت ليلتهم المرتعشة بالرعب والعزلة! ذلك أنّهم لم يناموا، وكان ما يحدث غريباً عليهم، ولم يتبيّنوا جلية الأمر إلاّ حينما أسرّ إليهم أحد الجيران بحقيقة ما حدث! أمّا الأيام التي تلت، فلقد تحوّلت إلى سؤال مضنٍ عن مصيرك، سؤال ممضّ وجارح راح الصغير يلهج به في وجه المرأتين، مضاعفاً بذلك قلقهما، فيما هما عاجزتان عن القيام بأيّ خطوة!
كان البعثيون قد شاركوا في حكم "العراق"، بينما كان نصفهم السوري يقلب الأرض من تحت أقدام "الكزبري"، منادياً بتوجه التوأمين إلى "مصر" بشتى الوسائل! إنهم يسعون لإعادة الوحدة، وذلك بعد تنظيفها من أساليب حكمها الخاطئة! هذا ما كانوا يزعمونه على الأقل!
فهل هم بصدد ثورة!؟
وحده الزمان سيكشف عمّا يحدث! المهمّ ـ الآن ـ أنك عدتَ إلى حضن عائلتك، على ألاّ تتكررّ تلك التجربة مهما كان الثمن أو الظرف! أمّا تلك الأسئلة التي تدور حول مسائل من قبل "أين تجتمعون، ومن هم رفاقك في الخلية الحزبية، من هو المسؤول المباشر عنكم!؟" تلك الأسئلة التي راح المحقق يلاحقك بها، مدعيّاً النصح تارة " هاتوا قهوة للأخ أحمد!" و "هل ترغب في لفافة" و "أخ أحمد أنت عامل بسيط، ونحن لا نريد بك أذى! نحن نريد الرؤوس التي غررّت بك! فكّر في عائلتك وأولادك! إنهم يحتاجون إليك، وينتظرونك بفارغ الصبر!" حتى إذا أدركه اليأس من صمتك، توارت لغة النصح خلف تهديد مُبطّن "إذا كنتَ تظنّ بأنك ستصمد، فأنت واهم، وهذا العناد لن ينفعك في شيء! إنهّم في الخارج ينتظرون إشارة منّي، وعندها سترى ما لم تكن تتصوّره أبداً، أنا لا أريد أن أسلمّك إليهم، إنني أرأف بحالك، فلا تدفعني إلى مسلك لن يسّرك!" أمّا تلك الأسئلة فلقد تركتها وراءك، بيد أن الأمر لا يخلو من اندفاعات كريهة هنا أو هناك بتأثير ممّا تراه أو تسمعه، وعندها تستعيد تلك الإضاءة التي كانت تُسلَّط على عينيك، والعرق الذي كان ينشع عبر الجلد برائحته النتنة، والخلايا التي كانت تضجّ بالألم تحت ضغط العصيّ المُنهالة على باطن القدم، والسياط التي كانت تلاحقك هنا وهناك، لتتحامل على آلامك مُكرهاً، وتحاول أن تتفادى اللسعات الكاوية المُعلقة بذيلها ما أمكن! إنهم يريدونك حيّاً، لكن صمودك وصمتك يزعجهم، ولذلك فهم يفكّرون في جولة أخرى، فيكرهونك على الحركة حتى لا تصاب قدمك "بالغرغرينا"! لكن تلك الهذيانات والكوابيس التي أثقلت عليك, بدأت ـ اليوم ـ بالتباعد، فلم تعد تستيقظ فزعاً إثر صرخة ندّت عنك، وما عادت زوجتك تفيق هلعة، لتسألك عمّا ألمّ بك!
ـ لا شيء، لا شيء، هاتي كأساً من الماء!
وتبسمل وتحوقل مغمغماً، متسائلاً عمّا إذا كانت تلك الفترة ستظلّ ندبة متقرحّة تنزّ! وقد تحضرك صورة "صالح"، فتتساءل عن البئر التي تمتح تلك الوحشية نسغها منها! وتتساءل أن كيف تأتّى لذلك المستطيل البشري الجبار أن يتشوّه على ذلك النحو،بحيث أضحى إيلام الآخرين مصدر نشوةله!؟
وأخيراً، هاهو فاصل التعذيب يقترب من خاتمته، إذْ لا بد للسجين ـ في
النهاية ـ من الاحتماء بالإغماء عندما تخونه قدرته على التحمّل، فيلجــأ
ـ عندها ـ إلى عالم ناءٍ مناقض للألم، لكن دلو الماء حاضر لتحقيق معادلة متناقضة، فتتحول نقطة الماء التي عزّت خلال ساعات العطش الطويلة إلى مادة مُهرقة مجاناً ومعادية، فيما الأسئلة ما تزال تتلاحق!
من، متى، كيف، ولماذا أو أين!؟
إلاّ أنك لا تجيب، وهذا لا يعجبهم، فيتفكرّون في وسيلة أخرى تجبرك على الاعتراف بما يريدون، بالكهرباء مثلاً، لتتزلزل الأرض والسماء من تحتك، وينتشر الألم المميت في الخلايا المتشنّجة، حتى تشرف على النهاية أو تكاد، فتتساءل إن كانوا لا يتعبون! ذلك أنك عاجز عن فعل أي شيء، عاجز حتى عن الإفصاح بأنّك جاهز للإقرار بما يريدون، وهم يعلمون هذا! إنهم لا يضيّعون وقتهم، إذْ يكفي أن تحرّك سبّابتك لكي يتوقّف الضرب في التوّ! وترتسم شارات النصر على الوجوه، ولكن الويل ثمّ الويل لك، إن كانت سبّابتك قد ارتفعت لكسب استراحة بين فاصلي تعذيب، لأن وسائل التعذيب التي قد لا تخطر لك على بال ستنهال ـ آنئذٍ ـ عليك، فتتمنّى في كل لحظة أن تموت، وتستريح، إلا أن الموت سينأى!
أعادتك يد خالد من الرجعى، فانتبهتَ! كانت الأصابع الغضّة مشغولة باكتشاف العالم على طريقتها، فراحت تداعب وجهك الخشن، موقفة سيل الذكريات عند سؤال رئيس:
هل كنتَ ستنهار وتعترف لو كنتَ تتحصّل على شيء تعترف به!؟
وتراجعت النفس مُجفلة قرفة مـن فحوى السؤال، فشددّتَ العظـام الغضّة بقوة إلى صدرك،من غير أن تعي تماماً فيما إذا كنتَ تحميها أم تحتمي بها!
- 5 -
بكلّ المقاييس كان ذاك الصباح صباحاً عادياً؛ لا يختلف عن غيره من الصباحات التي كانت تتكرّر مع مطلع كلّ يوم، من غير أن يشعر المرء بها، أو يدرك أن عمره قد نقص يوماً آخر، فلم يكن حاراً ولا بارداً، ولم يك غائماً ولا صحواً، بحيث كان بإمكانه أن يمضي كغيره من الصباحات الباهتة التي لا لون لها ولا طعم، إذ أن خصوصية بعض الأيام مُستمدّة من الأحداث التي تلوح في أفقها، وتلوّنها بلونها، فلماذا اختارت أمك الرحيل في مُستهلّ ذلك الصباح من غير أن تزعج أحداً!؟ لماذا مضت بهدوء طيف من تلك الطيوف الكثيرة التي تمرّ بهذه الفانية من غير أن ينتبه إليها أحد، فلم تضطرب أو تصرخ، بل رحلت بلا تشبّث أو ضجيج، ليغيب مخلوق آخر من تلك المخلوقات التي يمتلئ العالم بها من غير أن يشكو منها أو يتأففّ!؟ ربّما لأنها بسيطة، متفانية، ومتواضعة في أحلامها، هذا إن لم تكن تلك الأحلام في الأصل مُنصبّة على أحبتّها من أخوة أو أولاد أو بنات، حتى أنّ موتها بدا كحدث عادي مُنتظر، إذْ لم يكن ثمة نواح زائد، ولم يكن ثمة ضجّة، لكن الأمر لم يخلُ من شعور بسيط بالذنب، ربما لأن المسكينة رحلت من غير أن يراها الطبيب! صحيح أنّها لم تكُ تشكو إليكم ، ولكن حالتها كانت واضحة لكم، وكنتم ترونها تدنو من منيّتها حثيثاً! كان هذا بينّاً في التهدّم الذي طال جسدها فجأة، وراح يعمل فيه كمعول حاد، في الذهول العميم الذي خيمّ على روحها وعقلها، في النوم القصير الذي كان يباغتها وقوفاً أو جلوساً، وفي أيّ وقت ، في الأحاسيس المرهونة لصالح ماض متسارع، والتي لم يعد يحرّكها شيء ـ اللهمّ ـ خلا تلك اللحظات القصيرة المتباعدة التي كان الصغيران يلجآن ـ فيها ـ لمداعبتها، وفي الذاكرة الملتاثة التي اختلطت فيها الأيام والأرقام والحوادث والتآريخ!لكنكم لم تعرضوها على طبيب، ومن غير أن تناقشوا الحالة في ما بينكم، تواضعتم على أنّ الحيّ أبقى من الميت، وأنّ مايُصرف عليها بغير فائدة قد يسدّ أفواهكم إلى حين!لم يكن تواطؤاً مُعلناً،بل كان نوعاً من الإجماع الُمضمر بأنّ دورها على المرسح قد انتهى، إجماع مقروء في عيونكم رحتم تدارونه لإدراككم بأن شعوراً كهذا لا يليق بالإنسان! وعليه فقد انقضت أيام المأتم بهدوء، إذْ أنكم كنتم تعلمون بما أضمرتم، فتحرّجتم من الموت ذاته في إحداث ضجة زائدة! ومن الماضي المتعرّج كلّه ظلتّ صورة واحدة تلّح على الذاكرة بإصرار، كانت تلك صورة الصبية البهيّة ـ التي كانَتْها أمك يوماًـ وهي تضمك في الحظيرة بقوة! وكان ذلك صباح يوم أقلّتكم فيه شاحنة إلى المدينة!
متحسّراً، مكفكفاً بداية إجهاش جاش في الصدر همستَ:
إنّا لله، وإنّا إليه لراجعون!
وقلتَ: لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلاّ به! ما مضى قد مضى، وما عليك إلاّ أن تعيد ترتيب أمورك،لكن اللغط الذي ترافق بمرور لواء "اليرموك" بالمدينة في ذهابه للقاء الأكراد، وإيابه لم يترك لك مثل تلك الفرصة!
ولكن كيف، ومتى!؟
وارتدّت الذاكرة إلى الماضي، صوب تلك السنوات التي أمضيتها هناك في "الجدَيدْة"! صوب محمد وطه وحسّو والمختار والفلاحين والنسوة و"الزركان"! ولكن أليس هؤلاء هم الناس الذين عشتَ معهم تلك الطقوس الرائعة المرافقة لذبح الخراف والعجول المُسمنّة؛ التي كانوا يشترونها صيفاً، ويسمنّونها حتى العشرة الأوائل من كانون، كي يبرد الجّو جيداً،فيأمنون فساد اللحم، ويعمدون من ثمّ إلى ذبح "الربائط"، ليرين على القرية جوّ من الأريحية والكرم، ويأكل الجميع من اللحم ما لذّ وطاب، ثمّ يُملّح الباقي أو يُفرم بشحمه، ويوضع على النار من دون ماء؛حتى يتحوّل إلى "قليّة"، فيرفعونها في صفائح أو دنان لأيام الشتاء الشحيحة!؟ أمّا إذا استمرّ الأزرق بغير منازع، ولم تتلبّد السماء بالغيوم الداكنة،تطيّر الفلاحون من تلك الهبّة الجافة لرياح الشمال الباردة، وخرجوا إلى القرية المجاورة في غزوة كاذبة، يلقون ـ خلالها ـ بسروال امرأة ثيّب في دنّ مختارها، ويسوقون ماشيتها على سبيل النهب المفتعل! وكان فلاّحو القرية الأخرى ـ بدورهم ـ يخرجون للتظاهر بالذود عن قريتهم، ثمّ يفرض الطرف المنتصر على الطرف الخاسر خروفاً! وربما عمدوا إلى التلّة بثيابهم التي ارتدوها بصورة معكوسة، يتقّدمهم إمام المسجد، وراحوا يتضرّعون إلى الله في طلب المطر، فإن تصادف خروجهم مع غيوم آخذة بالتلبّد، خرج الأولاد حاملين دمية خشبية تمثّل عروس المطر، وأنشأوا يهزجون:
عروسنا تطلب المطر!
وعجلنا يبغي العشب!
ونحن نرجو من الله مطراً!
وعندما يجتمع لديهم ما يكفي من البرغل ،كانت إحدى النسوة تطبخه لهم، فيأكلونه فوق البيادر!
كــان الأكـراد قـد تحركّوا ضدّ حكومـة المركز في شمال "العراق"، فأرسلت الحكومة لواء "اليرموك" لمعاضدة العراقيين، وأثار مروره بالبلدة لغطاً كبيراً، فأخذتَ تنبش في الذاكرة عمّا يشي بمقدمّات لذاك اللغط!
إذن فالأكراد ينظّمون أنفسهم،ولكن كيف سهت أذناك عن التقاط مؤشّر يكشف ما احتجب! لقد أقمتَ بينهم ردحاً،وعايشتهم لحظة بلحظة،فكيف لم توسوس لك الجدران بشيء!؟ هل حجبتْ براءة الطفولة عن الشبكية ما كان يدور في الخفاء، أم أنّ مطاليبهم لم تكن قد نضجت بعد!؟ أنت لا تنكر بأنّك أحببتهم، وأنّهم بدورهم أحبّوك، وعاملوك بالحسنى،وأنّهم آووك وحموك وأطعموك من خبزهم ولبنهم! كما أنّك لا تنكر بأنّك ابتعدتَ عنهم بعض الشيء بعد أن غادرتَ القرية، فلم تقم بينك وبين من عرفتهم هنا إلا أواصر محدودة! صحيح أن هذا طبيعيّ قياساً إلى نسبتهم من سكّان الحيّ، لكنّه في حال كحالك لا يبدو كذلك تماماً! بيد أنّك ـ في النهاية ـ لن تقبل بأيّ شيء يعيق مسيرة هذه الأمة، فهذا شيء وذاك شيء آخر، ولذلك ـ ربّما ـ فإنّ المناقشات المحتدمة كانت تنتهي إلى طريق مسدود، ذلك أنّ الآخرين قد يترسّمون خطاهم، فيما الانفصال ما يزال خرّاجاً مؤلماً في الصدر، وحتّى حين شكا أحدهم من الحيف الذي لحق به جرّاء إحصاء اثنين وستّين وتسعمائة وألف، فهو يشتري السكر والشاي والرز والزيت بسعر السوق السوداء، لأنّ اسمه لم يرد في عداد المواطنين، كما أنه لا يستطيع أن يعمل في المؤسسات الرسمية، فإنّه لم يلق منك أي تعاطف، بل انشغلتَ عنه بما يقلقك، ولم يكن ما يقلقك قليلاً!
- 6 -
قد لا تكتفي الأمكنة بشوارعها وأزقتّها وطرازها المعماري حتى توحي للآخرين بصورتها، فتروح تمتح من بشرها بأشكالهم وطباعهم وعاداتهم ما يعطي تلك الصورة ملامحها الخاصة، والبلدة التي شهدت شبابك واحد من تلك الأمكنة، فهي تتّسم بسمات خاصة تميّز أهلها عن سكّان البلدات الأخرى؛ إنْ على صعيد اللهجة، أو على صعيد الطباع الشخصية، رغم أنها ـ في الأصل ـ تنطوي في نسيجها البشري على فئات شتّى!
وإذا كانت الأعراف والعادات توحّد الناس في أنماط متقاربة، وتنسخهم على شاكلتها، فإن الأمر لا يخلو من شخصيات طريفة متفرّدة لا يطالها المنطق، أو التاريخ أو الذوق العام، شخصيات تعلو على الأعراف والتقاليد، فتخلط الحابل بالنابل، كما تخلط المزاح بالجدّ، وتبوح بالحقائق عارية، من غير أن ينالها العيب أو الإثم أو العقاب، وبمعنى ما فإنّ تلك الشخصيات تبدو في طبيعتها النفسانية، وسلوكها اليومي أقرب إلى التغريب في المسرح، مع فارق وحيد هو المكان، إذ أنّ المكان هنا هو تيار الحياة العريضة ذاتها! إنّهم ضمير المدينة التحتي وقاعها، فرسانها الذين لا يجدون أي فرق بين الهزيمة أو النصر، فلا غضاضة ولا نشوة، وبذلك يكسبونها علاماتها الفارقة! وقد لا يكون "فياض" أشهرها، لكنه بالتأكيد واحد من تلك الشخصيات التي لا تحتاج معها لأن تذكر اسم أبيها أو شهرتها، وذلك لأنه غنيّ عن التعريف، أمّا الذين يجهلونه، فلا شك بأنّهم سيتلمّسون الخلل في شخصيته، رغم أن تحديد مكمن ذلك الخلل خارج عن حدود الإمكان، إذ لن يستطيع أحد أن يتكهّن فيما إذ كانت العلّة تكمن في جذعه القصير المحنّي، أم في أطرافه القوية، وقد يتوقّف البعض عند شعره الخشن غير القابل للتسريح، أو عينيه الماكرتين اللتين لا تقدران على إخفاء مكرهما الصريح والحسّي، أو شكله العام الذي يقارب شكل القردة! وقد يصرّ البعض على التوقّف عند دواخل تلك الشخصية الغامضة وسلوكها المكشوف! و"فياض" هذا لا يستقرّ على حال، فهو اليوم يبيع الحلوى، لكنه في الغد سيعرض على الناس صحفاً ومجلات، في الوقت الذي كانت بضاعته ـ فيه ـ بالأمس مقتصرة على أوراق "اليانصيب"، لكن سبب شهرته لا يرجع إلى هذا الأمر أو ذاك، بل يرجع إلى المذياع الصغير الذي كان يحمله دوماً بالقرب من أذنه، ليسمع نشرة الأنباء، ثمّ يعيد قراءتها بصوته الجهوري في أزقة البلدة، مقلّداً في ذلك أسلوب مذيعيها! وما إن تقع عيناه على فتاة جميلة حتى ينساق وراءها من مكان إلى آخر، رافعاً من وتيرة صوته، على أمل أنْ تتنبّه إليه، ثمّ ينتهي به الأمر إلى زاوية تخفيه عن العيون قليلاً أو كثيراً، ليمارس فيها العادة السرّية من غير أن يأبه بانكشاف أمره!
أمّا مجموعة "حمّالي السّلة" في سوق الهال فهم حلقة مهمّة من حلقات تلك السلسلة، فهم يقومون بدور وسيط بين الباعة وزبائنهم صباحاً، ويقتصر ذلك الدور على إيصال الخضار واللحوم إلى بيوت أولئك الزبائن حتى تخوم الظهر، أمّا بعدها فلابأس بشيء من اللهو، إذْ هاهم قد انقسموا إلى فريقين متناحرين، لتبدأ الحفلة التي ليس لها نظير، فتغادر الطماطم المتعفنة حاوياتها، وتتطاير عبر الأزقّة المسقوفة، تلطّخ الجدران والأبواب والزوايا التي تدارى أفراد المجموعتين خلفها، وتنداح على الأرضية المغمورة بالسوائل والمياه العفنة، فتلقي فوق قذارتها بقذارة جديدة، من غير أن يستطيع أحد التدخل بينهم، أو تفريقهم! والويل ثمّ الويل لبدوي نسي نفسه، أو قاده حظّه العاثر إلى مقربة من المكان، إذْ أنه لن يفلت ـ حينئذ ـ من لطخة حمراء على الظهر أو الحطّة، وقد يرتمي العقال عن رأسه، غير أنه لن يجرؤ على الاعتراض! وعندما تتدثّر الأزقة الشاحبة بالعتمة مساءً، يرجعون إلى بيوتهم ملوحيّن مُنهكين، ويخلعون سلالهم عن ظهورهم، ثمّ ينامون من قبل أن يغسلوا أيديهم أو وجوههم أو أرجلهم! إنّهم ينتمون إلى زنّار الفقر الذي بدأ يحيط بالبلدة، وبدعة كهذه لم تصلهم بعد! لكنهم على الشقاوات التي يقترفونها لا يقربون حمّالي "كراج النجمة"، ذلك أن هؤلاء أكبر سنّاً، وأكثر تماسكاً، وهم فوق هذا وذاك مُسلّحون بخطّافات حديدية ذات مقابض خشبية تساعدهم في العمل، أو في المشاحنات!
