مسلسل حرب
الجواسيس: ملهاة مجوّفة على الطريقة الهندية
عرض في رمضان مسلسل حرب الحواسيس وهو مقتبس من رواية عنوانها سامية فهمي للكاتب الراحل صالح مرسي، لكن السيناريست اقتبس منها مسلسله بطريقة مفاجئة فجاء اقتباسه صدمة كبيرة لعالمي الأدب والفن، لأنّ رواية (سامية فهمي) التي أبدعها الروائي الكبير (صالح مرسي) حافلة أصلاً بالإثارة الفنية العالية والمحتوى الفكري الثمين والغايات النبيلة والحبكة الدرامية المتينة المتماسكة، لكن سيناريست المسلسل لم يعجبه كل ما فيها وراهن على قلبها رأساً على عقب فقرر أن يضم جهده إلى جهد المخرج لكي يحطما كل شيء مترابط في الرواية من أجل أن يبنيا توليفة مفككة مجوَّفة على منوال الأفلام التجارية الهابطة.
من غير المفهوم لماذا أباحا لخيالهما الجامح إفساد عمل روائي رائع وهبطا به إلى مستوى فني مبتذل؟! مع أن العمل الفني كان متكاملاً في الرواية ولا ينقصه شيء وكان أمامهما على طبق من ذهب! فما هو الدافع إلى كل تلك " اللخبطة والشخبطة " والتلاعب بأحداث الرواية الواقعية: هل كان ذلك لمجرد العبث واللهو المجاني فقط ؟! أم من أجل التباهي بقدرات خارقة على دفع الأعمال المميزة من القمة إلى الهاوية ببساطة وسهولة؟؟
من المؤسف فعلاً أنّ القائمين على المسلسل اشتركوا جميعهم أيضاً لإفساد رواية عظيمة وقدموا حلقات مهلهلة أتلفت برعونة موضوع الرواية الواقعي وشوهت أحداثها المنطقية وزعزعت مكانتها في نفوس من لم يقرأها بعد، حيث ضاعت معالم الرواية الأساسية تماماً في ذلك المسلسل وتحوّل الخائن في الرواية ليصبح بطلاً في المسلسل!
ما هكذا يكون الإقتباس أبداً يا ناس.. كان الأحرى ترك الرواية من أساسها على جنب وتقديم تلك الفبركة الخاصة بدون زج اسم الرواية وكاتبها في تيترات المسلسل طالما أن قصة المسلسل ابتعدت كثيراً جداً عن أهداف الرواية وأحداثها ووقائعها وغاياتها. إنّ ذلك يدفعنا للظن أنّ صناع المسلسل كانوا بحاجة إلى أكتاف قوية يصعدون عليها للهتاف من أجل تمرير مسلسلهم الغريب وجذب الناس إليه ليس أكثر، فلم يكفهم انتهاك حرمة الرواية وكاتبها وتغريب أحداث المسلسل عن أصلها، بل حاولوا أيضاً الاستخفاف بالمشاهدين وازدراء عقولهم.
ومع أنّ معظم الممثلين حاولوا كثيراً أن ينقذوا المسلسل بأدائهم الملفت للنظر، وحتى الكومبارس منهم بذلوا جهوداً ملحوظة كثيراً في تقمص شخصياتهم (حتى لتحسبهم عناصر أمن حقيقيين وليسوا ممثلين فكانوا ينقلون أحاسيس صادقة إلى المتفرجين)، إلا أن جميع تلك المحاولات لم تنفع في الحفاظ على توازن القصة أو منعها من السقوط في هاوية الابتذال الممجوج، مما دفع المتفرجين الواعين للتحسر على ضياع مواهب كبيرة في مسلسل شوِّهت حبكة أحداثه بقسوة حتى صارت مسخاً مزرياً عن رواية كبيرة القيمة والمكانة.