ولا تتحرّج عصبة "الكراج" تلك من فرض أتاوات صغيرة على الدكاكين التي تسوّر الساحة، أو تتفرّع عنها! إنّها بمعنى ما منطقة نفوذهم، وقد يُقدم أحدهم على استعارة تفاحة من هنا، أو عنقود عنب من هناك، من غير أن يدفع الثمن، لكن أصحاب المحلات يغضّون النظر عن الأمر، فهم يعرفون بأنّه فرد في مجموعة متراصّة متعاضدة، وأنه يقترف تلك "الجرائم" الصغيرة تحت مظلّة الإحساس بالقوة المُستمدّة من انضوائه تحت لواء جماعة متكاتفة، قد لا تجد غضاضة في الإقدام على عمل أكثر عنفاً إن وجدت من يجابهها، أو يشجعّها!
وإذا أُخذت الأمور بعواهنها، فإنّ أحداً من أفراد تلك المجموعات لم ينجح في أن يكرّس نفسه مثلاً أو قدوة أمام الآخرين، ربّما لأنّ ملامحهم امحّت في ملامح مجموعاتهم، فخصوصيتّهم هي نتاج كلّ لا نتاج جزء! إنهم جسد واحد بأذرع وأرجل كثيرة، لذلك فهم عاجزون عن تأكيد حضورهم في أذهان مَنْ هم أصغر سنّاً، على العكس من "كرمو" و "غنّاوي" و"حنّا النجار" و "عثمان" و "إبراهيم علي الدرة "!
و "كرمو" هو تصغير لاسم "عبد الكريم"، بما لا يتضّح معه إن كان مرد ذلك التصغير يرجع إلى التحبّب أم إلى التحقير، بيد أنّ المنطق يقول أنْ لا سبب يدعو الآخرين إلى تحقير الرجل، وإذن فلا بد أنه تصغير موغل في سنوات طفولته، ولا ينتمي إلى صورته الراهنة في شيء! ذلك أنّ "عبداً" استطاع أن يحوز بطولة الجمهورية في كمال الأجسام ، في الوقت الذي بوّأته دماثته مكانة تعلو على الحزازات والخصومات المستفحلة بين الآخرين!
أمّا "عبد الغني " أو "غنّاوي" فهو لا يقلّ عنه شهرة! إنّه بطل آخر من أبطال كمال الأجسام في البلدة، وهو يستأثر بمحبّة وإعجاب الصبية الذين يتوقون من كلّ قلوبهم إلى امتلاك عضلات فولاذية كعضلاته! إلا أن "حنّا النجار" هو النموذج الأكثر طرافة في ذلك العقد، ربّما لأنه يتسّم بطبع ناريّ لا يخلو من بعض رعونة، في حين تعطيه لحيته المُشذّبة "كاراكتيراً" خاصاً، يؤكّده سلوكه المتعالي في الطريق! أمّا في الحفلات فهو يصرّ على القيام بكلّ ما هو غريب وصعب، كأن يلتهم نثار الزجاج مثلاً، أو يسحب عربة بأسنانه! وقد يلوي أطواقاً من الحديد السميك بيديه المجرّدتين، أو يكسر صخرة كبيرة فوق صدره العريض! فيما يمثّل كلّ من "عثمان" و "إبراهيم علي الدرّة" نموذجين مختلفَيْن عن سابقيهم، فـ "عثمان" بدوي صحيح الجسم، تمكّن من أن يحقّق لنفسه قوة كبيرة بالمران، لكن بدنه لا يخلو من بعض ترهّل، فهو يجهل كلّ شيء عن قواعد التغذية، لذلك تراه شرهاً إلى الطعام، متوهّماً بأنّه يمدّه بالقوة، من غير أن يميّز في ذلك بين البروتينات والنشويات مثلاً، والمسألة ـ في النهاية ـ تدخل في باب التباهي؛ على أساس أنه يستطيع ما لا يستطيعه غيره! أما "إبراهيم" فهو لا يقلّ عنه قوّة، إلاّ أنّ قوّته ـ تلك ـ تقترن بالكثير من التهوّر والحماقة، تلك الحماقة التي ستدفعه ذات ليلة إلى مهاجمة فتاة جميلة أثناء عودتها إلى دارها القريبة من خزّان المياه، لكن الفتاة ستعضّه في شفته السفلى، وستنجح في التخلّص منه، وترك ندبة دائمة على تلك الشفة، وسينتهي به المطاف إلى السجن لبعض من الوقت، إذْ أنّه من فرط حماقته لن يداوي شفته بعيداً عن العيون، بل سيقصد مشفى البلدة مدّعياً بأنّه سقط عن ظهر الحصان، فتضع الشرطة يدها عليه! ولا شكّ في أن تلك النماذج هي فتّوات بمعنى ما، ولذلك فإن العلاقة بينهم تفتقد إلى المـودّة، لأنهم لا يكتفون بمناطق نفوذهم، بل يسعون إلى بسط سطوتهم على الأحياء المجاورة، وعندها ينشب بينهم صراع مريّر! ثمّ أن البلدة ما تزال صغيرة، ولابدّ للوجوه ـ فيها ـ من أن تتقابل، فلا تخلو تلك المقابلات من جرح في زند "حنّا" إثر طعنة سكيّن من "إبراهيم" غبّ معركة صغيرة لا تستحق الذكر، أو سنّ أمامية مكسورة جزئيّاً في فم "إبراهيم" بعد عراك مع "حنّا" أو مع آخرين! وإذا كانت مجموعة "حمّالي السلّة" أو حمّالي مرآب "النجمة" لا تملك أن تضاهي هؤلاء الفتوات، فهي قطعاً لا تحوز الأساس الذي تتقدّم به على مجانين البلدة؛ الذين يستأثرون بعطفها وسخريتها بآن، وعليه فإن أسماء "فياض" و "سيبورة" و "عزيزو" و "قاسو" و "ظافر" هي نجوم حقيقية في سمائها! ثمّ أن هؤلاء المساكين هـم الـمادة الأولية التي ينصّب عليها لهو تلك المجموعات ومجونها، فقد يهربون بالحلوى التي يلتقط "ظافر" رزقه بوساطتها، و "ظافر" لا يستطيع اللحاق بهم، لأذيّة ما في جهازه العصبيّ ـ الحركيّ، إنّه بطيء الاستجابة، لذلك فإنّه يسترحمهم لكي يعيدوها إليه، مظهراً لهم المسكنة حيناً، والغضب حيناً آخر، ولكن بلا أيّ جدوى! وقد يعنّ لهم أن يخطفوا معطف "عزيزو"، ويستولوا على الدريهمات القليلة التي تصدّق بها الناس عليه، فيجنّ فوق جنونه، ويلاحقهم من مكان إلى آخر، تسبقه شتائمه البذيئة المصحوبة بحركات مشبوبة مؤكّدة، إلى أن يستردّ معطفه، وقد يفتعلون معركة مع "سيبورة" لكي يبعدوها عن كوخها، ثمّ ينهبونه، ويبعثرون محتوياته، مؤكدّين أن خطوات اليفاعة الهوجاء قد مرّت بالمكان! إنهم لا يعرفون لماذا يتصرفّون على ذلك النحو، ربما لأنّهم لا يعون بأنّ حياتهم بائسة وشقيّة، وأنهم بتلك الطريقة إنّما ينفسوّن عمّا في صدورهم، منتقمين من حرمانهم، من غير أن ترتبط الوسائل ـ في أذهانهم ـ بالنتائج، وتستمرّ حياتهم على ذلك المنوال رتيبة بطيئة ومملّة! لكنّ لوحة البلدة لن تكتمل إلاّ إذا مرّت العين الملاحظة على حشّاشيها، وصيادي الأسماك، وروّاد المقاهي الصغيرة ذات الكراسي الواطئة خلف كأس من الشاي، أو نفس من "التنباك"، حيث الدخان الُمفعم برائحة النميمة، وآخر أخبار السياسة والتجارة والدعارة والفضائح المالية أو الأخلاقية التي تجري في الخفاء! بيد أن الألق الذي لا يُقاوم يظلّ من نصيب لاعبي كرة القدم، إذْ هاهي البلدة الوادعة بصغيرها وكبيرها تنقسم بين ناديي "الحسكة" و "الخابور" ليقف نصفها في صفّ الأول، بينما يقف نصفها الآخر إلى جانب الثاني، فلا يستطيع نادي "الجزائر" أو نادي "الشباب" أن يثبتا موجوديّة إزاء الناديَيْن السابقَيْن! أمّا "أبو كربو" و "جورج مختار" و "فيزي خليل" و "نبيل نانو" فهم أقمار بهية تحلّق في فضاء المكان، وقد لا يدانيهم في شهرتهم ـ تلك ـ إلاّ سيمون كَروّم لاعب كرة السلّة العتيد!
ولكن هل كنتَ تدري أنّ تلك الوجوه ستغيب يوماً، أو تفقد ألقها، وتنزوي في ركن مُهمل، فيغمرها النسيان!؟ وأنّ هذا ربما تزامن مع ظهور قطب كبير في الشرق، راحت أفكاره تراود الكثيرين على حساب المكانة التي كان الغرب يتربّع عليها بشكل تقليدي، باعتباره مركز الحضارة العالمية في الأزمنة الحديثة، لا سيما حين طالت تلك الأفكار مسؤولين في مفاصل هامة من الدولة! ليس على مستوى القطر فحسب، بل على امتداد الخارطة التي كانت تنضوي على ما يُسمّى بالعالم الثالث، فتفتقد البلدة تلك السلال المعدنية التي كانت تتشبّث بخاصرة أعمدة الكهرباء، كي يلقي الناس بأوساخهم فيها، وتختفي المربّعات الترابية الصغيرة المخصّصة لزراعة الأشجار من أرصفتها!؟ ولكن هذا لا يعني أنّ ظهور ذلك القطب هو السبب الوحيد في غياب تلك المربّعات، فلا شك في أنّ يأس البلدية من صلاح حال الناس، وانعدام تفهمّهم لضرورة الحفاظ على نظافة البلدة؛ قد لعب دوره في غياب تلك السلال والمرّبعات، إذْ كم من سلّة غابت إثر ليلة ظلماء، وكم شجرة زُرعت في الصباح، ثمّ مرّ بها أحد مربّي الماشية في غدوه من السوق أو رواحه، فاقتلعها ليهشّ بها على دوابه، وحين أحاطت البلديّة الشجرة الجديدة ـ التي زرعتها بدلاً عن تلك التي اقتُلعت ـ بمشبّك حديدي يحفظها، غاب المشبّك نفسه مع الشجرة! فما عادت البلديّة تسعى إلى تقليد البلديات في الغرب، ولم تنجح في إرساء القواعد لبلدة نظيفة مثل المدن في الشرق الاشتراكي، وهكذا تحولت البلدة إلى مكان مُكتظّ وقذر، يسفّه الغبار صيفاً، ويغمره الطين شتاءً! وقد ترغب في أن تضمّ سبباً آخر إلى خانة الأسباب السابقة، ذلك أن قوة الدولة وحضورها في الحياة اليومية راح يزداد يوماً بعد يوم، كما ازدادت هيمنة شرطتها ومخبريها وموظّفيها وأجهزتها ومؤسّساتها المنظورة وغير المنظورة على كلّ مرفق، بحيث راح صوتها يعلو على كلّ صوت! كانت البنى العشائرية قد تراجعت كثيراً، وما عاد رجال من وزن "عبد العزيز المسلط"، أو "أكرم حاجو"، أو "آل مرشو" سادة مُطلقين في الريف أو المدينة، وتحوّلت البلديات بالتدريج إلى مجموعة من الموظفين يهمّها ـ أولاً ـ ما تقبضه في مطلع كل شهر، كما يهمّها أن تظلّ الوظيفة في حدود المفاهيم السائدة في البلدان المتخلّفة، ذلك المفهوم القائم ـ أساساً ـ على مبدأ الامتيازات، وألاّ تتحوّل إلى دورها الأساسي كقطّاع خدميّ، وبالتالي فإنّها لم تكن ترى كبير حرج في تراجع الخدمات القائمة!
وهكذا ستأفل عن سماء البلدة الكثير من الشخصيات التي وشمت أزقتها بعلامات مميِّزة، فيغيب "علو" أياماً ثمّ يكتشف الأهالي بأنّه مات في كوخه بصمت، وأنّ كلابه لم ترَ غضاضة في نهش جثته عندما أمضّها الجوع في الكوخ المُغلق، ولم تجد شيئاً تأكله، وتحصد المنيّة "أبو زهرة" درّة "كراج النجمة" اليتيمة، ودلاّلها الشهير، فيغيب قميصه المخطّط ذو المربعات، وتختفي قبّعته المتكسّرة الأطراف، ويغيّب الثرى جرمه الضخم المتناقض مع رأسه الصغير، وعينيه الحولاوين، يموت الرجل ذو اللسان اللاذع، فيرتاح مسافرو الريف من سخريته وقسوته! وتموت "سيبورة" في هدأة من الليل، فلا يشعر بهـا أحـد، وتنقلب العربـة السيـارة "بحنّـا النجـار" على الطريــق
القادم من "حلب"، فينهض مذهولاً، ويرى في تلك اللحظة الكاشفة السابقة على الموت منيّته، فيصرخ محتجّاً، أو مدهوشاً:
ـ حنّا يموت! لا..لا حنّا لن يموت!
كان شاباً قوياً، مُعتّداً بنفسه، فلم يصدّق بأنّه سيموت هكذا ببساطة، لكنه مات، وشهدت البلدة واحدة من جنازاتها الحافلة، التي طافت بشوارعها وأزقّتها على أنغام الموسيقى، فيما راحت الجموع تودّع صاحبها المطلّ من لحده ذي الغطاء الزجاجي المُكلّل بالزهور! واختطفت الغربة "سيمون كَروم" و "فيزي خليل" فتاهت الخطا بالأول خارج حدود القطر، بل خارج حدود القارة كلّها، إذ أنه استقرّ في واحدة من الأمريكيتين، وألقت بالثاني على أعتاب حاضرة البلاد بحثاً عن اللقمة ربّما، في حين انتهى " إبراهيم علي الدرّة" إلى أحضان جنون غريب أحاله إلى شخص خائف و مسكين، بعد أن كان يزرع الطرقات بجبروته وقسوته، واختفت ملامح "عثمان" طيّ بدانة مبكّرة تشي بالهرم، وتفرّقت الجماعات في دروب الحياة، فما عدتَ تصادف أحداً من "آل المرتضي" إلاّ إذا قصدتَ سوق اللحّامين، وما عدتَ ترى "غنّاوي" إلاّ إذا مرّ بك الدرب بحيّ "الناصرة"، ووقعت عيناك على صالة بيته التي حوّلها إلى ما يشبه نادياً لكمال الأجسام فيما درست آثار الكوخ الحجري الذي لم يكن يرتفع عن نصف قامة الإنسان، بعد أن تيبّس "قاسو" بداخله ذات صباح! غاب من غاب، وغادر من غادر، في الوقت الذي كانت البلدة ـ فيه ـ سادرة في هواجسها بعد أفول الزمن الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ تبدو؛ كأنها في طريقها إلى التحققّ!
“ النكسة “
- 1 -
قد تغفو الأحاسيس، أو يُكتب عليها أن تعيش محكومة بعدم الفهم، ربّما لأنّها ما فتئت في يأسها تخال بأنّ زمنها قد تعطّل، أو لأنها ألفت حالها الراهن، متوهّمة بأنه الجوهر، وأنّ ماعداه عارض، وعندها فإنّ الإحساس بالأمان يتراجع، ليتسرّب خوف مُبهم إلى بقاع النفس، خوف من اليوم، من البارحة، ومن الغد! خوف من الذات، ومن الآخرين، ومن الزمن الذي يتأبّى على الرغبات،ذلك أنّ الصمت كان قد طال حتى كاد يصبح قاعدة! ورغم أنّه كان صمتاً مدوّياً، منذراً بالانفجار، فإن الجموع لم تتحسّسه في حينه! وفي الوقت الذي كان الناس ـ فيه ـ يتوهّمون بأنه قدرهم أو مصيرهم؛ جاء الانفجار مفاجئاً، مزلزلاً، فتوارت نوافذ المقاهي خلف اللون الأزرق خوف القصف، وفي الشوارع و الساحات والبيوت التي التصقت بالأرض والدكاكين، كما في القرى والمزارع والقصبات استعاد الناس حسّ المُبادهة، وأخذوا يتابعون المعركة بكلّ جوارحهم عبر الصحف والإذاعات، من غير أن يتوقفّوا كثيراً عند التبدّل الذي طال مرافق الحياة كافة، وراح الصوت الأنثوي يذكي مشاعر الكرامة التي أهيضت أكثر من مرّة!
هدّم مزّق، حطم واسحق، لا ترحم أبداً أعداءك!
وبين الفينة والفينة كان صوت دلال الشمالي يصدح:
من قاسيون أطلّ يا وطني …!
فاستفاقت تلك الأحاسيس الغافية، وعاد الجوهرّي في النفوس إلى مكانه، بعد أن تنحّى العارض الذي ركبها طويلاً، إذْ كان ثمة ما يرجّ المياه الآسنة بعد طول انتظار، الآذان ملتصقة بأجهزة "الترانزستور"، الذي قطع برامجه الاعتيادية، وراح ينشر على الملأ البلاغات العسكرية عن سير المعارك على جبهات القتال في سورية ومصر والأردن ، فيما راحت الأغاني الحماسيّة تشعل المشاعر الوطنية، وتبثّ روح الصمود!
الآن ـ قلتَ ـ سترجع الأرض التي اغتُصبت إلى أصحابها، ويعود أولئك الذين شُردّوا عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف إلى بيّاراتهم وحقولهم وقراهم، بعد أن طالت غربتهم في المخيّمات التي سوّرت "دمشق" و "بيروت" و "عمان" وسواها من العواصم العربية!
وبحسب البلاغات التي راحت تتوالى كانت أعداد طائرات العدو المتساقطة تتعاظم، وراحت الناس تترسّم الدروب التي كانت القطعات العسكرية تتقدّم فوقها على الخارطة نحو "طبريا" ،بينما راحت الآمال بنصر وشيك تتزايد! لكن مطلع اليوم الخامس فاجأ الجميع، وقلب الأمور عاليها سافلها، فلقد وقعت الأطراف المتحاربة على وقف إطلاق النار وسط ذهول الناس وحيرتهم، ولم يكن إيقاف العمليات العسكريّة القشّةَ التي قصمت ظهر البعير، بل أنّ ما تمخضّت عنه تلك العمليات من نتائج كارثيّة مباغتة هو ما زلزل كيانهم! كانت الأنباء متضاربة، ولم يكن ثمة تصوّر واضح عمّا يجري هناك، بيد أنّ الجميع كانوا قد أدركوا أنّ ليس ثمة نصر، وأنّ الخسائر الفادحة المُنزلة بصفوف العدو هي خسائر مزعومة؛ لا تمتّ إلى عالم الواقع والحقيقة بوطيد صلة!ثمّ راحت الأمور تتكشّف عن أحداث مروّعة، فلقد سقطت "القنيطرة" مع مساحات واسعة من هضبة الجولان بيد العدوّ، وعلى الجبهة "المصرية" كان الإسرائيليون قد وصلوا إلى شواطئ القناة لأول مـرة، في حين فقـد "الأردن" الضفّـة الغربيـة، أمّـا "لبنـان" فلقـد تخلّى عن
أجزاء من جنوبيه!
وعبر المذياع أطلّ "عبد الناصر" مفصّلاً في أسباب الهزيمة بصوته الهادئ الحزين، ثمّ تقدّم إلى الحكومة باستقالته، باعتباره مسؤولاً عن تلك الهزيمة كقائد للجبهة المصرية، فبدت الجموع كما لو أنها ضُربت على أم رؤوسها بشيء قاس، وراحت تعْول في الشوارع، وتعرّض كثيرون لشدّات عصبية! لقد شعروا فجأة بأنّهم عراة لا يستر عورتهم شيء، وأنّهم مكشوفون بلا أي غطاء أو حماية، أنّ حكوماتهم قد غررّت بهم، وكذبت عليهم في كلّ شيء! فراحوا يتخبّطون في كلّ اتجّاه بتأثير من صدمتهم ودهشتهم، ولكنهم ـ فجأة أيضاً ـ نزلوا إلى الشوارع، وقالوا كلمتهم الشهيرة، أنْ "لا" لاستقالة "ناصر"!
كانت مشاعر المرارة تتراكم في قلوب السوريين وذاكرتهم كنار مُخبّأة تحت الرماد في انتظار الساعة المؤاتية! وراح هدوء مشوب بالحذر والترقّب والانتظار ينيخ بثقله على الأطراف كافة!
وما كانت اللوثة التي أصابتك لتسمح لك بالتمييز أو المحاكمة، رغم أنّ ظاهرك لم يكن يشي بالكثير! ربّما لأنّ التهدّم و الانسحاق كانا قد طالا الدواخل، التي انسحبت نحو المراكز العميقة احتجاجاً،بحيث راح التواصل مع المحيط ـ أكثر فأكثر ـ يُشكِل، فاستسلمتَ لحالة غريبة من العزلة أمسكت بجماع النفس، وهمستَ:
إنْ هو إلاّ صمت آخر ندخله في هذا الزمن العاري البذيء!
- 2 -
للمرة الخامسة ربّما ارتفعت الزغاريد مبشّرة حيّكم بمولود آخر، لكنها كانت المرة الأولى التي يهلّ عليك ـ فيها ـ زائر جديد إثر رحيل أمّك! كان هذا المولود أكثر أخوته مشاكسة، سواء في الحمل، أو في الولادة، إذْ أنه كان أكثرهم إرباكاً لأمه طيلة حملها، ولمّا أزف أوان الولادة، تأخّر بها الطلق، وجاءت عملية الولادة نفسها عسيرة، لكنه لم يكتفِ بما تقدّم، بل أستمّر في البكاء طويلاً، كمن يحتجّ على مفارقة عشّه الدافئ، فيما كان وجهه ينتقل من الأحمر إلى الأزرق مع إغراقه في الصراخ!
أمّا أنت، فلقد وجدتَ نفسك في مواجهة موقف غريب ومربك، بسبب غياب أمك ، إذ أنّ العجوز كانت تستنفر خبراتها السابقة في هذا الجانب، فتحضّر الأقمطة التي سيُلفّ بها الوليد، وتسخّن الماء، وتعدّ بعض الأدوات من مقصّ وخيوط ومنظفات، وتستدعي "الداية"! ثمّ أنك كنتَ خائفاً على زوجتك، بما أسهم في إشعال الأعصاب التي لم يكن ينقصها التوفّز أساساً، وفي الأحوال كلّها، كان الموقف نسائياً في أسّه، ولا يناسب الرجال في شيء، وعليه فإن فرحك بالمولود جاء مُضاعفاً!
كان العجوزان كلفين كثيراً بالأطفال، لكنّهما رحلا عن هذا العالم من قبل أن يحقّقا رغبتهما في إنجاب شقيق لك أو شقيقة، بيد أنّ العجوز كانت قد تمكّنت من أن تنقل تخوفّها في هذا الجانب إليك، فأخذتَ تنتظر مولودك الثاني بفارغ الصبر؛ خوفاً من أن يكون نصيبك في مسألة الإنجاب من نصيب أبيك! إلاّ أنك ـ اليوم ـ أب لذكور ثلاثة وانثَيين، وهذا ما كان سيثلج صدر العجوزين لو أنّهما لم يفارقا هذه الدنيا!
كانت خلافاتك مع اللجنة النقابية قد وصلت إلى مُفترق صعب، ربّما بسبب تأخّرها المزري في مساعدة عائلة سائق، أودت بحياته حادثة مروّعة على طريق "دير الزور"، فكانت تلك الحادثة بمثابة الحطب الذي زاد النار اشتعالاً! وأخذتَ تتابع الحكاية مدفوعاً بحزن عميق! كان السائق المسكين قد كُلّفَ بمهمة خارج حدود المحافظة، ولكن العربة خرجت عن الطريق لأسباب مجهولة، وانقلبت به وبرفاقه، وعندما تناهى الخبر إلى أسماعك؛ هرعتَ إلى المشفى، إلا انّك وصلتَ متأخراً، ذلك أنّ المراقب الزراعي كان قد توفيّ من توّه، أمّا السائق فكان قد توفيّ قبيل إسعافه بقليل، بينما أصيب رئيس المهمة بكسور وجروح عديدة؛ سيُكتب لها أن تترك ندوباً وتشوّهات كثيرة في وجهه وجسده! ورغم أنّ الطبيب نصحك بأن تتخلى عن رؤية الجثتين، إلاّ أنك بقيتَ متشبّثاً برأيك!
إنه الحد الأدنى من واجبنا نحو زملائنا! قلتَ، ودخلتَ إلى حيث انتهت الجثتان قبل أن تواريا في مثواهما الأخير، وهناك باغتك صمت عميق وشامل، صمت من نوعٍ خاص لا علاقة له بذلك الذي يتحدّث عنه الأحياء! كان الموت بمعناه المادي والمعنوي يبسط قدرته الكليّة التي لا مردّ لها على المكان، متغلغلاً في أدق المسامات! قرب الباب استلقت جثة المراقب الزراعي فوق الطاولة بإهمال، فتدلّت اليدان إلى الأسفل،كانت الملامح قد غابت تحت الدم المتخثّر، فلم يعد التعرّف عليها بالمهمة السهلة، وبقوة استأثرت الأصابع باهتمامك، ذلك أن أظافرها كانت قد امّحت لشدّة ما ضغطت على إسفلت الطريق هرباً من الألم، فاندفعت معدتك بعيداً في تشنّجها، وكاد مخزونها أن يتدفق عبر الفم، لكنك تماسكتَ قليلاً، وانتقلتَ ببصرك إلى الجثة الأخرى، عند الركبة والورك والمرفقين كانت الثياب قد تمزّقت بفعل الاحتكاك! فيما كان الدم يغطّي الفم والأذن والأنف والجبهة، أمّا العينان فكانتا قد توقّفتا من غير رفيف عند نقطة بعيدة ومجهولة، بينما ارتسم أسى وتساؤل عميقَيْن في البؤبؤ، ولم تكن ثمة أجوبة لتساؤلاته تلك، فخرجتَ!
تفاجأ الجميع بغياب أعضاء اللجنة الذين لم يحضر أحد منهم حتى صباح اليوم التالي، فأثار إهمالهم ذاك الكثير من الاستياء، ولمّا أثيرت مسألة التأخّر في تحصيل حقوقهما، تعلّلت اللجنة بطبيعة القانون الذي تمّ استخدام السائق بموجبه! ممّا أعاد اللغط الحاد حول تعدّد قوانين العمل في دوائر الدولة إلى واجهة الاهتمامات، ذلك أنّ التعاقد مع العاملين في مديرية الزراعة كان يقوم على أنظمة ثلاثة هي قانون الموظفين، وقانون المستخدمين، وقانون العمّال، ناهيك عن استخدام العمال المياومين بصفة موسمية! وكان ثمة تفاوت في المزايا بين تلك الأنظمة، بحيث بدا قانون الموظفين امتيازاً بالقياس إلى بقية الأنظمة، ولم يكن الحوار الدائر على أشدّه في صالح اللجنة، التي كانت تلقي بالموضوع خلف ظهرها، في حين أنّ العمّال كانوا يطالبونها بإثارته، وربما لأنك كنتَ من المتحمّسين لطرحه، ازداد التفافهم من حولك، بما أعطى لقامتك مداها!
وحين ضاقت النفس بما تحمل، أفضيت ببعضه "لخليل"، على أمل أن تتخفّف من همومك وهواجسك، فضحك، وكشف لك النقاب عن أرقام لا تُصدّق بهذا الصدد، ذلك أنّ أنظمة الاستخدام كانت تتجاوز المائة برقم قليل، وهكذا فإن كل وزارة كان لها أنظمتها الخاصة في التعاقد مع عامليها، وبيّن لـك أنّ أصل المشكلـة في العمـل النقـابي هو افتقـاده إلى الاستقـلال فـي
تكوينه، وفي قراراته!
كانت الدلالة العامة لمقالته مفهومة لك، و كنت تَتحسّسها بصورة غائمة، لكن التفاصيل، واستقراء ما بين السطور هما ما كانا يشكلان عليك! فعاودك ذلك الإحساس الممضّ بالندم على تخلّيك عن الدراسة، أمّا المأتم، فلقد تكشّف عن دلالات كثيرة، لم تكن بعيداً عنها في الأساس، بيد أنها راحت تتأصّل! كان السائق قد ترك وراءه زوجة وأربعة أطفال، في حين أن المراقب الزراعي كان في مُقتبل العمر، وكانت زوجته قد أنجبت طفلاً وليداً منذ فترة وجيزة، فانداحت الأسئلة كسيل!
ولكن كيف لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا في الحدّ الأدنى!؟
وانتفضتَّ كمن لدغه عقرب، ربّما لأن الأسئلة ـ في مستوى آخر ـ كانت تطالك أنت أيضاً،بل كانت تطال الجميع، ومن غير أن تنتبه راحت النفس تهجس، بأنك لا ينبغي أن تترك أطفالك للقدر يعبث بهم على هواه، ولكن ما الذي تستطيعه لهم!؟
- 3 -
كلّ شيء يبدو لناظريك بلا معنى أو جدوى، يتحرّك وفق منطق الضرورة أو الواجب أو الإكراه! ثمّ أنّ الحياة نفسها خارجة عن حدود الإرادة، إذْ ليس للمرء دور في اختيار لحظة الولادة، ولا في لحظة الرحيل عنها، ولولا أنّ الروح تستمدّ من ضيقها نفسه شيئاً من الفرج باعتبار الأهواء والنوازع تنطوي على نقائضها، إذن لكان الاستمرار فيها بحكم المستحيل! فكيف تتغلّب على تلك الكآبة القاتلة التي أخذتَ تغرق فيها بالتدريج!
لا الأولاد، ولا العمل، ولا الأصدقاء نجحوا في انتشالك من تلك الحالة المدمّرة، فيما أخذت الأعماق تنضح بميل متأصّل إلى الحزن، راح يدفعك إلى مأتم الرجلين كلّ يوم، فأقلقك الاكتشاف، لا سيما حين تنبهّتَ بأنك تنأى بنفسك عن الآخرين في أفراحهم، متوارياً خلف جدارك الكتيم غير القابل للاختراق! وقلتَ:
لا بدّ من حلّ!
ولم يكن ثمة حلّ، ومن غير أن تتنبّه راحت عادة قديمة تعود إلى أيام الشباب تستيقظ، فأخذتَ تتمدّد بعد الغداء قليلاً، لتنطلق نحو الأزقة التي كنتَ قد خبرتها طويلاً، فتدور وتدور بغير ما هدف، وعندما تفقد القدرة على المتابعة، تعود أدراجك على مهل! لكنّ قدميك وجدتا ـ فيما بعد ـ طريقهما إلى المقاهي، من غير أن تطيل المكوث كثيراً، واكتفيتَ ـ في بادئ الأمر ـ بدور المتفرّج، لكن تلك الأجواء راحت تطيب لك شيئاً فشيئاً، فأنشأتَ تشارك الآخرين في اللعب! وبتأثير من ذلك الجّو شرعت لفافة تبغ من هنا، وأخرى من هناك تجد طريقها إلى شفتيك، هذه لأنك ارتكبتَ هفوة في اللعب، وتلك لأنّها تقدمة عزيز لا يُردّ، وبالتدريج ما عادت لفائف الآخرين تفي بحاجتك، فكان عليك أن تشتري علبة سجائر بين الفينة والأخرى! ثمّ راحت المدة بين العلبة والعلبة تتناقص، إلى أن أدمنتَ هوى جديداً، سيُكتب له أن يرافقك في السنوات المتبقّية من عمرك! فلا يعود احتساء قدح من النبيذ أو الخمر يثير فيك الكثير من الندم كما حدث لك في المرة الأولى! ذلك أنك في أمسية صيفية لم تعد تتذكّرها جيداً استسلمتَ لكآبة مبهظة! ولما راحت تلك الأمسية تتقدّم من النقطة التي تنكسر فيها الحرارة على حوافها؛ مبشّرة بليل عليل تستفيق تحت عباءته الأشجان الخفيفة، دعاك أحد الأصدقاء لمرافقته إلى استراحة صيفية ظليلة، فقبلتَ على سغب، وحين عرض عليك أن تشاركه في احتساء كأس من الجعة، رفضتَ، لكنه ألحف في عرضه، مؤكّداً بأنها لن تؤثّر فيك لضآلة نسبة الكحول فيها، فقبلتَ أن تجرّب كأساً، ثمّ تلتها كأس ثانية، إلى أن راح دوار بسيط يداعب الجبهة، فاستأذنته في الانصراف، فيما كانت مقدمّات نشوة خفيفة تزهر في الدم!
لا بأس! هو ذا دواء آخر للنسيان!
وأنشأت ساعات غيابك عن البيت تطول، من أن غير تنجح شكاوى زوجتك في تطويق ذلك الغياب، أو الحدّ منه، فلقد كنتَ تغادر الدار بُعيد العصر، لتطويك الأزقة خلفها إلى ما بعد الغروب، ثم تأخذ خطاك طريقها نحو المقهى الذي ينتظرك فيه رفاق اللعب، فتغيبون عمّا حولكم إلى ما بعد منتصف الليل، وفي إحدى تلك الجولات استوقفتك واجهة زجاجية تعرض من خلفها ثياباً جاهزة، على أمل أن تجد لنفسك قميصاً مناسباً، بيد
أن الجبهة التي كانت تلوح من فرجة في الواجهة راحت تلّح على ذكرى بعينها!
ولكن من، ومتى، وأين!؟
وارتدّت الذاكرة صوب دروبها المظلمة تنقّب في الوجوه التي غيبتّها زحمة الحياة؛ إلى أن تطابقت الصورة الماثلة أمامك مع أصلها القديم في قاع الذاكرة!
ولكن يا الله! إنه "حسين"!
ـ حسين!
ـ أحمد!
وتعانقتما بقوة، ثمّ تراجعتما قليلاً، بينما بقيت الأيدي تربت على الأكتاف، وراحت عيناك المندهشتان تجريان على صفحة وجهه مترسّمة آثار الزمن!
ـ كم من الوقت مضى يا رجل!؟
ـ على وجه التحديد لا أدري يا أحمد، أربع عشرة سنة، وربّما خمس عشرة!
كان سالفاه قد ابيضّا قليلاً، فيما كانت عيناه تنمّان عن اضطراب داخلي عميق؛ مع تلك الرمشة اللاإرادية المتكرّرة! أمّا شكله العام فلقد احتفظ بالصورة التي كان عليها من قبل إلى حدّ كبير!
ـ لقد ترهلّتَ يا أحمد!
فأعياك الجواب، وأجبت متلعثماً:
ـ نحن نكبر يا حسين!
فتأوّه بحسرة، وقال:
ـ نعم والله، نحن نكبر!
وجاءت "والله" تلك غريبة في وقعها على أذنك، ربّما لأنك كنتَ تعرفه جيداً، لكنك ـ في ما تلى من أيام ـ اكتشفتَ أن "حسيناً" القديم قد اختفى لصالح آخر جديد، ولم يكن "حسين" غبياً، فلا شكّ أنه قد حدس ما يدور في ذهنك من تساؤلات ، أو أنّ ظهورك ثانية أعاد إلى ذاكرته طيف ماضٍٍ قديم كان يودّ أن ينساه، فكلّمك مُطوّلاً عن الخيانات الصغيرة، والتنظيم الذي انقسم على نفسه، الرفاق الذين أمسوا رفاقاً وأصبحوا أعداء متناحرين! ثمّ كلّمك عن الإحباط، والثقة التي افتُقدت، والنخر الذي طال كلّ شيء مثل سرطان خبيث! دور السلطة، ودور المناخ العام! كان الرجل يقدّم لك حساباته، فهل كان يبّرر لك ما استجدّ في تاريخه الشخصّي، حتى من قبل أن تتبيّن طبيعة ذلك التغيير، أم أنه كان يبرّر لنفسه، من أجل أن يتوازن معها!؟ ولم يكن تنظيمه هو التنظيم الوحيد الذي انقسم على نفسه، بل أنّ ذلك البلاء كان قد طال التنظيمات الأخرى أيضاً، وراحت الأشطار تكيل لبعضها الاتهامات، ناسية ما يحدث حولها، منشغلة ببعضها البعض، فأخذ الأفراد ينسلّون منها فرادى وجماعات لمصلحة حالة من اللامبالاة والإحساس بالعقم! فهجستَ:
لقد طال التبدّل الجميع، ولم يطله لوحده، إذْ ها أنتذا تهمل كلّ شيء من حولك!
وقلتَ: هي الأمور سواء، ولا شيء يجدي! لكن مبرّراتك لـم تفلح في دحـر أسى حرّيف راح يتسرَّب نحو الأعماق كدود خبيث، لينغل فيها!
- 4 -
كان يوم العمل يوشك على الانتهاء، عندما رنّ جرس الهاتف، فرفعتَ السماعة، ومن الطرف الآخر جاءك صوت "إبراهيم" طافحاً بالبشر:
ـ أحمد، أهلاً، هل سمعتَ الخبر!؟ صاحبك أصبح قاضياً!
ومن فورك فهمتَ بأنه يومئ إلى "خليل"!
ـ حقاً!
ـ نعم .. نعم، فمتى نمرّ عليه لنهنئّه!؟
ـ أنا بأمرك، فقط حدّد الساعة!
ـ ما رأيك في السابعة!؟
ـ لا بأس، سأكون عندك في تمام السابعة!
وضعت السماعة متفكّراً! وإذن "فخليل" الذي جمعتك به صداقة مديدة، صمدت في وجه الزمن أصبح قاضياً! كانت لقاءاتكما قد تباعدت في الفترة الأخيرة، ربّما بسبب طبيعة عمل كلّ واحد منكما، وتعقّد نمط الحياة ذاتها، بيد أن تلك الأريحية المعروفة عن علاقتكما توطّدت! بينما كانت علاقتك "بحسين" قد فترت، إذْ لم يعد ثمة ما يقال بينكما، فأخذتَ تشعر بأنكما تجترّان ماسبق لكما أن خضتما فيه من هواجس وانكسارات، وأنكما تندبان ماضياً، بدا لك بوضوح أنه لن يرجع! كان "حسين" القديم قد أخلى مكانه "لحسين" آخر، لا مكان في حياته إلاّ للمربح، والمربح فقط، وراحت تلك اللقاءات تنكأ جراحاً قديمة حول عالم انهار وتداعى! وكانت تلك مناسبة لأن تعيد النظر في أشياء كثيرة، فتفاجأتَ بأنك كنتَ قد فقدتَ معظم أصدقائك بشكل تدريجيّ، وأنك الآن إذا توخيّتَ الدقة بلا أصدقاء، هذا إذا استثنيتَ "خليلاً" و "إبراهيم"، واستبعدتَ تلك العلاقات العابرة التي حلّت محلّ صداقاتك القديمة، بما يخالف النفس البشرية التي يُفترض فيها أن تنزع للاجتماع، ولم يكن مكمن الخلل منظوراً، بحيث تستطيع أن تضع يدك عليه بقصد الفهم، كما لم تكن الأشلاء في مستوى من التماسك يؤهّلها للتجاوز، فأخذتَ تدخّن وتشرب وتلعب بالورق، وتؤمّ دوائر بذاتها بقصد الإمساك باللحظة الفارة من كلّ قيد، وأنشأتَ تفتعل النوادر، ترويها، وتستمع إلى نوادر الآخرين، وتغرق في الضحك من كلّ شيء بما لا يحتمله الموقف، لكنك فشلتَ في إنزال الهزيمة بذلك الإحباط، وظلّت الأعماق رهينة عزلتها القاهرة!
كان "خليل" قد دعا الأصدقاء إلى حفلة صغيرة، وكان جلّ الحاضرين من موظّفي السلك القضائي وإدارييّه، إلى جانب ثلّة من المحامين، ولم تكن تعرف الكثيرين منهم، فانزويتَ عن الجميع في ركن متطرّف، مكتفياً بشيء من الحلوى، وكأس من الشاي، إلى أن انصرف الآخرون، فتقدّم "خليل" نحوك!
ـ أهلاً أحمد!
ـ أهلاً!
ـ زمان مضى من غير أن نراك!
ولم تجد ما تقوله:
ـ مشاغل!
وقال "إبراهيم"
ـ دعونا من المجاملات! ما الموضوع يا أحمد!؟
وحرّكتَ كتفيك بحيرة :
ـ لا أدري! هناك الكثير، إلا أنه ما يزال متناثراً ومتشظّياً!
فقال "خليل" :
ـ أنت تبالغ!ـ ربّما! أنا أيضاً أقول شيئاً من ذاك القبيل، وألوم نفسي حيناً، لكن الأمور تبدو وكأنها خرجت من يدي!
ـ حسناً ـ قال إبراهيم ـ هل لك أن تفصح قليلاً!