لقد ظهر الممثلون في مسلسل حرب الجواسيس كعمالقة يمثلون قصة تلفيقية متواضعة لذوي الاحتياجات الخاصة من الأقزام! وذلك يدفع الناس للحزن من ذلك العبث الفوضوي الذي قام به المخرج والسيناريست فعبثا بمحاور القصة وأحداثها ومغازيها وأهدافها ومراميها ونقاط ارتكازها وتوازنها؛ عبثاً مزعجاً سمجاً، حتى صارت حلقات المسلسل مجرد حلقات فارغة مطوّلة "ممطوطة" من أجل الترفيه وتسلية المراهقين، فبدا خلالها المخرج والسيناريست كأخرقين يخوضان في مضمار أكبر من قدراتهما بكثير لم يدركا أبعاده وأعماقه، فهما لم يفهما عالم الجاسوسية على حقيقته، وليس لديهم أدنى فكرة صحيحة عن طرق الحركة والتحرك فيه، ولا عن أساليب المكر والدهاء الشديدين في التخطيط والتنفيذ الذين يميزا ذلك العالم، وابتعدا كثيراً جداً عن الاقتراب من حقيقة ذلك العالم الخطير المفعم بأمور "فنية " دسمة جداً .. لقد ابتعدا عن محاكاة ذلك العالم الواقعي وانشغلا بتقديم سخافات تخيلية متواضعة (من بنات أفكارهم القاصرة) لا علاقة لها بجوهر أمور الجاسوسية وصراعها الفعلي! إذ لم يكن لمعظم أحداث المسلسل ومشاهده علاقة بأحداث الرواية ( أو بأي واقع حقيقي آخر من وقائع الجاسوسية) إلا بشكل سطحي ضعيف (بالإسم والخطوط العريضة فقط).. أما التفاصيل الدقيقة المهمة والغايات الخطيرة في الرواية فقد تم العبور فوقها باستهتار.
لو أن القائمين على ذلك المسلسل (إنتاج وإخراج ومعالجة درامية ورقابة) التزموا فقط بأحداث الرواية كما سردها الكاتب الكبير صالح مرسي لغدا عملهم راقياً كثيراً، ولصار مشتملاً على الفائدة مع التسلية معاً بترابط جدلي قوي، إلا أنهم هبطوا ب توليفة مسلسلهم التخيلية إلى درك متدني بدون مسوِّغ لا فني ولا فكري (ولا حتى أمني أيضاً!).. وهذا ما يثير العجب! ويدفع المشاهد للاستفسار عن الغاية التي كان يسعى إليها أصحاب المسلسل: هل كانت غايتهم فقط تصوير مشاهد جميلة (مناظر) في الطبيعة الأوربية لتسلية الناس الشقيانين ويتلاعبوا بأحاسيسهم على الطريقة الهندية؟؟! ويبددوا أموالاً طائلة للتنقل بين العواصم الغربية وكأنهم " يتفسحون في أجازة "!
والأسوأ من ذلك أنهم قدموا عملهم وكل مشهد من المسلسل يشهد أنهم يفترضون بأن الجمهور كله حفنة من الأغبياء أو المتخلفين (أو يدفعون الناس للإحساس بذلك).. ولم يبدر منهم – خلال المسلسل- ما يدل على أنهم يدركون أن الناس اليوم أذكى بكثير جداً من أن يضحك عليهم أحد بترهات تافهة كانت تطعم خبزاً في ثمانينات القرن الماضي وحسب، وأنّ الزمن اختلف، وصار هذا العصر للأذكياء والبارعين فقط.. أما المقصرين فمكانهم اليوم في متاحف التاريخ.
نقدم نصيحة لوجه الله تعالى أن يعتزل هؤلاء الناس العمل الفني ويفسحوا المجال لمن هم أقدر منهم على تقدير الأمور وإدراكها وصياغتها بما ينفع الناس.. فهم يفسدون الأعمال العظيمة برعونتهم ولا ينفعون الناس بل يضرّونهم، ويبررون عجزهم بأساليب سخيفة واهية.
كذلك نتمنى على جميع الممثلين أن يترفعوا عن قبول العمل في مسلسلات متشوهة بذاك الشكل؛ فالغاية أهم بكثير من الوسيلة.. ومهما كانت العوائد المادية مهمّة بالنسبة لهم إلا أن القيمة الفكرية والمعنوية للأعمال الفنية (الحساسة) أهم بكثير جداً؛ لأنها تضعهم في مكانة مرموقة يستحقونها.
وندعو الجميع لكي يعيدوا التفكير من جديد، فالمسلسلات ليست وسيلة للترفيه الصرف وليست كذلك باب ارتزاق أو طريقة من طرق التكسب المادي؛ على حساب تضييع أوقات الناس، وإنما هي أسمى من ذلك، لأنها في نهاية المطاف تؤثر في الوعي الاجتماعي (بشكل شعوري أو لاشعوري) وتساهم إما برفع وعي الناس أو في ترديهم وتخلفهم.