فاعتدلتَ في جلستك، وسحبتَ نفساً عميقاً:
ـ أصدقك القول بأنني لا أدري تماماً من أين أبدأ، كلّ شيء غائم ومتداخل، منقسم إلى ألف هاجس وهاجس، ربّما كان أبسطها ـ الآن ـ أنني هنا ولست هنا، ذلك أنّ قسماً من روحي مزروعة في أرض الماضي على سبيل النكوص ربّما، مع أنني أعي تماماً بأنّها لم تعد تلك الأرض المغزولة صورتها البهيّة في الذاكرة، وأنّ الصورة ذاتها ما هي إلاّ وهم من نسج المخيّلة، لكنني لا أريد أن أصدّق! أمّا القسم الآخر فتراه يضرب جذوره في اللحظة الراهنة، لكنه ـ هو الآخر ـ ينشقّ عنها في جزء منه، مرتحلاً نحو الأعماق لينغلق عليها! إنّه عاجز عن التواصل مع الآخرين، حيث لا تماسك أو فواصل واضحة! هل تصدقونّني إذا قلت لكم بأنّ الزمن ـ بمعنى ما ـ لا يتقدّم بي!؟ إنه بالنسبة لي وحدات زمنية منفصلة ومتداخلة بآن! طبعاً أنا أحاول أن أقاوم تلك الأحاسيس، أن أصمد، وأتجاوز، بيد أن الموضوع ـ على ما يبدو ـ خارج عن حدود الإمكان!
كـان صوتك هادئاً، مشحونـاً بالأسى، وكـانت الكلمات التائهـة تكتظّ في
الذهن، متدافعة للخروج، وشيئاً فشيئاً أنشأ "خليل" و "إبراهيم" يلجان في الطقس الذي كنتَ ترسمه، بحيث أصبح من الصعب على المتأمّل أن يتبيّن فيما إذا كانا يسمعانك، أم أنهما يستمعان إلى هواجسهما الدفينة بصوتك!
ـ أحياناً يعنّ لي أن أحسب الأمور على النحو التالي، فأقول : حسناً يا ولد، لقد وُلدتَ قُبيْل الاستقلال، ونشأتَ في كنف أهداف كبيرة من مثل الوحدة، وتحرير الأرض المحتلة، ثمّ تصرّم الزمن، وكبرتَ، وها هو الاستقلال يقارب الثلاثين من عمره، أو يكاد، فأين المُجتنى!؟ المحاولات التي رامت توحيد الصفّ ـ كما تعلمون ـ باءت بالإخفاق، وراحت الهزائم تتوالى كقدر لا مفرّ منه! ستقولون أن المسألة مسألة حكومات، وأنه خاضع لموازين القوى، وأن…وأن…! ولكن ماذا ستقولون عنّا!؟ ماذا عن حياة الناس!؟ أنتم لن تختلفوا معي بأن الأغلبية بائسة مثلي وفقيرة، وأن هذه الأغلبية تتزايد باستمرار، وأنّ "المحلات" التي تبيع ثياباً مُستعملة أكثر من تلك التي تبيع ثياباً جديدة! أنّ مشكلة الخبز كما هي ما تزال، وكذلك مشكلة الديموقراطية، وما شابهها من شعارات ما أنزل الله بها من سلطان! طبعاً أنا أجيب نفسي أحياناً، فأقول: أنت تحمّل هذه النفس ما يفوق احتمالها يا ولد، فما أنت في عمر التاريخ حتى تطرح تلك الأسئلة كلّها !؟ لِمَ لا تبقى كغيرك مواطناً دارجاً، تبدأ حدوده من حدود الأسرة والبيت والعمل، وعند تلك الأقانيم تنتهي!؟ وأرُدف: هي الأمور هكذا، فلا النصر عاد يجدي، ولا الهزيمة! ثمّ انظروا الناس! أهي الجموع ذاتها التي كانت تتظاهر ضدّ الاستعمار وحلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب!؟ من الذي كسر أحلامها وأفقرها إلى تلك الدرجة!؟ وحين تعييني الأجوبة، أترك الأمور على عواهنها، لكنها ـ في النهاية ـ وبالتضافر مع غيرها، أنتجت هذا العبد الماثل أمامكم!
وما عدا صوتك الرتيب كان الصمت عميماً، عميقاً، لم يكن ثمة نأمه، ولا حتى حرف! ذلك أنّ كلماتك كانت قد لا مست فيهما وتراً موجعاً، فوقعا في الرجعى! وعادا إلى تلك الأيام المحمولة على أجنحة الشعر و الأحلام المندّاة، وراح ظلّ ثقيل لهواجس تجاهلاها أو أبعداها يعكّر صفو النفوس!
نهضتَ!
ـ تصبحون على خير!
وجاءك الجواب مشوباً بالأسى:
ـ مع السلامة يا أحمد!
- 5 -
هو الزمن يخبّ، مورّثاً الآخرين اللهاث والحسرة، يمضي، فيمضون معه، ويحاولون اللحاق به، فلا ينتبهون إلى أنّه يتجدّد، فيما هم يشرفون على النهايات، بحكم محدودية أعمارهم على سطح هذه البسيطة،وهاهي الحفلة التي ضمّتكم منذ فترة وجيزة تمسي مجرّد ذكرى لجلسة حميمة تندرج في سياق راح ينأى بسرعة ! طبعاً أنت لم تبح ـ يومها ـ بكلّ ما في جعبتك، فلم تقل لهما ـ مثلاً ـ بأنّ الملاحقة والسجن ينتظران كلّ من ينظر إلى الوقائع التي سردتها بعين الرفض، ولم تقل لهما أن المجتمعات تبتكر قوانينها بوحي من أنظمتها الاجتماعية، إلا أن أحداً لا يتوقّف عند السؤال عمّن أعطى لفئة دون أخرى الحقّ في معاقبة الآخرين، ولا كيف يتحدّد هؤلاء من غيرهم! ثمّ من يدري كيف كانا سيستقبلان الموضوع لو أنك أخبرتهم بالبقية! إذْ ربّما عمدا إلى تخيّله على شاكلة الأفلام السينمائية، حيث تنهال صفعة على خدّ البطل، فيرّد عليها بنظرة غاضبة متحدّية، ويخوض صراعاً مريراً ينتصر في ختامه الحق على الباطل! ولا شكّ أنهما معذوران في تصوّرهما ذاك، ربما لأنهما لم يخبرا ذلك العالم الكريه القابع خلف القضبان، فيما احتفظتَ ـ أنت ـ بتفاصيل تلك الفترة التي أمضيتها هناك لنفسك، فلم تسرد شيئاً منها على مسمعهما، بسبب من التهديد الذي وجهّه المحقق إليك قبيل الإفراج:"أن انسَ القصة كلّها يا سيد أحمد، نحن لم نرك، وأنت ـ أيضاً ـ لم ترنا،……!" صحيح أن الزمن درس تلك التفاصيل، ثمّ جاءت تفاصيل ووقائع جديدة أزاحتها، وحلت محلّها، لكنها لا تموت كما قد يتبادر إلى الذهن، ذلك أنّ الخرّاج المؤلم في الجوف خبيء ما يزال، ويكفي أن تحكّه حتى ينتفض الماضي حيّاً نابضاً بالوجع القديم! فهنالك، خلف تلك الجدران الرطبة والكتيمة، كانت الساعات تتصرّم متوالية برتابة، حيث اليوم شبيه بالبارحة، أو بالذي قبله، وليس ثمة أمل في أن يكون الغد مختلفاً، ما يرضّ النفوس التي تدّعي التماسك، تتظاهر به، وبمضّي الوقت تصدّق كذبتها، لكن النخر كان يعمل في الخفاء، من غير أن يشي به ما يظهر على الأدمة من انفعالات، ثمّ فجأة، وبلا مقدّمات تبدأ السدود والمتاريس بالانهيار، وبالتتابع أو بالعدوى يطال ذلك الانهيار الجميع، فيرفض البعض ما يُقدّم إليهم من طعام، وينخرط البعض في نشيجّ مرّ، ويتشنّج آخرون، فيتكوّرون في أسرّتهم كأطفال مذعورين، وقد يدفع بعضهم الأمور نحو حدودها القصوى، فيقدمون على إيذاء نفوسهم، على أمل أن يقضوا بضعة أيام في المشفى، ولكن من الذي يستطيع أن يتكهنّ بحدود تلك الأذية، إذْ ربما وصلت بقصد، أو من غير قصد إلى تخوم الموت! هو الإحباط ربّما، يخامره شيء من الحنين، وشيء من الغضب، وبعض ندم مُوارب فات أوانه، والكثير الكثير من الانكسار، من غير أن يبدو أي مُنفرج، أو كوّة تنقذ الروح من عذاباتها، بيد أن الوقت المنضوي على دلالات متناقضة هو ذاته الذي يمنح تلك الأرواح البائسة بعضاً من الهدوء، لتبدأ دورة جديدة، فتسود السكينة ثانية، وثانية يمارس المساجين حياتهم اليومية الرتيبة في حيّز ضيق كخرم أبره!
كنتَ تتوهّم بأن المساجين يشكّلون نمطاً واحداً من البشر، بسبب من وحدة المكان والظروف، لكنك سرعان ما اكتشفتَ خطل ما اعتقدتَ، فلقد وجدتَ نفسك أمام بشر بالغي التنوع، بل ومتناقضين أيضاً! إذ في تلك المساحة المحدودة صادفك بخيل مقّتر، راح يتاجر بحصّته التي لا تُذكر من الدخان، وينشئ في سبيل تجارته تلك شبكة من العلاقات تطال بعض الحرّاس أيضاً! إنّه يأمل في جمع ثروة، لكنه لم يتفكّر يوماً ما الذي سيفعله بها، وهو مرمّي خلف تلك الأسوار العالية بصورة مُؤبّدة! ولم يخلُ الأمر من نماذج ترغب في بسط سطوتها على الآخرين بالسبل كلّها، تماماً كما هو الحال خارج تلك القضبان! أو نماذج تقبل أن تتجسّس على زملائها، مع أنّها تعرف جيداً بأنّ أولئك الزملاء لم يعد لديهم ما يخسرونه! أمّا أن يصل الأمر بالبعض في تقليد الحياة خارج ذلك المكان إلى تخوم الشذوذ على سبيل التعويض، أو توهمّه، بحيث يعاشر سجين سجيناً مثله معاشرة الزوج لزوجته، فإذا بالآخر يتقمّص بالتدريج صفات مُؤنثة، فتتقصّع مشيته، ويصاب بذلك الخفر الذي يميّز النسوة في حضور الرجال، يتزيّن، وينتظر أوبة الزوج من الساحة، بعد أن يقوم على تنظيف عشّ الزوجية، فذاك مثال آخر ـ على غرابته ـ يذهب إلى المدى الذي يمكن أن يصيب الإنسان من تشوّه روحي في تلك الأمكنة الرهيبة!
لكن زماناً طويلاً قد انقضى على تلك التجربة اليوم، وعلى مضض أخذت وقائع جديدة تجرفك معها، إذْ هاهي أسوار المدارس تغيب تحت ملصقات تدعو الناس إلى انتخاب مرشّحيهم لمجلس الشعب، ذلك أن الحكومة دعت الأحزاب الأخرى إلى الائتلاف في جبهة وطنية، على أن تحتفظ لنفسها بقيادة تلك الجبهة، فانشغلت الجموع بالاستعداد لخوض المعركة بكلّ قواها، وراحت الملصقات التي تزيّن لقارئها اختيار "أحمد العمر"، أو "عبد العزيز الشاري"، أو "خضير السمّاك"، أو آخرين كمرشّحين عنهم، تغطّي أحواش البيوت، وأبوابها، والواجهات الزجاجية للمقاهي والمتاجر، والأعمدة الأسمنتية الفاصلة بين المحال، بينما انتشرت اللافتات القماشية الداعية إلى انتخاب هذا المرشّح أو ذاك!
كان "أحمد العمر" قد التحق بمديرية الأعمال الفنيّة كعامل قيّاس في فترة مقاربة للفترة التي عملتَ فيها هناك، ثمّ نُدبتما سويّة للعمل في مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي، وابتداءً بالدورة الانتخابية الأولى؛ لن تمرّ دورة انتخابية للمجلس، أو للإدارة المحلية، من غير أن يكون مُرشّحاً فيها! كان "أحمد" شديد الاعتداد بنفسه، لكن الظروف حالت بينه وبين إتمام دراسته، لذلك فإنّه كان يشعر بأن الحياة قد ظلمته، وأنه أهل لما هو أرفع مكانة، إلا أنه لم ينجح البتة في هذه، أو في تلك!
أمّا "الشاري" فلم يكن يكتفي بالملصقات، أو الكتابة على الجدران، بل كان يخوض حملة انتخابية صاخبة على طريقته، فيعتلي ظهر أحدهم، ويجمع حوله مجموعة صغيرة من المتفرّجين الساخرين أو الأنصار حيث لا فرق، ليقرأ عليهم ما يشبه برنامجاً انتخابياً، ومن يدري، فقد تأخذه الحماسة، فيهرع ـ عندها ـ إلى مكبّر للصوت يستعين به، ويتمترس في زاوية المسجد الكبير غبّ صلاة الظهر، حتى إذا انفضّ المصلّون، أنشأ يدعوهم إلى انتخابه، فيتداخل صوته المبحوح بأصوات الباعة الجوّالين، والأصوات المنطلقة من أبواق العربات السيّارة في "سيمفونيّة" ناشزة!
كان "عبد العزيز" ـ أو "عزّوز" كما اشتُهر عنه ـ رحّالة محباً للسفر، زار بلداناً عديدة اضطرته للغياب عن البلدة فترات متفاوتة في طولها، وفي إحدى رحلاته عاد مُصاحباً بزوجة أحضرها من الديار المصريّة، ليبتلي هو الآخر بتلك السوسة ردحاً طويلاً من الزمن، من غير أن يخدمه الحظّ بالنجاح لمرة واحدة، تماماً كما هو حال "العمر"!
إلا أن "خضير السمّاك" ـ "العرضحالجي" الشهير، الذي اتخّذ من "كولبته" مقرّاً، يقود منها حملاته التي غطّت الجدران بكتابة غير مُتقنة؛ أن انتخبوا مرشّحكم "خضير السّماك" !ـ يظلّ الشخصية الأكثر طرافة في ذلك العقد الفريد، إذ اجتمعت في شخصه الروح الشعبية البسيطة والأصيلة؛ في امتزاجها بذلك التكيف المذهل مع قمع المؤسّسات عبر عقود من الزمن! وعليه فإن "خضيرّ" كان رجل مكر من الطراز الأول، لكن مكره كان مكشوفاً، جلياً للعين، لا يخلو من بعض لزوجة، وكان في الوقت ذاته على قدر من الشهامة والطيبة، وهي صفات تقارب بين الشخصية وروح النكتة والتندّر، ولكنها ـ قطعاً ـ لا تسلك بها الدرب نحو النجاح في الانتخابات!
وإذا كانت الناس قد أخذت أمر "العمر" و "الشاري" و "السمّاك" على سبيل الهزل، وراحت تلهج به متفكّهة، إمّا لأن أسماءهم راحت تتكرّر في كلّ دورة،أو لأنهم لم يدخلوا صميم اللعبة عن طريقها الصحيح، وذلك وفق منطقها الداخلي، فإنها لم تُلقِ بالموضوع كلّه خلف ظهرها، بل أن البلدة شهدت نشاطاً محموماً، وانقلبت إلى قفير نحل يمور بالصخب والحركة، ربمّا لأنّ الجميع توهّموا بأن انتقال أكثر الصلاحيات الإدارية من الوزارات المختصّة إلى مجالس الإدارة المحلية؛ يتيح للفائزين السيطرة على مراكز القرار في البلدة، فانقلبت تلك الانتخابات إلى صراع حادّ بين المرشّحين، بما يمثلون من طوائف حذرة وغير منسجمة،صراع سيتجدّد كلّ أربع سنوات، فتظهر وجـوه، وتختفي أخرى، فيما البلدة تميد تحت الأقدام الراكضة هنــا
وهناك، باحثة لنفسها عـن موطئ قدم! هذا كلّـه وأنـت فـي ارتكاسـك إلـى الخاص مغرق ما تزال!
“ مقدّمات “
- 1 -
بعد طول انتظار جاءت حرب تشرين، لكنها لم تمسك بمجامعك كما فعلت حرب حزيران التي وُسمت في ما بعد بالنكسة! طبعاً أنت لم تجرؤ على إلقائها خلف ظهرك تماماً، ربّما لأنك كنتَ تخشى أن تُفاجأ بنتائج لا تخرج كثيراً عن تلك التي تمخّض عنها حزيران في ذلك الصيف الكئيب، لأن النفس ما كانت لتحتمل أنباءً أخرى من النسيج ذاته! غير أنك ـ في مستوى آخر ـ كنتَ تعي بأنها تظلّ حرباً، وعليه فلا بدّ ـ في النهاية ـ من رابح في طرف، وخاسر في طرف آخر، ثمّ أنها لم تكن حرباً بين طرفين غريبين لا تربطك بهما صلة، فالطرف الأساسي فيها هو بلدك، وخسارته سيكون لها وقع الكارثة عليك، لاسيما إذا تعدّت تلك الخسارة هزيمة الجيوش على جبهات القتال إلى ما هو أخطر، إلى ضياع أرض جديدة مثلاً، ولذلك فلقد أخذتَ تتابع الوقائع بحذر، من غير أن تتقبلّها على عواهنها، بل أنشأتَ تتحرّى في جذورها بالمقارنة بين ما تسمعه من هذه الإذاعة أو تلك، وذلك في محاولة لقراءة ما بين السطور!
كانت الأخبار التي تواردت من ساحات القتال ـ في الأيام الأولى ـ مشجّعة، فلقد نجحت القوات السورية والمصرية في إيهام العدو بأنّها بعيدة عن الحرب، في الوقت الذي راحت تستكمل فيه جاهزيّتها، ولمّا أزفت الساعة تمكّنت القوات المصرية من قطع "قناة السويس"، مخترقة "خطّ بارليف"، الذي كان العدو يراهن عليه كثيراً، بينما اجتاحت القوات السورية تحصيناته في "خطّ آلون"، وأعادت بسط سيطرتها على جبل الشيخ ذي الموقع الهام، وكان لتلك الأنباء وقع حسن عليك، فأخذتَ تنسى نفسك بالتدريج، وتشلح عن كتفيك رداء الحذر، متوغّلاً في تتبّع الحدث الذي راح يلصّك، ويضعك في سياقه العام! وفي انتظار فصل الختام أنشأ القلق يستبدّ بالنفس شيئاً فشيئاً، فهل كان ذلك القلق نذيراً، أم أنه كان يتعلق باللغط الذي أُثير ـ على حين غرّة ـ حول ثغرة صغيرة كان العدو قد فتحها في منطقة البحيرات المرّة!؟ لغط راح يعلو، وينثر من حوله أنباءً متضاربة، ممّا أثار ردود أفعـال شتّى! وفـي الوقت الذي كـانت القيـادة المصريـة تهّون
ـ فيه ـ من شأن تلك الثغرة، مُتخوّفة من تزايد القلق الشعبي في الداخل، راحت القوّات الإسرائيلية تندفع عبرها، وتطوّق الجيش المصري الثالث!
آنها ربّما لم يكن الزمان الذي تخشاه قد اتضّح تماماً، لكن الصورة ستتوضّح فيما بعد، وذلك عندما يُقدم أول رئيس عرّبي على زيارة القدس بعدالحرب بسنوات ، فتتابعه الملايين عبر أجهزة التلفاز، وهي تكذّب ما تراه على الشاشة لتناهيه في الغرابة والعبث واللامعقول! ومع تلك المحادثات التي ستشتهر باسم "كامب ديفيد"، ثمّ محادثات "الكيلومتر مئة وواحد"، التي ستنتهي إلى خروج مصر من الحرب، بل من المواجهة مع إسرائيل ككّل، ستأخذ دورة أخرى من الزمن العربي تنغلق على ما يشبه الدخول في نفق مظلم لا يُرى فيه شيء!
وكان أن استمرّت "سورية" لوحدها في المعركة، بعد أن تذرّعت "مصر" بجيشها المحاصر في" الدفرسوار"، وسطّرت اتفاقها الذي يقضي بوقف إطلاق النار بينها وبين "إسرائيل"! لتشهد الجبهة الأخرى، جبهة "الجولان " معارك طاحنة سلاحها الدبّابات والمدفعية، بعد أن نجحت شبكة الصواريخ السورية في لجم طيران العدو إلى حدّ كبير، وراحت تلك المعارك تطال الأخضر واليابس في حرب مضنية، ثقيلة الخطو، بدت بلا نهاية!
استغرقت حرب الاستنزاف ثلاثة أشهر بطيئات، أنهكت الطرفين، وغبّ ضغوط شتّى مورست شرقاً وغرباً، تمكّنت هيئة الأمم المتّحدة من التدخّل، فتوقّفت العمليات القتالية، وانتشرت القوات الدوليّة على طول الجبهة بين "سورية" و "إسرائيل"، وعادت "القنيطرة"، لكنّها عادت مُهدّمة تماماً! رجعت المدينة الجنوبية ـ التي احتضنت أبناءها بحنّو، وكانت شاهداً على أحلامهم وآمالهم وصراعاتهم وشهواتهم و أوجاعهم ـ إلى الحضن الكبير، إلا أنّها رجعت على شكل أكوام من الحجارة والأتربة والأزقة المُحفّرة، بحيث صار من الصعب استحضار تلك الأبنية الشامخة، والشوارع التي كانت تضجّ بالحركة والحياة يوماً، وأقفل الطرفان دفترهما الساخن إلى حين!
فهل هذه هي النتائج التي كنتَ تنتظرها!؟
لكن الحدود التي أُغلقت بين "سورية" و" العراق" إثر تلك الفترة، شغلتكَ عن أسئلتها قليلاً، ثمّ استجدّ في الحيّ ما استأثر باهتمامك، إذ أنّ "حوّاجي" زقاقكم راحوا يغادرون البلدة فرادى، بعد أن يممّوا وجوههم شطر "نبّل" التي جاؤوا منها! كانت السنوات الطويلة قد وطّدت بينكم علاقات جوار دافئة، ارتفعت في بعض الأحايين إلى مستوى صداقة حميمة، بيد أنك ما كنتَ لتستطيع أن تعوضّهم عن لقمة عيشهم التي ارتبطت بتجارة محدودة بين ريف المنطقة، وريف المناطق المحاذية لها في الجانب الآخر، فداخلك الأسى لمفارقة بعضهم، بما أنساك شجون الحرب وشؤونها إلى حين!
- 2 -
أخذت البلدة تتمّرد على حدودها في السنوات الأخيرة، لكي لا تصاب بالإحتشاء، بعد أن ابتلعت أعداداً متزايدة من الناس الذين تركوا قراهم خاوية أو تكاد! وبدا الأمر ـ في مجمله ـ كصراع مع الزمن لا يعرف أقطابه إلى أين يقودهم صراعهم ذاك، ولا لماذا قُدّر لهم أن يخوضوه! فكانت فوضى عظيمة؛ أخذ "تل حجر" ـ في غمارها ـ ينمو ويتّسع بغير حساب، متناسياً ثلّة البيوت الترابية التي كانها، فامتدّت قدماه جنوباً حتى لامستا التخوم الشمالية للبلدة ذاتها، بحيث أصبح من الصعب فرز هذه من تلك، بينما راحت الرأس تزحف شمالاً، وتدفع بالذراعين غرباً وشمال غرب، ليحتضن بإحداها قرية "خطّو" وبالأخرى حيّ "الناصرة"، من غير أن يسأل نفسه عمّا إذا كان يفعل ما يفعله وفق رغبته، أم أنه مُكره عليه لا بطل!
أمّا "الناصرة" الذي بدا كشامة صغيرة في ظهره، فلقد راح ينمو بشكل سرطاني لا يمكن السيطرة عليه، أو تنظيمه، حتّى كاد أن يلتفّ على المدينة من جهة الغرب، فيما وصلت حدوده الغربية إلى تخوم "مركز المجرجع للبحوث الزراعية"، بعد أن اغتال في طريقه حقول القمح والقطن التي كانت تفصله عن البلدة لسنوات قريبة خلت، ولم يكن في نيتّه أن يتوقّف، لكن المركز حال بينه وبين ما يريد! ولم ينسَ أن يتسلّل شمالاً، ليتعمشق بساحة "خطّو" التي راحت تمور بحركة دؤوب!
كانت المسافات قد تدانت، فتوحدّت الرقعة، ومابدا نائياً ـ بالأمس ـ لم يعد اليوم كذلك! أمّا بيتكم الذي كان يتمسّك بالحافة الشرقية من "العزيزية" خوف أن ينزلق جنوباً بسبب الانحدار، فلقد أضحى اليوم يتوسّطها، إذ أن العمران راح يزحف شرقاً حتّى اتصل "بالمسلخ"، ثمّ تجاوزه على حساب الحقول والبساتين المجاورة، حتى تاخَمَ قرية "أبو عمشة"، التي تربّعت على كتف تلّة صغيرة تنحدر نحو "الخابور" في النقطة التي ترفده فيها مياه "الجغجغ"! كما لم يألُ جهداً في دفع البساتين التي كانت تحدّه جنوباً إلى تخوم النهر، وأخذ يتلفّت يميناً وشمالاً باحثاً عن موطئ قدم لم يطله البناء بعد، لكن حي "الصالحية" كان له بالمرصاد، ففي المثلث الواقع بين "العزيزية" في التقائها بجسر "الجغجغ"، وبين قرية "المفتي" تحرّكت "الصالحية" مدفوعة بالغيرة ربّما، وراحت تتّسع شمالاً وشرقاً، ثمّ كان أن أنجب الحيّان في التقائهما حيّاً وليداً، شرع يتسع شرقاً حول الطريق الذاهب إلى جبل "كوكب"، فأطلق عليه أهلوه اسم "الغزل" تيمّناً بحجر الأساس الذي تمّ إرساؤه بغية إقامة معمل للغزل هناك! أمّا الطريق الفاصل بين "العزيزية" و "الصالحية"، فلقد أخذ يكتسب أهمية متزايدة يوماً بعد يوم، بعد أن أضحى طريقاً حّيوياً ينتهي إلى ساحة شبيهة بساحة "خطّو"، وطفقت الدكاكين من كلّ نوع ولون تغزو جانبيه، حتّى كاد أن يشكّل سوقاً مستقلة بذاتها!
وما كان "لغويران" أن يسكت على ما يجري، فتوسّع هو الآخر، بعد أن راود ـ ثلّة البيوت التي ترامت إلى الجنوب الشرقي منه تحت اسم "الآغاوات" ـ عن نفسها، وأخذ يرنو بكلّ عين ماكرة إلى "حوش الباعر"، على أمل أن يتّصل بها، فيتخفّـف من الضغط الكبير الذي يعانيه، ثمّ زحف جنوباً حتى تداخل "بالليليّة"، وأطلّ من خلالها على "النشوة"! أماّ "النشوة" نفسها، فلقد انقسمت إلى قسمين، قديم ارتمى بإهمال إلى الجنوب من ضفة "الخابور"، واتّصل بالبلدة بوساطة جسر كبير، وآخر رثّ بدأ يتناثر إلى الغرب من شقيقه حول الطريق الجنوبي الذاهب إلى "تل تمر"، حتى كاد أن يتّصل "بالمقاسم الخمسة"، مشّكلاً حالة نموذجية لزنّار الفقر الذي يحيط بالمدن عادة!
وذات مساء وصل خطّ السكة الحديدية إلى البلدة، كان السعال قد أنهكه لكثرة ما أدمن على الدخان، فاستراح في محطة إلى الغرب منها، ثمّ أكمل دربه شمالاً، وقد ترسّخ في وهمه أنّ الأوان قد آنَ لترثي البلدة وسائل النقل التي تقادم بها العهد، وترسلها إلى مقابر خاصة بها! وبخبث شديد، أو بمحض مصادفة ربّما، مرّ ذلك الخط بين "النشوتين"، ليضع حدّاً نهائياً بينهما، ثمّ عبر "الخابور" من معبره الخاص، ليرسم الحدود الغربية للمدينة، وذلك في محاولة يائسة لحمايتها من الالتفاف المريب الذي كانت "الناصرة" تخطّط له، فاصلاً بين تلك البيوت المشاغبة، الفارة من التنظيم، ثمّ رحل بعيداً نحو شمال لاهث ومُغّبر!
كانت الأمكنة تبدّل جلودها، وهاهي البلدة ذاتها تخلع ثوبها القديم، وترنو إلى الجديد بعين راغبة، متجاهلة المصاعب الجمّة المطلوب تجاوزها، ربّما لأنها لم تكن قد حسبت حسابها على هذا الأساس، فاختطّت لنفسها شوارع ضيقة وقصيرة، ستظلّ عائقاً في وجه كثير من الأفكار والمشاريع التي كانت تُرسم على الورق، أو في الأذهان! وابتداءً بدار البلدية التي كانت عبارة عن غرفتين ترابيّتَيْن وبهوٍ صغير، أخذت رياح التغيير تطال كلّ شيء، فإذا ببناء حديث يرتفع مكان هاتين الغرفتين، لتؤجّر البلدية الطابق الأرضي منه كمحال تجارية، وتترك الطابقَيْن العلويَّيْن كمكاتب لموظّفيها المتزايدين! ومن ثمّ جاء دور سوق الهال الذي ضاق بناسه، وما عاد يفي بحاجة البلدة إلى اللحوم والخضار، فكان على البلدية أن تقوم بنقله إلى سوق جديد راح يُشاد جنوباً على ضفّة "الخابور"، وقرّرت أن تبني مكانه بناءً حديثاً يُخصّص الطابق الثاني منه "لمديرية الأعمال الفنية"، و "مصرف التسليف الشعبي"، وبذلك يتسنّى لها أن تبيع الطابق الأرضي على غرار ما فعلت بدار البلدية نفسها! وإلى الغرب من الملعب البلدي الذي شُيّد مكان مطار لم يُقيّد له أن يُنفّذ؛ طرحت مقاسم بناء لذوي الدخل المحدود، فأخذ العمران يزحف غرباً نحو محطّة القطار، من غير أن يترك وراءه فسحة خالية، فيما واصلت الحارة "العسكرية" زحفها الحثيث شرقاً باتجاه "الوادي الشتوي"، فلم يبق فيها موطئ قدم بلا عمران! كانت المظاهر التقليدية قد بدأت تغيب لصالح مظاهر حديثة، فاختفت الأبواب الخشبية ذات الضلفتين اللتين كانتا تغلقان بقضيب حديدي عن واجهات المتاجر، وحلّت محلها أبواب سحّابة ذات ضجيج، وترافق ذلك بغياب الموازين التقليدية ـ المُؤلّفة من عمود خشبي يُرفع على الأكتاف، وخطّاف يرفع المادة الموزونة ـ عن كراج "الآشوريين" الشهير بخضرته، لتحلّ بدلاً عنها موازين معدنية حديثة!
كانت البيوت في الأطراف مُشيّدة من الطين، بعكس البيوت الإسمنتية التي كانت تشكّل غالبية الأبنية في المركز! وحتى تلك التي شُيّدت بالحجر، جاءت سقوفها على غرار سقوف البيوت الطينية! لأن تلك الأحياء كانت مناطق مخالفات سهت البلدية عن نموّها بذلك الشكل السرطاني، أو غضّت النظر عنه لهذا السبب أو ذاك، فغابت عنها الساحات، وانعدمت الطرق المستقيمة، وتداخلت البيوت بفوضى عجيبة يعجز عنها ـ حتى ـ المتقصّد! وعلى تلك الدروب الضيّقة وجدت مياه الاغتسال سواقي لسيرها، وحفراً لتجمعّها، فأسنَتْ، وحالَ لونها، وأصبحت مصدراً لروائح لا تطاق صيفاً، ومصائد للطين شتاءً، عداك عن أسراب الذباب الأزرق في النهار، والبعوض في الليل، إذ لم يكن ثمّة مصارف صحيّة للمياه فيها! كان الناس قد تجمّعوا في أماكن لا تختلف عن قراهم كثيراً إلا من حيث الحجم والتنوّع، ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يتساءل عن الفرق أو الجدوى، وظلّوا على تلك الحالة من نزوح لا ينضب؛ من غير أن يقف في وجههم شيء، فلم يسلم منهم حتى الأموات الذين استراحوا في قبورهم منذ أمد، وتوهّموا بأنهم قد سلموا على عظامهم، ذلك أنّ الأحياء كان لهم رأي آخر حول الموضوع، سرعان ما عمدوا إلى تنفيذه، فنهضوا إلى المقابر القريبة ينقلونها إلى أطراف بعيدة، من غير أن يأبهوا كثيراً باحتجاجات أولئك الموتى، أو طقطقة عظامهم المستكينة! على عجل كانوا، فلم يجدوا الوقت لكي يخطّطوا جيّداً للمكان الجديد لتلك المقابر، بحيث لا يضطرهم توسّعهم العشوائي إلى نقلها ثانية في المستقبل القريب!
ولم يكن لتلك المناطق لسان حال، لكن واقعها المزري أنشأ يذكّر السلطات بشكل سافر وبذيء بحاجة سكانّها ـ الذين اصطحبوا معهم بعضاً من حيوناتهم الداجنة ـ إلى فرص عمل، ومستوصفات، ومدارس، وكهرباء، وطرق مُعبّدة، ومناهل للماء النظيف، وشبكات للصرف الصحّي، ووسائل عامة للنقل، وخلافه حاجة لم تستطع الحكومة معها ـ في تلك العجالة والازدحام ـ أن تؤمّن من هذه الخدمات إلا أقلّها! وكان ذلك التوسّع مع ما يطرحه من مشكلات مثار حوار لا ينتهي، لأن المواقف منها كانت تتباين باختلاف المواقع، وبنوع من الإحساس بلا جدوى الحوار كنتَ تردّد؛ أن لا جديد في المسألة،فلقد خبرتَ مثل تلك الأمور، وهي لا تبدو في طريقها إلى الحلّ!
-3-
وفي الإبّان ذاته دخل التلفاز البلدة على عجل! كان اليابانيون، أو الكوريّون، أو آخرون من تلك الأقوام التي تميل إلى القصر ـ والتي غزت العالم بعيونها المائلة المشقوقة، وبشرتها الضاربة إلى الصفرة ـ قد وصلوا إلى قمّة "كوكب"، وعلى الذروة ارتفعت الهوائيات، ثمّ سُورّت بأبنية أخفت عن العيون أجهزة غريبة ومُعقّدة، فقعد الناس إلى ذلك الجهاز العجيب بتماه تام، وصاروا يتابعون التمثيليات المُسلسلة التي يبثها باستلاب كامل، فاضطرت دور السينما إلى إغلاق أبوابها بعد أن كسدت عروضها، بينما تحوّل بعضها إلى صالات عامة في الأعراس، بحيث اختفت تلك التجمّعات المُحببّة التي كانت تحتشد لمشاهدة أفلامها الأثيرة، غابت حفلة الساعة الثالثة والنصف من يوم الأحد شتاءً، فغابت معها الفتيات الجميلات اللواتي كنّ يقصدن تلك الدور لمشاهدة عروضها الفرنسية، أو الإيطالية، أو العربية، أو الهندية، وبغيابهنّ غاب الشباب الذين كانوا يضربون عصفورين بحجر واحد، ذلك أنهم كانوا يستمتعون بمشاهدة أفلامهم المنتظرة من جهة، و يمتّعون أبصارهم بمرأى أولاء الفاتنات من جهة أخرى، فينقلب المكان إلى مهرجان من الألوان والأصوات والروائح والتجمّعات الصغيرة السابقة على العرض! كما غابت حفلة الساعة التاسعة والنصف صيفاً، حيث تكون حدة الحرارة قد انكسرت، وطاب المشي بعد مشاهدة فيلم حالم!
وباستئثار التلفاز باهتمام الناس تباعدت مواعيد زياراتهم،إذْ لم يعد لديهم ما يقولونه لبعضهم البعض، ثمّ تقطّعت تلك الزيارات بالتدريج! أمّا الأمهات فقد تقاعسن في أداء واجباتهنّ المنزلية لكثرة قعودهن إليه ليلاّ، وما عدن آبهات بطلبات أزواجهن كثيراً، لاسيما إذا تزامنت تلك الطلبات مع التمثيليات المُسلسلة، البدوية منها وغير البدوية، وأهمل التلاميذ دروسهم، لأنهم لم يكتفوا بمشاهدة برامجه التعليمية، في حين راحت الفتيات تقلّدنه في أحاديثهنّ عن الحب والزواج، بعد أن انشغلت الأمهات عنهنّ باستعادة عروض الأمس مع جاراتهن نهاراً! ولم يمضِ وقت طويل حتى كانت هوائيات التلفاز تغطّي سطوح البلدة بغابة كثيفة من الأسلاك والشبكات المعدنية وأجهزة التقوية، وعمد بعضهم إلى سرقة الكهرباء من مآخذ غير نظامية حين أعيتهم السبل النظامية، حتى إذا اقترب موعد جولة الجابي المُكلّف بقراءة العدادّات، أخفوا تلك المآخذ، فبدا كلّ شيء طبيعيّاً لا تشوبه شائبة!
وراح أولادك يلحفون في طلب جهاز يعفيهم من الإحراج والتطفّل على الجيران من جهة، ويتيح لهم متابعة برامجهم المُفضّلة من جهة أخرى، لكنّك أخذتَ تتهرّب من إلحاحهم لاعتبارات كثيرة، قد يكون أهمها أنّ ميزانيتك لم تكن تسمح بتبذير كهذا، بيد أنّهم ما كانوا ليتفهّموا أيّ ظرف قد يحول بينهم وبين شراء جهاز خاص بهم! وبمراجعة صغيرة اكتشفتَ بأنّ عشرين سنة قد تصرّمت على زواجك! كان الأولاد قد تكاثروا في غفلة من الزمن؛ حتّى أنك تفاجأتَ بعددهم! ومع الارتفاع المستمر في أسعار الحاجيّات أخذ الفرح الذي ترافق بولادتهم ينقلب إلى ضدّه، صحيح أن الأمور لم تكن على تلك الدرجة من السوء آنَ التحقتَ بالعمل الوظيفي، ذلك أنّ الراتب كان يغطّي مصاريف الشهر بشكل مقبول، إلا أنّها اليوم اختلف اختلافاً بيّناً، فالراتب لم يعد ينهض بأعباء الأسرة إلاّ في حدود الأيام الأولى من الشهر! ثمّ أن أمّك كانت قد رحلت بشكل نهائي، فافتقدتَّ امرأة من طراز نادر، إذ لم يكن يمضي يوم من غير أن تحضر معها باقة من "السلق" أو "السبانخ"، أو شيئاً من "الجزر" أو "الفجل"، أو أيّ شيء آخر، وذلك إلى جانب عملها في الحقول المجاورة التي غابت ـ بدورها ـ بعد أن باغتها العمران، وأخذها على حين غرّة، فإذا عادت إلى الدار اخذت ترفو الجوارب بتلك الطريقة الخاصة بها، أو تعيد تفصيل الثياب التي لم تعد تناسب "خالداً" لتصلح "لسورية"، ربما لأنها لم تكن تستغني عن أي شيء، ولذلك كانت مشغولة دائماً بشيء ما تعيده إلى الاستعمال بعد أن بلي، وغدا رمّة! حتى صورتها كانت قد تغيّرت، فما عادت تشبه تلك الصبيّة الرقيقة الإهاب، المتخوّفة من الانتقال مع أبيك إلى المدينة، ثمّ أن اسرتك كانت صغيرة آنذاك!
في ما بعد حاولتَ أن تتذكّر كيف تأتّى لك أن تشتري تلفازاً، بعد أن أعياك الهرب من الوجوه المعاتبة، وكيف أخذ ذلك الجهاز يلتهم قسطاً وافراً من راتبك، لكن الصورة راحت تبهت لمصلحة تلك الأمسيات التي لمّتكم أمام شاشته،ولم يعد الأولاد الذين جُنّوا به فرحاً يتفكّرون في جار يقصدونه لمشاهدة هذا البرنامج أو ذاك!
“ خاتمة فصول الدهشة “
- 1 -
وقعّت "مصر" اتفاقية "كامب ديفيد"! وكان قد سبق للناس أن جلسوا إلى أجهزتهم بذهول، وهم يتابعون زيارة رئيسها للقدس، فانقسموا حول تلك الزيارة، واشتطّوا في أحكامهم بين من رأى فيها الخيانة بعينها، ومن رأى فيها جرأة ووضوحاً، على مبدأ أن "ليس بالإمكان أفضل ممّا كان"! ومن قبل كانوا قد اختلفوا حول تفسير دوافعه في طرد الخبراء السوفييت، فضحكتَ من تناقض اللوحة، مؤكّداً أن ّشرّ البلية ما يضحك!
وقلتَ : هي الأمور سواء!
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تفلت فيها هذه الجملة منك في الآونة الأخيرة، فهل كانت تعبّر عن قناعتك في المسألة، أم تسليمك بها!؟
كان السياق الذي أخذ اليومي الرتيب يحفر فيه الأعصاب يشير إلى الشقّ الثاني من التساؤل الممرض، بحيث ما عاد أيّ شيء يهزكّ من الأعماق! حتّى تعيين "إبراهيم" بصفة نائب لرئيس المكتب التنفيذيّ لم يحرّك فيك تلك المشاعر التي كانت تشتعل بالفرح من أجل الأصدقاء، ربما لأنك أخذتَ تتفكّر في الأمور بصورة مغايرة، إذْ هاهو صديق آخر ينهض بينك و بينه حاجز، بل حـاجزان! الأول ابتدأ بتخرّجـه مـن كليّة الحقوق، فيما انتهيتَ
ـ أنت ـ إلى الأزقة، والثاني راح ينهض مع هذا التعيين الذي رفعه إلى علييّن، ولكي تتحاشى جوّاً شبيهاً بذلك الجّو الذي خيّم على حفلة "خليل" هنّأته في مكتبه! ذلك أنك أخذتَ تشعر بالضيق من تلك الأجواء مُؤخّراً، ربّما لأنك بدأت تعي بأنكم أولاد اليوم ، أنّ الماضي لن يعود، وأنّكم لم تعودوا أولئك الأنداد الذين جمعتهم مقاعد الدراسة ذات يوم!طبعاً أنت لم تلحظ في سلوكهما شيئاً مباشراً يومىء إلى ما ذهبتَ إليه في وهمك، لكن الواقع يفرض سياقه ومفرداته بعيداً عن لغة العواطف، لذلك فلقد آثرتَ الابتعاد قليلاً، لكنهما افتقداك لبعض الوقت، فلمّا تأخّرتَ فاجآك بزيارة خاطفة!
ـ أهلاً …أهلاً، تفضّلا!
بارداً كان الجّو في الخارج، وكانت النجوم ترتعد في سماء ليلكية!
ـ افتقدناك مُؤخّراً!
وتداريتَ بالترحيب في محاولة لإخفاء تحرّجك:
ـ أهلاً بكما، تفضّلا بالجلوس!
كيف الحال!؟
ـ لا بأس، الحمد لله!
وراء تلك السيماء ثمة سرّ!
وعلى عادته حينما يكون لديه ما يقوله، تنحنح "إبراهيم":
ـ أحمد، نحن أصدقاء أليس كذلك!؟
وباغتك السؤال المدهش الذي لم يكن يخلو من بعض فجاجة!
ـ طبعاً نحن أصدقاء، ولكن ما الأمر!؟
وبدا حائراً، فأكمل "خليل" ما كان قد بدأه:
ـ لا شيء ولكن حالك في الفترة الأخيرة لا يعجبنا! أحمد أنت لم تعد تأبه لشيء، لقد أدرتَ ظهرك للحياة، وهذا لا يجوز!
ـ و ماذا تريدانني أن أفعل!؟
ـ نريدك أن تفتح عينيك جيداً، لقد تغيّرت الأمـور مــن حولك، بيد أنك
لا تريد أن ترى، ولا أن تتحرّك من مكانك!
وكان كلامهما غريباً، فلم تلتقط ما يرميان إليه، وتساءلتَ بحيرة:
ـ ولكن ماذا كان بإمكاني أن أفعل!؟
ـ كنتَ تستطيع الكثير، ولكنّك أدرتَ ظهرك لكلّ شيء، وانزويتَ في دارك كراهب! حسناً، هل لك أن تفسّر لنا لماذا تحصّل الآخرون على شقق يسكنونها، بينما لم تتدبر أنت شيئاً!؟ أنتَ لستَ مُوظفاً جديداً، وعدد أفراد أسرتك ليس صغيراً، فما الذي كان ينقصك سوى القليل من الحركة والرضا!؟ وفي وقت من الأوقات كنتَ قد جمعتَ من حولك الكثير من العمال، فما الذي غيّبك عن النقابة مُؤخراً!؟ ثمّ لماذا تتوهّم بأن العمل فيها أجدى، وأنت بعيد عن مركز القرار!؟ طيّب، هل كان ثمة ما يمنعك من أن تكون واحداً من أعضاء اللجنة النقابية مثلاً!؟
ـ ولكنكما تعرفان بأنني مختلف معهم في كلّ شيء!؟
ـ لا شيء يدوم يا أحمد، ثمّ أن خلافك معهم لم يكن خلافاً شخصياً، وكانت تسويته ممكنة، وعندها كنتَ ستشارك في اتخّاذ القرارات بما يخدم مصلحة العمّال بصورة أفضل! بقي أن نسألك إنْ كنتَ قد فكرتَ في أولادك يوماً في هذه الحمأة!؟ انظر إليهم لترَ أيّ أسمال بالية تغطّي أبدانهم، وتذكّر بأنك كنتَ تستطيع أن تقدّم لهم الكثير، لكنك لم تفعل!
الآن كانا قد غمزا لك من القناة الموجعة، وأظهرا ضآلتك، فرفعتَ بصرك نحو أولادك، وفاجأك مرآهم حقاً، حتى لكأنك تراهم للمرة الأولى! ففي تلك الزاوية من الغرفة كانت العيون الغائرة قد استكانت بلا نأمة أو رفّة، ومن الأحداق التي يغطيّها القذى راح حرمان طويل يفصح عن نفسه، فانداح على الوجنات الناتئة، والشعور المُشعثة، والقامات الضامرة! وعند الركب والمرافق والمؤخرات كان ثمة ثقوب في ثيابهم، وكان ثمة رقع غير مُتقنة ترتقّها بلا جدوى، ذلك أن القماش نفسه كان قد بلي، وحالت ألوانه، وما عاد يصلح لشيء! وفي تلك الليلة أخذ النوم ينأى! كانت تلك الثقوب قد انقلبت إلى جراح راعفة ومؤلمة، وراحت العيون المنكسرة تحفر في جدار كرامة مهيضة هدّها الفقر والزمن، فأجلتَ ناظريك في أرجاء المكان! كانت الغرفة الوحيدة ـ التي التصقت بجلودكم مع نزولكم بهذه البلدة ـ قد انحشرت بالأجساد المنطوية على نفسها، حتى كادت أن تغصّ بهم، ولم يكن ثمة أثاث بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان عبارة عن سقط متاع رثّ وكئيب!
فهل كان الفقر مُقدّراً عليكم أباً عن جدّ!؟ أم أنه كان وشماً لا يفارق جلودكم حتى الممات!؟
ثمّ ماذا عن الغد!؟ ماذا أعددتَّ لهؤلاء الصغار كي تقيهم عاديات الأيام!؟ وأيّ مستقبل ينتظرهم!؟ هو ذا "خالد" يطأ عتبة الشباب على خجل وانطواء على الذات، فماذا بعد!؟ يا الله! ما أشدّ ما كسره الفقر، حتى بدا أشبه ما يكون بشبح، ثم ماذا يريد ذانك الرجلان أيضاً!؟ أما يكفيك ما أنت فيه!؟
وبإلحاح راحت جملٌ بعينها تزنّ في الأذن، بحيث أنشأت البقع المعتمة في الصورة تنتقل شيئاً فشيئاً إلى عالم الوضوح والعري الصفيق، فبدت الأسئلة كسراج ينير مشهداً غابت تفاصيله في دهاليز ذاكرة ملتاثة، وأخذتَ تستعيد البشرة الناعمة للرجلين الذين غادراك قبل برهة، والثياب الأنيقة التي كانا يرتديانها! وكان ثمة ما يُشكل في اللوحة، فإذا كان "خليل" قد ورث عن أبيه شيئاً من الأرض الزراعية، إلا أن "إبراهيم" لا يختلف عنك في شيء، فمن أين له كل ذاك البذخ!؟ وبالتدريج أخذ كل شيء يتضّح! إنّهما يلمحّان إلى شكل من أشكال التحالف، لأن وجودك في مفصل هامّ، سيمنحهما المزيد من القوة، وإذا كانا اليوم قادرَيْن على الوصول إلى ما يريدان، فإن ذلك الوصول سيكلّفهما مقابلاً سيكونان في حلّ منه إن كنتَ أنت في ذلك المكان!
كانت البلدة منقسمة على نفسها ما تزال، بحكم تركيبها السكّاني، وكان ذلك الانغلاق يشم الأحياء بطابعه، بيد أنّ الأحياء الحديثة ذات الأبنية الطابقية أرغمت الناس على الاختلاط في حدود ضيّقة، وفي كلّ الأحوال فإن القول بمجتمع مدنيّ كان ما يزال حلماً بعيد المنال! وربّما لأنك لم تكن تريد لصداقتك معهما أن تنتهي على مذبح المصلحة الخاصة بتلك الصورة، تمنيّتَ ألاّ تكون مصيباً في ما ذهبتْ إليه المخيلّة! أمّا كم كانت الساعة حين تمكّن النوم ـ أخيراً ـ من التغلّب على الهواجس المتطايرة في فضاء الغرفة، فأنت لم تعد تتذكّر جيداً، المهمّ أنك نمتَ بضع ساعات، لتفيق في صباح اليوم التالي متكسّر الأطراف، والصداع ما يزال مطبقاً على الجبهة ومؤخّرة الرأس! كانت الأسئلة ما تزال تنتظر، فقررّتَ ألاّ تذهب إلى العمل، وسحبتَ اللحاف إلى قمّة رأسك!
- 2 -
عندما استقرّ المهاجرون من الريف إلى المدينة في بيئتهم الجديدة؛ تفاجؤوا بوسط غريب ومعادٍ، أخذ يسخر منهم من جهة، ويتحايل عليهم لحساب مربحه الشخصي من جهة أخرى، لكنه في كلّ الأحوال لم يتقبّلهم ـ من فوره ـ في نسيجه الاجتماعي! كانت الحكومة قد نجحت إلى حدّ بعيد في كسر النواظم العشائرية، ومهّدت السبيل بشكل عميق لتقويض القيم الاجتماعية التي كانت تؤسّس لعلاقة الناس ببعضها البعض، إلا أنّها لم تنجح في إرساء بدائل عصرية، ربّما لأنّ صورتها تداخلت في أذهانهم بالهزائم المتكررة، أو لأنّهم ظلّوا يخلطون بينها وبين المشكلات التي كانت قد وعدتهم بحلّها، لكنها أخلفتْ، وراحت تلك المشكلات تتفاقم مع الغلاء، الذي أخذ يكوي الجميع بناره، فاحتار الناس في أمرهم، لكنّهم لم يترددّوا طويلاً، بل حزموا أمورهم، وأقلعوا مع الريح!
كانت الأرستقراطية الريفيّة التقليدية قد اهتزّت بعض الشيء، ولم تتمكّن الأرستقراطية المدينيّة من الحفاظ على مواقعها تماماً، فيما شهدت البلدة صعوداً سريعاً لشرائح أخرى على قاعدة الاستثناء، أو الموقع الوظيفي، راحت تعيش حياة باذخة، وفي الأساس من وجدان العامة كان ثمّة شعور جمّعي بأنّ المنطقة لم تنل حظّها من الرعاية والاهتمام، مع أنّها تمدّ القطر بجلّ إنتاجه من الحبوب والقطن والنفط، وكانوا على أمل بأنّ الأحوال ستنصلح، فلمّا طال انتظارهم؛ خامرهم الشعور بالقنوط، وما عادوا متصالحين مع ذواتهم، وفي غياب من المعايير أخذوا يطلبون كلّ شيء دفعة واحدة؛ من غير أن يتفكّروا في الوسائـل كثيراً! كـان الخطّ الذي يفصل مـا هـو ضروري،
عمـّا هـو كمالّي قـد وهى، ثمّ تقطّع لمصلحـة نمـط استهلاكيّ؛ بدا كـلّ شـيء ـ معه ـ برّاقاً ومغوياً، وتعاضدت إعلانات التلفاز مع الواجهات الزجاجية اللامعة على تعويم مزاج عام يلهث خلف كل مُنتج، بغضّ النظر عن جودته، أو الحاجة الفعلية إليه!
وكان أن تفكّر الناس في السبل التي تؤمّن لهم إشباع غرائزهم تلك، فنمط كهذا يحتاج إلى مال لا ينضب، لكنهم لم يتوقّفوا عند الأمر طويلاً، بل راحوا يؤجّرون الأراضي الزراعية التي كانوا قد تركوها وراءهم، تلك الأراضي التي كانت معادلاً رمزياً لكرامتهم يوماً، أمّا أولئك الذين لم يؤجّروا أراضيهم، فلقد أقدموا على ما هو أسوأ، إذْ أنّهم باعوا القمح المزروع أخضر ما يزال بثمن بخس قبضوه سلفاً، على أن يردّوه عند المجتنى بسعر الموسم، ليذهب ربحه الفاحش إلى جيوب المرابين، فاتّسعت ساحة البطالة المُقنّعة، وانتعشت أعمال مريبة على هامش تلك العمليات تحت اسم السلف، سلف القمح، أو القطن، أو النقد، وعبر شبكة من الوسطاء والسماسرة والنصّابين مدّت السوق السوداء جسورها نحو السوق! كانت الحمّى قد طالت الجميع، فضيّق الذين لا يمتلكون أرضاً زراعية على عائلاتهم، إذْ حشروهم في زاوية من بيوتهم، وافتتحوا في الزاوية الأخرى دكاكين، راحوا يبيعون فيها أيّ شيء! أو باعوا تلك البيوت من أصلها، ليوظّفوها في مشاريع من نوعٍ ما، وفي كلّ مكان كانت الوجوه منشغلة بذلك الهاجس، حتى لكأنّ الناس لم تكن مطمئنّة على مستقبلها، فوضع التجّار والسماسرة يدهم على ذلك المنجم، وراحوا يروّجون الشائعات حول فقد سلعة كانوا قد خبؤوها، لترتفع الأسعار من بعد ارتفاعها! ولأول مرّة جلست النسوة أمام "سوق الهال"، وشرعن ببيع الدخان المُهرّب، أو علب الكبريت، أو أزهار "البابونج" التي كنّ ينتقينها من البرية! ناسيات كلّ ما يتعلّق بالخفر، ربّما لأن الأنوثة المُفتقدة كانت آخر ما تتفكّر فيه أولاء النسوة، ذلك أن الحياة كانت تضغط ، فطال ذلك الضغط بنيان الأسرة إلى حدّ كبير، وراح يخلخلها!
وفي خضمّ تلك الفوضى كان الجميع ـ بصورة ما ـ قد حملوا ما يفوق طاقتهم، حتى إذا تباطؤوا بالدفع، أو امتنعوا، اكتشف الجميع إلى أيّ حدّ كانت القوانين قد تخلّفت عن زمنها، وإلى أيّ مدى تمكّن الفساد من استغلال ثغراتها، بحيث بدت كمجموعة بنود لا قيمة لها، وكان الاستمرار على ذلك النحو محالاً، فانكمشت الناس، وأخذت الثقة تُفتقد! لكن الجميع أدركوا ـ بعد فوات الأوان ربّما ـ بأنّ النكوص عمّا اقترفوه بحقّ أنفسهم يكاد يكون مستحيلاً!
ومع ذلك فإن البلدة لم تعدم مجنوناً مثلك، ينجب لها ما يقارب دزيّنة من الأطفال، ويلقي بهم في وجه الريح، من غير أن يفكر في مستقبلهم! بيد أنّ "السكرة ذهبت ـ كما يقولون ـ وجاءت الفكرة!" وها أنتذا تقلّب المسألة على وجوهها، لكنّها لا تتكشّف إلاّ عن وجهها المرمض! هذا كلّه من غير أن يغادرك وجه "خليل" و "إبراهيم" الناعمَيْن الحليقَيْن، اللذين يوحيان بالشبع، أو أن تغيب عنك صورة الشقتيّن الفخمتين اللتين خُصصَّتا لسكنهما، والثياب الزاهية التي يرتديانها، الطعام الذي يدخل بيتهما بغير حساب، والزوجتين اللتين خرجتا من جلديهما، وأخذتا تشتريان كلّ ما تشتهيه النفس، الأولاد الذين أخذت النعمة تظهر عليهم جليّة، والسيّارتين الفارهتين الواقفتين بالباب في انتظار إشارة منهما، والمستخدمين الكثر الذين يخدمونهما في الدائرة والبيت بآن! وما كانت المسألة لتندرج في باب الحسد، بقدر ما كانت تندرج في حسابات جنى العمر، تلك الحسابات التي يرجع إليها المتقدّمون في السّن عادةً؛ بفعل من شعورهم المُوارب بأنّ النهاية قد أوشكت! أو في باب المقارنة بين أتراب بدؤوا معاً، ثمّ اختلفت بهم الدروب والسبل، في الوقت الذي كانوا يتوهّمون ـ فيه ـ بأنّهم ما زالوا على الدرب ذاته، وبكلّ المقاييس كنتَ أنت تنحدر؛ فيما كانوا يصعدون! ثمّ ماذا بعد!؟ هي ذي الأمور تجري على عواهنها؛ من غير أن يؤثّر موقفك منها في مسارها! إنها تسير بك، أو من دونك، تاركة لك مشاعر الضآلة والصَغار، فما الذي كان سيتغيّر لو أنّك وقفتَ في صفّهما!؟ أما كنتَ ستودّع الخسران الذي وشم الفقرات المتصرّمة من عمرك!؟ ولكن لا بأس! فالمهمّ في الأمر هو أنّك اتعظّتَ، وإذا كانت تلك الصحوة قد جاءت متأخّرة، فذلك خير لك من لو أنّها لم تجيء، إذ أنّ في الوقت مُتّسع ما يزال، وعندها؛ فقد يجد أولئك الأطفال لقمة نظيفة يأكلونها، وثوباً بلا رقع يلبسونه!
- 3 -
ثمّ خرجت البلدة عن ضفتيّها، وأخذت تعدّ نفسها للإقلاع مع المدن الكبيرات، رغم أنّ طوق البيوت الترابية التي ارتضتها لنفسها على مضض كان يكبح تلك المحاولات، فأنشأت البلدية توزّع الشقق التي ابتنتها على الناس في منطقتي المساكن والنشوة! كانت الجمعيات التعاونيّة تعمل ببطء على إسكان أعضائها من ذوي الدخل المحدود، لكنّ حجم المخالفات والمناطق التي كانت تتطلّع إلى خدمات الماء والكهرباء والإسفلت لم يكن في حدود طاقة تلك الجهات، ولم يُقيّض لمشاريع العمل الشعبي أن تسهم في حلّ تلك المشكلات إلا في نطاق محدود، بما لا يؤسّس لقاعدة تتعاون بموجبها البلديّة مع السكّان!
كانت البلديّة قد فرغت لتوّها من توزيع الدفعة التي بين يديها، من قبل أن تتفكّر أنت في الاستفادة منها، ولم تتح لك الظروف فرصة تتدبّر فيها أمر انتسابك إلى جمعيّة سكنيّة ما، كما أنك لم تتمكّن من تشييد دار في منطقة المخالفات كالآخرين، إذْ ما أكثر الذين وصلوا من قراهم ذات مساء، فعمدوا من فورهم إلى ابتناء غرفة من اللبن، ثمّ سقّفوها بالخشب والتبن والتراب، وسكنوها في الليلة ذاتها، لتتفاجأ البلدية بالواقعة المُستجِّدة عند الصباح، ويُسقط في يدها، فتغضّ النظر عنهم، لترى ما تستطيعه معهم في ما بعد! وهكذا بقيتَ في الدار التي كان أهلك قد استأجروها، بيد أن أجرتها لم تبق على حالها، لأنّ صاحبها كان قد وضع يده على طريقة ماكرة يرفع بها تلك الأجرة بين وقت وآخر، فراح يطالبك بالإخلاء، مرة بحجّـة أنّـه يـرغب فـي سكناهـا، ومـرة بحجّـة أنّـه يزمـع علـى تزويـج ابنه،لتنتهـي المؤامـرة
الصغيرة تلك إلى ارتفاع في الأجرة راح يبهظ كاهلك!
ولمّا تكاثر الأولاد، كانت الصورة قد اتضّحت تماماً، فإذا كانت الظروف قد حالت دون تأمين دار لهم عندما كان عددهم محدوداً، فإنّها اليوم لن تسمح لك بذلك! وشيئاً فشيئاً أخذت تلك الصورة المقلقة تقضّ مضجعك، متحوّلة إلى حلم عزيز المنال أخذتَ تلهج به، وكان أن وضع" إبراهيم "يده على حساسيّتك نحو المسألة، فلم يتركك لتردّدك طويلاً، بل راح يراودك عن نفسك في تلك النقطة المرّة تلو المرّة، مؤكّداً بأن الأمور ـ اليوم ـ اختلفت، ولم تعد كما كانت بالأمس، ذلك أنّ عدد المتعلّمين الذين أكملوا دراستهم يتزايد، وأخذت الكفاءات ـ في ظلّ تلك الظروف ـ تعرض إمكاناتها بشروط يسيرة! كان كلامه عن الظروف المُستجِّدة واقعاً ملموساً إلى حدّ كبير، بما ضغط على الأعصاب الموتورة! وإذن فالوقت لم يعد في صالحك، لذلك كان عليك أن تقرّر بسرعة، وإلاّ فإن الفرصة قد لا تسنح فيما بعد!
حول كأس من الشاي اجتمعتم لتتدارسوا، وتتفّقوا على التفاصيل! كان الأمر بقضّه و قضيضه جديداً عليك، فكان عليهم أن يشرحوه لك بشيء من الإسهاب، ثمّ جاء الوقت الذي كان عليكم أن تقوموا فيه بجولة صغيرة على الدوائر صانعة القرار، وعلى أحرّ من الجمر أخذتَ تنتظر أن تُطرح مسألتك، لكن الأمور جرت بصورة مغايرة، بحيث بدت الجلسات كلقاءات عادية بين أصدقاء قدامى، إلاّ أنك ـ في ما بعد ـ وعندما قُيض لك أن تلتقط الرموز والمصطلحات والدلالات الخاصة بذلك العالم الجديد؛ عرفتَ أن مسألتك كانت وقتها قد طُرحت على بساط البحث!
شيء مـا يشبه عمليـة إعـادة التصنيع كـانت تُجرى لـك! إذْ كـان على "أحمد" الخشن أن يختفي، ليحلّ محلّه شخص جديد، شخص ناعم ومرن بلا حدود! وفي النهاية، وعلى مضض انضممتَ إلى اللجنة النقابيّة التي كثيراً ما اختلفتَ معها، ربّما لأن مواقفك منها ما تزال حيّة في الذاكرة! لكن البشاشة التي استقبلك بها أعضاؤها، نجحت في إزالة تلك الرواسب بسرعة، وشيئاً فشيئاً أخذت المناخات تتقارب، والنفوس تأتلف متناسية خلافاتها السابقة، ثمّ أنشأت الصلات تتوثّق عبر زيارات منزلية! ومرة أخرى عادت المرارة الممضّة تغرغر في الحلق، إذ أن تلك الزيارات أعادت مسألة الدار إلى واجهة منغصاتك؛ بسبب من ضيقها و إملاقها في وجه الضيوف، وكان عليك أن تتحرّك بسرعة، فأجريتَ اتصالات مُكثّفة بهذا الشأن! كان الإحساس المرمض بأنّ الزمن قد فاتك يحقن الأعصاب بتوتّر تأبّى ـ معه ـ الهدوء، ولم يألُ "إبراهيم " جهداً في مساعدتك، إلى أن أسفرت جهودكما عن شقة صغيرة خُصصّت لكم!
وعلى عجل تركتم الدار القديمة، مُطاردين بحسّ الفوات رّبما، بحيث لم تُعط النفوس وقتاً كافياً توّدع ـ فيه ـ ذكرياتها! كانت فرحتكم بالدار الجديدة قد طغت على كلّ شيء، فنسيتَ أن تلك الدار كانت شاهداً على موت عزيزَيْن، وأنّك إنّما تودّع تاريخك الشخصي فيها إلى غير رجعة، على ظنّ منك بأنّها نقلة صغيرة بين حييّن، لكنّها تكشّفت ـ فيما بعد ـ عن نقلة بين عالمين متباينَيْن! ذلك أنّ كلّ شيء في الحيّ كان على سجيتّه ما يزال، وكان أناسه مفطورين على صلات وثيقة لا تكلّف فيها، فيما راحت الشقّة تفرض نظامها الخاص، إذْ أن أرضية شقّة هي سقف لشقّة أخرى، والأبواب الخارجية ضمن الطابق الواحد متقاربة ومتقابلة، بحيث يتحتّم على السكان إغلاقها باستمرار، رغم أنها لا تحققّ الاستقلال عن الآخرين؛ لأن الجدران المُشتركة تسّرب الكثير من الأصوات المُبهمة! أمّا الناس هنا، فهم منكمشون على أنفسهم ، بحيث لا يلتقي الجار بجاره إلاّ مصادفة، في الوقت الذي تُكرِههم فيه المرافق المشتركة لأن ينسّقوا بعض أمورهم، كأن يخصصّوا يوماً لتنظيف الدرج، وأكثر فأكثر بدت الغرف الثلاث سجناً صغيراً يطالبكم بأن تكيّفوا أنفسكم وفق نواظمه إلى أن تعتادوه!
- 4 -
كانت القوى الأصولية قد أعادت تنظيم صفوفها التي تبعثرت منذ أمد، ربّما لأنّ الهزائم التي توالت كانت قد هزّت الناس، وكسرت أحلامهم في مسائل كبيرة، أو لأنّ تلك القوى توهّمت بأنّها تستطيع أن تنظّم مشاعر الإحباط العامة في خدمة أغراضها، فرتّبت لسلسلة من التفجيرات التي استهدفت منشآت عسكرية في الأساس، بيد أنّها طالت مدنيّين أبرياء أيضاً، ولم تجد الحكومة مناصاً من الردّ السريع والحازم عبر أجهزتها ومؤسساتها، لتضع حدّاً لنشاطهم، فكان أن قتلت منهم مَنْ قتلت، وألقت بالكثيرين في غياهب السجون، بينما فرّ البعض منهم بجلودهم إلى خارج البلاد! كان الردّ قد طال آخرين أيضاً، ورغم قسوة الضربات التي وجهتّها إليهم، لم ترجع الأجهزة التي كانت قد انطلقت من معاقلها إلى تلك المعاقل، بل ظلّت مُسلّطة على الرقاب تحسّباً ربّما!
لم تكن البلدة قد شهدت حوادث من ذلك النوع، لكن هذا لم يمنع أبناءها من تتبّع ما يحدث من بعيد، أمّا أنت فلقد انشغلتَ بأمور أخرى جرفتكَ معها، إذْ مَع أوّل صدام بزملائك في اللجنة تكشّف الموقف لك على حقيقته، فبدا كلّ شيء عارياً صفيقاً لا يستر عريه حجاب! كان أحد العمّال قد أُصيب أثناء العمل إصابة بالغة، تماماً كما حدث لك منذ سنوات مضت، ولم يكن ثمّة أمل في شفائه، إلا أن الإدارة ضربت صفحاً عن مشكلته، فلم تجد له عملاً إدارياً يناسب وضعه الصحيّ الجديد، وراحت ذكرى تلك الأيام الكريهة تتململ! كان التماثل في الحالتين قد أنساك وضعك الراهن، فاختلط عليك الأمر، بحيث ما عدتَ تدري إن كنتَ تدافع عن نفسك، أم عن ذلك العامل المسكين، فيما بدا بقية الأعضاء غير مبالين بالمسألة، بل أن حماسك الزائد كان يُشكل عليهم!
عند المساء زارك " إبراهيم"، فتهللّت أساريرك لزيارته تلك، لكنك سرعان ما اكتشفتَ بأنّ المسألة ليست مسألة زيارة فقط، أنّ ثمة ما ينغل تحت الجلد، لكنّه ليس بالأمر السار في كلّ الأحوال! كان هذا واضحاً في الجبين الذي انحرثت خطوطه بالغضب، والحركات العصبيّة التي راحت تصدر عنه! ولم يدعك تنتظر كثيراً، بل دخل في صلب الموضوع من توّه، فسألك عمّا وقع لك مع بقية أعضاء اللجنة، وكتلميذ مذنب أخذتَ تشرح له ما حدث، ثمَّ تنبّهتَ فجأة إلى أنّه لم يكن يصغي إليك، بل كان ساهماً طول الوقت، فأُسقط في يدك، ولم تعد تدري إن كان عليك أن تستّمر في الكلام، أم تتوّقف، وتابعتَ متحرّجاً من الصمت ربما! لكنه لم يعلّق عليه بشيء، فعاد الصمت بثقله يحفر المسافة بينكما، إلى أن نطق أخيراً، مبيّناً لك ما غاب عن ذهنك، فأنتَ الآن في طور جديد، طور لا يحتمل تصرفّات خرقاء كالتي بدرت منك اليوم ، إنّما تُحلّ المسائل ـ فيه ـ بين الإدارات واللجان النقابية بالتنسيق والتفاهم! لقد لملم الموضوع بصعوبة، وعليك أن تتصرّف بحكمة ورويّة في المرات القادمة! كانت الكلمات تتدافع من فمه كطلقات تتساقط على الرأس، فلم تدرِ ماذا تفعل، ثمّ صمت بشكل مفاجئ تماماً كما ابتدأ الكلام بصورة مفاجئة، رافضاً أن يحتسي شيئاً، فهل كان يريدك أن تفهم بأنّ أوان الفروسية قد انتهى، أنّكم قد اتفقتّم على كلّ شيء، وأنّ التراجع ما عاد ممكناً!؟ غبّ خروجه تهاويتَ على المقعد!
وإذن، فهذا هو الموقف على حقيقته!
كان الهواء يوشك على الوجوم! كلّ شيء في ذهنك كان مختلطاً، مُضّبباً بالحيرة، وكان "إبراهيم" قد لمّح ـ في معرض حديثه ـ إلى شيء ما يتعلّق بوضع الشقة، لكنك لم تعد تتذكّر ما قاله بالضبط، فهربت الدماء من وجهك، وأنشأ غضب عارم يمور في الصدر، مستهدفاً الجميع في البداية، لكنّه ما لبث أن انقلب على النفس يعنّفها، ويتّهمها بالغباء، بأنّها متحجّرة، ومتخلّفة، وغير قابلة للتطوّر! ولم تهدأ هواجسك حتّى وقت متأخّر من الليل، فقررّتَ أن ترجئ كلّ شيء إلى الغد لتراه في ضوء النهار! وخارج رتوشها بدت الصورة أكثر عرياً عند الصباح، لقد تنازلتَ عن نفسك! بعتها! وهاهم اليوم يلوّحون لك بالعصا، يهشّون بها عليك كما لو كنتَ دابة حردة! إنّها معادلة، لكنّها معادلة من نوع غريب، فالبيت وعضوية اللجنة إنْ تصرفّتَ بحكمة "إبراهيم"، ولا شيء، مجرّد لا شيء إنْ سلكتَ درباً آخر، فهل كنتَ تدرك حجم ما أقدمتَ عليه، حجم ما اقترفته!؟
وما كانت الإجابة على سؤال كهذا سهلة! إذْ أنك كنتَ قد وضُعتَ على المحكّ، امتُحنتَ، لكنكّ خسرتَ، وفقدتَ احترامك لنفسك، بل فقدتَ نفسكَ ذاتها، فما أفدحها من خسارة! والآن!؟ هل تتراجع وكأنّ شيئاً لم يكن!؟ وإذا فعلتَ فهل تقبل زوجتك!؟ هل تضحّي بالغرفة التي تحصّلتْ عليها أخيراً، لكي تختلي ـ فيها ـ بك بعد طول انتظار!؟ ثمّ ماذا عن الأولاد!؟ هل يقبلون بأن يرجعوا إلى تلك الحالة المزرية التي عانوا منها لسنوات!؟ لقد تغيرّت الحياة، ومضت بعيداً تلك الأيام التي كان الجدّ وأبناؤه وزوجاتهم وأحفاده وحيواناتهم ـ أيضاً ـ يعيشون في دار واحدة، وجاءت أيام من نوع آخر، جاءت أيامهم، فهم اليوم شباب، يرون غير ما كنتم ترونه، وما كان جيلكم يعدّه ترفاً يمكن الاستغناء عنه، يراه جيلهم من صميم الأمور وجوهرها! إنّهم يريدون كلّ شيء، بغضّ النظر عن واقع الحال أو النتائج، وليس لديهم استعداد لأن يسمعوا أيّ نصيحة! لقد ملّوا الأعذار، وفوق هذا وذاك فهم برمون بكلّ شيء، متأففّون، ثمّ من يجرؤ على مطالبتهم بأيّ أمرٍ مهما صغر!؟ حتى الزوجة لم تعد على استعداد لتقديم كأس من الشاي في هذه الأيام!
صعقك الاكتشاف، وزلزل أغوار النفس! كانت الانهيارات في الداخل مدويّة وغير قابلة للترميم، فلقد أدركت ـ وبصورة غامضة ـ أنك ما كنتَ لتتراجع حتى لو تراجعتْ أسرتك! لقد سبق السيف العذل، وباتت العودة إلى ما قبل في حكم المستحيل، لكنك كنتَ تحتاج إلى شيء من التوازن لتتحصّل على النفس المتشظّية حتى أعمق أعماقها، فلم تجد أمامك سوى الخمرة تنادمها، وتخفي إحساسك الحادّ بالانكسار في عبّها! لم تكن تشرب لتنتشي، بل كنتَ تشرب لتنسى، لتتحاشى لحظات اليقظة الحادة، أو ترأب تلك الصدوع العميقة، فكيف تحلّ المشكلة داخل البيت!؟ أنت لم تتعوّد على اصطحاب الشراب إليه، فيمـا الحاجة إلى شيء منه تضغط، وكان لابدّ من حسم الأمر، فعرفت الزجاجــة طريقها إلى البيت بعد لأي، ولم يحاججك أحد في المسألة برغم علامات الاستفهــام المقروءة فــي عيونهم! ربّما لأنهم أدركوا بأنك تمرّ بأوقات عصيبة، فلم يطالبوك بأيّ تفسير! ثمّ أنهم ما كانوا قد ألفوا مساءلتك في ما تفعله! وأخذت تلك السهرات تأكل من جيبك، من غير أن تستطيع منها فكاكاً، وشيئاً فشيئاً أخذت تلك الأجواء تروق لك، لأنها كانت تنأى بالنفس عن همومها إلى حين، بيد أنّ معضلة صغيرة راحت تعترض متعتك تلك، إذْ أنّ تلك السهرات كانت تتطلّب مزيداً من المال، وكان لا بدّ من حلّ!
- 5 -
وكمن مسّه مسّ انتفضّتَ متراجعاً، إذْ من أين لفكرة غريبة كهذه كلّ تلك الجرأة والوقاحة، وكيف طفت على السطح بمائها الآسن الكريه، بما لم تفلح معه محاولات الكبح، وأخذ النفس بالشدّة!؟ ومن الماضي البعيد قفزت تلك اللوحة النائية إلى شاشة المخيّلة بإلحاح! يومها بدا الفلاّح الذي تقدّم منك مرتبكاً، وكنتَ أسير امتنانك لكريم استقبالهم لكم، فلم تفهم الكلام الموارب الذي صدر عنه، طبعاً أنت لم تعد تتذكّر ما قاله على وجه التحديد، لكنّك عند عبارة بعينها؛ وشت بما انطوت عليه النوايا، أوقفتَه، وثرتَ في وجهه أيّما ثورة، فانصرف عنك وهو أكثر تلعثماً واضطراباً! كان مجرّد التفكير بذلك الاتجاه غير وارد آنذاك، فرفضتَّ عرضه المتداري بلبوس الهدية، أو سمّها ما شئتَ، لكنّك اليوم ـ وهنا مكمن العجب ـ تتفكّر في الموضوع ذاته من وحي حاجتك إلى المال، ولا تستطيع إقصاءه عن ساحة ذهنك، وهاهي الفكرة تضغط، متلمّسة لك الأعذار، وتسدّ عليك المنافذ ساخرة من عقليتّك المتحجّرة! كانت الأغلبية قد عرفت دربها من غير أن يدلّها عليه أحد، فهجستَ:
إنْ أنت إلاّ بشر! واحد من عرض الناس، ولا أنت من الأنبياء في شيء، ولستَ رسولاً! فحتاّمَ تظلّ على ما أنت فيه!؟
أمّا كيف حدث الأمر، وامتدّت يدك المرتعشة لتقبض على بضع ورقات ماليّة رماها أحدهم في طريقك! وهل كنتَ تعي ما حدث!؟ فإنّك اليوم لا تبدو متأكدّاً من شيء! أمر واحد كان يبدو كحقيقة واضحة لا لبس فيها، ذلـك أنّ الأوراق الماليّـة التي كـانت تخشخش فـي الجيب، راحت تؤكّد أن
الواقعة قد وقعت، وأنّها ليست من أضغاث أحلامك!
متوهمّاً بأنّ الجميع يعرفون ما اقترفته يداك؛ أخذتَ تتحاشاهم، تاركاً زوجتك لمخاوفها من أن تكون مريضاً لا سمح الله، إذ أنّك لم تكن خائفاً من الآخرين فحسب، بل كنتَ خائفاً من نفسك أيضاً، فلم تعد قادراً على مواجهتها، ولم تعد قادراً على النظر في وجهك عبر المرآة! طويلاً تقلّبتَ في فراشك ليلتها، وألحفتَ في طلب نومٍ راح ينبو، كان شعرك قد تشعّث بشدّة، والتصقت خصلات منه بجبهتك من فرط ما تعرّقتَ! وامتدّت يدك المرتجفة إلى كأس الماء، بينما راحت مواعظ أبيك تورق في المخيّلة؛ مستعيدة الصوت ذا الجرس الخاص، وهو يتفنّن في الحديث عن الحلال والحرام، والجنّة والنار، والهيكل العظميّ المحترق بناره، والشفرات والمدى التي تعمل في خاصرة المذنبين وصدورهم وظهورهم، وأخذتَ تبسمل وتحوقل، وتطلب صباحاً بعيداً لعلّه يرحمك من تلك الهواجس والعذابات! لكن الأيام مرّت على ما حدث وطمسته، وبالتدريج أنشأت الذاكرة تتراخى، وبالتدريج أيضاً أخذتَ تكتنه ذلك العالم بإشاراته ومصطلحاته التي كنتَ تضرب عنها صفحاً في ما مضى، فعرف المال طريقه إلى جيبك، لتبدأ أشياء كثيرة من حولك بالتبدّل، ذلك أنّك أخذتَ تتخلّى عن ملابسك القديمة لصالح ملابس جديدة وغالية، كما عرفت قدماك نعومة الأحذية الإيطالية الفارهة والمريحة بآن، وشيئاً فشيئاً أخذ الحذر الذي وشم علاقتك بالمرآة يتراجع، فلم تعد ترى غضاضة في التوقّف بين يديها مُطوّلاً، ولم يفُتْك التغيير الشديد الذي طال شكلك، بحيث أنكرتَ على نفسك الشاب النحيف الذي كنته يوماً! وما كنتَ وسيماً في الأصل، ربما لأنّ أنفك الكبير كان يأكل جزءاً من وجهك، وكانت عيناك تحيلان إلى حول خفيف، لعلّه لم يكن حولاً بمقدار ما كان أثراً خفيفاً للجدري الذي مرّ بك في طفولتك المبكّرة، وكان ثمّة خصلة من الشعر في جبهتك تعاند التسريح، فتعطي لوجهك طابعاً خاصاً! واليوم، فإن بطناً متماسكة ـ ما تزال ـ أخذت ترتفع، بحيث غدا من الصعب على بنطالك أن يستقّر فوقها، بل راح ينزلق نحو الأسفل، بما اضطرّك لرفعه كلّ حين، وانسحب عمودك الفقري خلف تلك البطن قليلاً، فأعطى لمشيتك الفلاحيّة البسيطة ـ أصلاً ـ شيئاً من السذاجة! بقي أن تعترف مُكرهاً بأنّ ذوقك في الانتقاء أيضاً ظلّ ريفيّاً، ينقصه الاتّساق والتناغم في انتقاء الألوان، ممّا كان يثير تعليقات الأصدقاء! ألا أنّ هذا كلّه لم يعد مهمّاً الآن، فأنت لم تعد ذلك الشاب الرومانطيقيّ الحالم والمنكسر، بل أخذتَ تنحى منحىً حسيّاً قائماً على مبدأ اللذّة في الطعام والشراب وسواهمـا، ربّما لأن السنّ التي كنتَ تأبـه ـ فيها ـ بظاهر الأمور واتّساقها قد تصرّمت، وأشهدتك الحياة وجهها الآخر، وجهها الدميم والمتناقض، فاستوت في ذهنك الأمور، وتعادلت النقائض بما هي وجهان لعملة واحدة! أو هكذا أخذتَ تفلسفها للآخرين في جلساتك، وربّما لنفسك من قبل! وأنشأتَ تتوقّف أمام المرآة من غير حرج، مدقّقاً في التفاصيل التي تطالعك، وفي الزّي الذي ترتديه، ثمّ تبتسم لنفسك ابتسامة المهنّئ ربّما، الرابت على الكتف، حتى لكأنّك تهنئّها على التقدّم الذي أحرزتْه، بعد أن أضحتْ تعرف تماماً من أين تُؤكل الكتف!
-6-
كانت رياح التغيير قد طالت زوجتك أيضاً، فأنشأت ملامحها تغيب تحت طيّات بدانة مفرطة، وانطمست تفاصيل الجسد الأنثويّ في ثنايا الكتل الشحمية التي غطّت كلّ شيء، فيما راحت الولادات المتكرّرة تفتّت ما تبقّى في جرمها من تماسك لمصلحة ترهّل مقيت! كان الأولاد قد تكاثروا عليها، وسلبوها وقتها وراحتها وصحّتها، ومن غير أن تأبه بنفسها راحت تقضي معظم أوقاتها في المطبخ، فأخذت رائحة البصل تنبئ عن مقدمها سلفاً، وأضحت المقارنة بينها وبين تلك الحورّيات الفاتنات اللواتي كنتَ تراهنّ كلّ يوم غير ذات جدوى، ولكن كيف لك أن تتحصّل على واحدة من أولاء!؟ واحدة تنسيك رائحة الثوم والبصل والعرق، وتعيد إليك الشباب والحيويّة!؟ لقد تحصّل أصدقاؤك كلّهم على عشيقات، فلماذا لا تكون لك ـ أنت الآخر ـ عشيقة ترتاح عندها، وتسرّ إليها بهمومك ومشاكلك الصغيرة!؟ وإذا لم يُقيضّ لك أن تتحصّل على واحدة، فلماذا لا تتزوّج ثانية!؟ إنّك ما تزال شاباً، وزوجتك طراز قديم من النساء؛ لا يصلح إلاّ للطبخ والإنجاب، وأنت اليوم تحتاج إلى امرأة من طراز آخر، امرأة تشاركك دنياك الجديدة، فتقف إلى جانبك، وتدفعك إلى الأمام! ثمّ أين المشكلة في كلّ ما تفكّرتَ به!؟ لقد حلّل الله الزواج مثنى وثلاثاً و رباعاً، فما لك وللآخرين!؟
كانت علاقتك بأقربائك قد بدأت تعود إلى سياقها السابق على حادثة القتل تلك، إذْ كان أحد أبناء عمومتك قد أقدم على قتل أحد القروييّن بطريق الخطأ، فتفرّقتم في القرى بتلك الصورة الدراماتيكيّة، وأنت طفل ما تزال! بيد أنّ القضية سُوّيت في ما بعد، ورجع أقاربك إلى قراهم، لكنك فضّلتَ البقاء في البلدة، ربّما لأنك لم تكن تملك أرضاً تعود إليها، ولمّا تسلّمتَ موقعك الجديد راحوا يلجؤون إليك في المصاعب والمشكلات التي كانت تعترضهم في الدوائر والمؤسّسات المختلفة، ولم يفُتْكَ ما يمكن أن تحمله تلك البادرة من فوائد جمّة في غد قريب، فلم تألُ جهداً في حلّ تلك المشكلات، وما تصرّم وقت طويل حتى بدأت جهودك تأتي اُكُلها، فصاروا يفسحون لك مكاناً متقدّماً في مجالسهم وما عادوا يتجاهلونك عند الخريف، آنَ كانوا يعمدون إلى ذبح الخراف المُسمّنة من أجل الشتاء! كان اسمك قد أخذ يتصدّر قائمة المدعوّين في أعراسهم، وراحوا ينتظرونك بفارغ الصبر في مآتمهم، وفي البلدة كانت أقدامهم قد عرفت طريقها إلى بيتك، من غير أن يبخلوا عليك بالبيض، أو اللبن، أو السمنة، أو الديكة الروميّة، أو الخراف!
كان بعض أفراد عشيرتك البعيدين قد استقرّوا في البلدة، وراحوا يعملون في تجارة الماشية أو الحبوب، في الوقت الذي افتتح بعضهم "محلاّت" سمانة في أحيائها، فشكّلوا منجماً احتياطياً لك، ذلك أنّك اهتبلتَ الفرصة، فعقدتَّ معهم ما يشبه معاهدات غير مُعلنة مركّزاً في ذلك على من احتّل وظائف رسمية، فتمكنّتَ من حلّ كثير من المعضلات، ليس على صعيد المؤسسّات فحسب، بل على الصعيد القبليّ أيضاً! وفي الوقت الذي كنتَ تتوهّم فيه بأن العلاقات القبليّة قد اندثرت، كانت تلك العلاقات قد عادت إلى الصدارة في تسيير مصالحها، ومصالح المتنفّذين بآن! ويبدو أنّك لم تكن محروماً من هذه، ولا من تلك!
مساءً جـاءك "إبراهيم " و "خليل" فاستقبلتهمـا بالترحـاب، لكـن مسـار الحديث سرعان ما كشف لك عن أغراض مواربة انطوت عليها الزيارة، فضحكتَ في سرّك، وقلتَ بأنّ الرجلين لا يضيّعان وقتاً، إذْ أنّهما لمّحا إلى تلك الذيول التي لمّا تمحّي بعد، إثر موقفك المشهود من قضيّة العامل المصاب، إلا أنّ مثل ذلك الأسلوب ما عاد لينطلي عليك، فوعدتهما خيراً، وقلتَ:
هي الأمور سواء!
وأخذتَ تماري النفس بأنّك ما كنتَ تستطيع شيئاً لذلك العامل حتى لو أردتَّ، لكنّك لن تقف ضدّه، وهذا أضعف الإيمان، وعندما قصدك مستغيثاً متسائلاً عمّا سيحلّ به، أعيتك الكلمات، فتلعثمتَ، وصدر عنك كلام غير مترابط، شيء ما من قبيل أنّك صوت منفرد، أنّ يداً واحدة لا تصفّق، وأنّ الآخرين ليسوا في صفّه، وأنّ الحشائش الصغيرة ينبغي لها أن تنحني لهبوب الريح ريثما تمّر، وأنّ الحركة تكون في حدود الممكن، ولا شك أن الترابط المُفتقد في كلامك قد ضيّع عليه القصد، لكن تلجلجك وارتباكك أفصحا، ففهم، وانصرف عنك بطيف دمعة عزيزة كابَرتْ! إلاّ أنّك سرعان ما أقصيتَ الموضوع برمّته عن ذهنك، بعد أن تعلّمتَ فنّ الإقصاء أيضاً، ثمّ ما الذي كنتَ تستطيعه لوحدك!؟ غير أن المسألة لم تقف عند ذلك الحدّ، إذْ أنّه لجأ إلى آخرين من أعضاء اللجنة، ومن غير أن يقصد تسرّب بعض كلامك إليهم، فاستاؤوا، وكان أن نصحّك "إبراهيم" بأن تتخلّى عن دور البطل والضّحية، فالقضيّة ـ أولاً وأخيراً ـ قضيّة مصالح، وهي أكبر من الأفراد مهما كانت مواقعهم، ولم يبقَ لك إلاّ أن تمتثل، فتفكّرتَ:
هاأنتَ تنصح الآخرين، وتنسى نفسك!
وبالتدريج أخذتَ تنسّق مع زملائك في اللجنة والإدارة موقفاً مُوحّداً من القضايا التي تعترضكم، بعد أن دفنتَ أحمد القديم إلى الأبد، وبدلاً عنه وُلد رجل جديد، بارد كمشرط، قاسٍ كمعدن صلب، رجل يتخّذ القرارات من غير أن تهتّز في بدنه عضلة، وضربتَ يداً بيد، وقلتَ:
هي الأمور هكذا، فماذا كنتَ تستطيع!؟
بيد أنك لم تسّر بها هذه المرة للآخرين، بل همستها لنفسك!
- 7 -
ضاقت الشقّة بالنسوة المتبرّجات من كلّ لون، وأخذت الزغاريد المنطلقة من أفواههنّ تعلو؛ ممزّقة رداء الهدوء والسكينة وحيادهما! كنتَ تغالط نفسك بالتساؤل أنْ متى، وكيف!؟ متوهّماً بأنّ المسألة كلّها لا تعدو أن تكون حلم يقظة، أو مزحة ثقيلة، لكن العربات التي اصطفّت بباب البناء راحت تؤكّد أنّ ما يحدث حقيقة واقعة، وأنّ "سورية" القريبة من قلبك ستُزفّ إلى عريسها بعد قليل! لقد كبر الأولاد في غفلة عنك، وعلى الرغم من أنّ "خالداً" يكاد أن ينهي دراسته الجامعيّة، فإنّ جوهر المسألة كان قد فاتك لتوزّعك على مشاغل عديدة ربّما، أو لأنك ككّل الناس لم تتفكّر فيها أصلاً، إلى أن قصدك عريس الغفلة هذا، فتلفّتَّ حولك مندهشاً، وعندها فقط عرفتَ بأنّ الأولاد قد كبروا!
كان الشاب الذي تقدّم لخطبة "سورية" غريباً عنكم، إلا أنّك لم تجد فيه ما يعيب، فلم تدققّ في التفاصيل كثيراً، وعلى عجل تمّت الأمور، حتى لكأنّ تلك العبارة؛ التي كانت أمك تكررهّا دوماً؛ من أنّ أمور الزواج مُيسرّة لحكمة من ربّ العالمين؛ صحيحة في كلّ زمان!
أعادتك الأصوات المنطلقة عن أبواق العربات السيّارة من أخيلتك، فهجستَ: لقد وصلوا!
وكان عليك أن ترى ابنتك قبل أن ترحل مع زوج المستقبل، فدخلتَ إلى حيث كانت تنتظر، لكن زوجتك خلطت الأوراق ببكائها، بصورة أنستك ما كنتَ قد حضّرته من كلمات في هذه المناسبة! كان عليك أن تختصر، إذ أنّك أحسستَ بأنّ المسكينة توشك أن تذوب في ثيابها من شدّة الخجل، فطلبتَ إلى أمّها أن تتماسك قليلاً، وأمسكتَ بيد الصغيرة البارد مشفقاً، محاولاً أن تبيّن لها معنى الزواج، ومسؤوليّة الزوجة نحو زوجها وبيتها بسرعة، تاركاً الباقي لزوجتك! ثمّ غابت "سورية"، رحلت الأبنة الأليفة إلى بيت زوجها، مخلّفةً وراءها فرحة وغصّة بآن!ولمّا انصرف الناس عنكم بدت الشقّة فارغة وموحشة، حتى لكأنّكم لم تخلّفوا ستة أولاد آخرين، وراحت زوجتك ترتّب ما حولها وسط وجوم الآخرين في محاولة منها للتخفّف ممّا تحسّه، فأخذتَ تهوّن عليها الأمر، فـ:"سورية" تسكن في البلدة ذاتها، وأنتما تقدران أن تطمئنّا عليها كلّ يوم!
لم تدرِ كم من الوقت مضى، لكنّك اكتشفتَ فجأة بأنك تدور حول النقطة ذاتها، بحيث لم تعد تدري فيما إذا كنتَ تخفّف عنها، أم أنّك كنتَ تخفّف عن نفسك! كان التعب قد نال منك، ومع ذلك راح النوم يجافيك، ربّما لأنّ المسألة أخذت تتبدّى بصورة مغايرة عن تلك التي جاءت في متن كلامك! لقد كان الكيان الذي استلزمك بناءه طويلاً في طريقه إلى التفكّك، ليذهب كلّ واحد في حال سبيله، ويندغم في كيان جديد! صحيح أنّ ما يحدث يرسم سنّة في الحياة، لكنك أخذتَ تتفكّر في الأسباب التي حدت بالحياة لأن تترتّب بتلك الصورة، وعليه، فأيّ حكمة في أن يتعب المرء ويشقى، ثمّ يذهب كلّ شيء هباءً أو زبداً!؟ أما كان للأمور أن تنتظم وفق سنن مغايرة، بما لا يورث الناسَ الكثيرَ من المرارة وحسّ الفقد!؟
وهرباً من تلك الأسئلة جرّبتَ أن تقصيها، بـإحلال أسئلة من طبيعة مختلفة محلّها، بيد أنّك لم تنجح، ربما لأنّ أساك كان عميقاً هذه المرة وشاملاً!
- 8 -
كان المحصول الذي تحصّلتَ على ثمنه أخيراً وافراً، فيما كانت أمورك تسير وفق ما تشتهي، فعاد موضوع الزواج إلى مقدمّة اهتماماتك، وأخذتَ تقلّب الاحتمالات ممحّصاً، فالصحّة ـ والحمد لله ـ في أحسن أحوالها، وليس ثمّة مشكلة على الصعيد الماديّ، وأنت في السنّ المثالية لمثل تلك الأمور! طبعاً أنت كنتَ تفضّل أن تتدّبر أمورك مع صديقة ما، لأنّها كانت ستجنّبك الخلاف مع الأولاد وأمّهم، إذْ أنّهم لن يسكتوا على خطوة كهذه! ثمّ أنّها كانت ستعفيك من افتتاح بيت آخر، والتوزّع بين بيتين وزوجتين، ولكن يبدو أنّ ما باليد حيلة، وكما أسلفتَ، فما حللّه الله لن يحرّمه البشر!
كان أحدهم قد أقطعك قطعة أرض من لدنه لتزرعها، وقمتَ باستئجار قطعة أخرى، تحت ضغط الإحساس بأنّ أعباءك العائلية ـ هي الأخرى ـ قد تضاعفت، "فخالد" يتابع دراسته الجامعيّة، والبقيّة يتناثرون بين المعاهد والثانويات والإعداديات! ثمّ أنّ المسألة في أسّها ربّما لم تكن مندغمة بحساب الحاجات، أو التحسّب للغد، بمقدار ما تمثّلت في استيقاظ وحش بدائيّ كان قد غفا، وحش لا يشبع إلى الجنس والمال! وإذن، فما المانع في أن تبدأ بحثاً حذراً عن فتاة ملائمة؛ تعيد لحياتك ألقها وبهجتها! لكن أحداثاً من مستوى آخر راحت تتوالى مستأثرة باهتمامك، إذ أنّ أعضاء اللجنة ما كانوا قد سكتوا على الخلاف الذي نشب بينكم منذ أمد؛ بسبب من قضيّة العامل المصاب تلك! فهل خامرتهم الخشية على مراكزهم، أم أنّهم توهّموا بأنّك لـن تتراجع عـن موقفك ذاك!؟ فعمدوا إلى مخـاطبة المركـز
سرّاً، وكان أن باغتتك اللجنة التي قدمت مـن حـاضرة البلاد للوقـوف علـى جليّة الأمر!!
كنتَ تتوهم بأنّ الموضوع قابل لأن يُطوى، أو يُحسم لصالحك لكنّك سرعان ما تبيّنتَ بأنّك واهم، وأنّ المسألة مسألة صراع غير متكافئ! إلا أنّ ما فاجأك تماماً، وأذهلك عن نفسك؛ هو موقف "خليل" و "إبراهيم" ممّا يجري، إذْ أنّهما أخذا ينسحبان من المسألة شيئاً فشيئاً، على أمل أن يتخلّصا من ذيولها بأقل قدر من الخسارة، ربّما لأنّهما لاحظا بأنّ الرياح تجري في اتّجاه آخر، فخشيا أن تنقلب عليهما! وما كان ثمّة وقت للتفكّر، أو الندم، أو حتى الالتماس، ذلك أنّهم كانوا على عجل!
صرخوا، وصرختَ!
ثمّ تفاجأتَ بقرار الاستغناء عنك في اللجنة! وأردتَ أن تحتجّ عليه، لكنّهم كانوا يقرؤون أفكارك، فبادروك بالإجابة من قبل أن تفتح فمك:
لقد أثريتَ على حساب موقعك في اللجنة، وتاجرتَ بقضايا العمّال؛ الذين كان حرّياً بك أن تدافع عنهم!
هل صُفعتَ!؟
أم انك طُعنتَ بأداة حادة!؟
هل ما يحدث حقيقة!؟
أم هو خيال عابث!؟
أو لعلّه كابوس ثقيل في ليلة صيف!؟
وأدرتَ ظهرك لهم، إذْ لم يعد ثمّة ما يقال! في الخارج كانت الشمس شعاعـاً تائهـاً فـي مـاء بـارد، بينما راحت ظهيرة ربيعيّة تخرج النـاس مـن
بيوتهـم غبّ شتاء قاسٍ آخر، بيد أنّك كنتَ منقسمـاً،وفـوق الأرصفـة الصلدة راحت خطاك تبحث عن إيقاعها الرتيب، متفاجئة بالشوارع المزدحمة بالناس، ربّما لأنك كنتَ شديد الحاجة للانفراد بنفسك قليلاً، فيما أنشأت المفاجأة تكبر، وتسدّ عليك الأفق، فلم تعد ترى سواها! فجأة باغتك عطش حادّ، وداهمك عرق غزير وبارد، وشرع ألم حارق يضغط على الجهة اليسرى من عظم القصّ! ألم مبهظ كاد أن يشلّ كتفك اليسرى، بحيث لم تعد قادراً على السير، وعلى حافة الرصيف تهاويتَ متهالكاً، بينما أنشأ كلّ شيء يتماوج أمام عينيك ويغشى!
هل هي نوبة قلبية!؟
تساءلتَ، وجاءك صاحب المتجر الذي قعدتَ أمامه بكأس من الماء:
ـ ما بك!؟ هل تشكو من شيء!؟
ـ لا، لا شيء مهمّ!
وشربتَ شيئاً من الماء، ثمّ تحركّتْ شفتاك بكلمات الشكر! كانت حالتك قد تحسّنت قليلاً، فنهضّتَ، وراحت الذاكرة تسترجع شريطاً طويلاً من الذكريات، إذْ هاهو صبيّ صغير تتبعه أسماله بين غيضات "الزركان" في إثر قطيع صغير لم يعد موجوداً، فيما تحدّد عالمه بين تلك الغيضات وفخاخ القطا وأتراب اللهو البريء! وهاهي شاحنة قديمة تقلّ عائلة ريّفية صغيرة نحو بلدة صغيرة؛ في خطوة غريبة من نوعها آنذاك، بحيث لا تعود أسرة ريّفية كما كانت، ولا تنجح في الانقلاب إلى عائلة مدينيّة، وهاهو تلميذ صغير تجبره الظروف على التخليّ عن دراسته في منتصف المسافة؛ غبّ أن اشتدّ المرض بأبيه، ثم هاهو الأب يرحل إلى الملأ الأعلى؛ تاركاً وراءه أسرة صغيرة بلا مورد أو معيل، فلا يجد الابن الشاب عملاً سوى بيع أوراق الحظّ للآخرين، تاركاً نفسه من غير حظّ! وهاهو الشاب يقع على عمل في ظلّ محاولة لتوحيد صفّ طال انقسامه، لتبعثره القرى النائيات على دروبها الترابيّة، لكنّ الوحدة انفصلت عن جلدها، ورجع المنفصلون إلى ما كانوا فيه من انقسام وتشرذم، وظهرت حكومات، واختفت حكومات أخرى، إلى أن تزوّج الشاب، وأنجب، أنجب أطفالاً كثيرين من غير أن يحسب للغد حساباً! كان الدرب قد مرّ به على السجن لفترة قصيرة من الزمن، من غير أن ينساه المرض! وكان أن أسلمتْه موجة إلى موجة، وسكّة إلى أخرى خلف لقيمات من الخبز ربّما! كان الرجل قد انهزم عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف، ثمّ انهزم عام سبعة وستين وتسعمائة وألف، وكانت الأم قد رحلت عن هذه الدنيا، بينما راح الأولاد يكبرون، فاقترف من أجلهم الكثير من الأخطاء، أو هكذا خُيّل إليه!
كلّ شيء كان جليّاً، واضحاً وكأنّه حدث في التوّ!
ثمّ ماذا بعد!؟ تساءلتَ!
كانت الشوارع تمور بالحركة!
كلّ هؤلاء الناس من أين يجيئون!؟
وكانت قواك قد بدأت تعاودك شيئاً فشيئاً، فتحاملتَ على نفسك، وأخذتَ تغذّ السير بين الجموع متفكّراً!
عليك أن تبدأ من جديد، أن تعيد النظر في كلّ شيء، نعم في كلّ شيء، فليس ثمّة سبيل آخر، ولكن هل بقي في العمر مُتّسع !؟
"تمّت"
منقووووووووووووووول ...
|