اقفلت لويزا السماعه ووقفت . رأت من خلال الباب السرير المرتب الجاهز لاستقبال المريض الجديد , وسمعت جلبة في غرفة الغسيل خلف مكتبها فدفعت الباب .
كانت الممرضة انيتا كارتر مشغولة بتعقيم الآواني فعلت الحمرة وجهها عندما رأت رثيستها تنظر اليها .
- هل انت بحاجه الي , يا اخت جلبي ؟ اسفة لانشغالي بهذه .
- سيحضرون المريض الجديد الآن . دعي هذا العمل وسأطلب من الممرضة بريت انجازه عند عودتها من المطعم . اريدك ان تبقي مع هذا المريض, فسيكون بحاجه الى مراقبة مستمرة . يمكنك تمييز دلالات الصدمة وهذا ما يهمنا بالنسبة له . اذا رأيت أي علامة تدعو الى القلق , فلا تترددي واقرعي جرس الانذار .
استقامت الممرضة كارتر في وقفتها تسوي ملابسها , وغطاء رأسها الذي يخفي شعرها الجعد . كانت ممرضة طبية بالرغم من افتقارها للأناقة والمهارة وكانت محبوبة ايضا , مما جعل لويزا تبتسم لها وهي تتركها .
سمعت الاثنتان صوت حركة المصعد .
- هاهم قد اقبلوا .
وتقدمت لويزا للقاء القادم الجديد , بينما اسرعت الممرضة كارتر تفتح الباب الدوار لكي يتمكنوا من ادخال العربة التي يرقد فوقها المريض الى القسم . استلمت لويزا ملف المرض من الممرضة الموافقه له ,
والقت نظرة سريعه على ذلك الجسم المتصلب الذي كان ممددا فيها . كان غائبا عن الوعي , واجفلت لرؤيته , لكن خبرتها اعلمتها ان اثار الحروق يمكن علاجها في الوقت المناسب لتخفي عن وجهه .
تمتمت وهي تنظر الى الملف :
- زاكاري ويست . عمره 34 عاما . حسنا ! يقول الدكتور هالوز انه قوي وسيجتاز المحنة. لا ادري أي نوع من المرضى سيكون .
فأجابت الممرضة المرافقه له :
- انه ليس سهلا, لقد رأيته عندما ادخل المستشفى ... لم يكن قد فقد وعيه بعد , فملأ المكان بشتائمه .
فعلقت لويزا شارده وهي تحدق في بنية هذا الرجل الغائب عن الوعي القوية :
- هذا امر عادي .
- هذا صحيح لكنه ترك لدي انطباعا بأنه رجل غضوب للغاية . واذا صادف يوما الرجل الذي سبب له الحادث فيرتكب جريمة لا محالة .
قطبت لويزا جبينها واغلقت ملف الملاحظات .
- شكرا لك . يمكنك ان تعودي الى قسمك الآن .
ثم سارت في الممر لتطمئن الى حال المريض , فقد تسبب له اقل لمسة آلاما مبرحة بالرغم من غيابه عن الوعي , وذلك لدقة العملية التي اجريت له .
عندما استقر المرض عادت لويزا الى مكتبها كي تنهي عملها . كانت تتمنى احيانا لو انها لم تستلم مسؤولية القسم , اذ كانت تفضل التعامل مع المرضى على القيام بالاعمال المكتبية .
وقبيل الفجر قامت بجولة اخرى بين المرضى . كانت المرضة انيتا كارتر لا تزال الى جانب سرير زاكاري .
تفحصت لويزا الملاحظات المدونة, وكانت الممرضة تسجل نبضه وحرارته كل ساعه , فلم تلحظ أي تغيرات ...
- ألم يسترد وعيه بعد ؟
- ظننت ولمرات عدة ... .
سكتت الممرضة فجأة عندما بدريت من المريض حركة طفيفة , لابد ان صوتها ازعجه , فقد فتح جفنيه المتورمتين , والتمعت عيناه الغامضتان ثم صدرت عنه صرخة مخنوقه .
سمعت لويزا في صوته غضبا وألما مبرحا , فانحنت عليه تتمتم كلمات مواسية من دون ان تلمسه لأنها تعلم ان أي لمسه له عذابا هائلا .
لكن صوتها امنخفض الرقيق جعل عينيه تتحولان اليها بعنف :
ماذا فعلتم بي ؟
- اننا نعتني بك , يا سيد وست فلا تقلق .
فرد بحده :
- ابتعدي عني .
تراجعت وكأنه صفعها ثم قالت للمرضة :
- اعطيه حقنة الدواء الآن .
وما هي الا لحظات حتى عاد المريض الى النوم بعد ان استرخى جسمه فتنهدت لويزا وابتعدت عنه .
عندما عادت الى مكتبها , اتصلت بقسم اخر بأصابع مرتجفه :
- مرحبا بيت . انا لويزا , كيف حاله الآن ؟
- حالته ممتازة, يا لويزا , فلا تقلقي . اصيب بصدمه خفيفه وببعض الرضوض . ما من شيء خطير . زاظنه سيغادر المستفى اليوم , هل ستزورينه فيما بعد ؟
- نعم , قبل ذهابي الى بيتي .
وضعت السماعه وقد ترقرقت في عينيها دمعه مسحتها بغضب .
*****
احاطت بزاكاري حلقة من نار . تصاعد اللهب امامه , وتناثرت شظايا الزجاج اللامعه كالخناجر لتندفع نحوه , كما لفحت جسمه ووجهه حرارة بالغة افقده بصره .
انا اعمى , انا اعمى , انا اعمى ... ردد هذه الكلمات في احلامه صارخا لكن احد لم يسمعه .
كانت تظهر هي احيانا وتسبح في الجو الى جانبه .. خفيفه كريشة بيضاء كحمامه سلام , اشبه بحلم فتهدئه وتواسيه . ويناديها من وسط حلقه النار فتلفت تحوه وترمقه بنظراتها .
شعر اسود طويل يتطاير خلفها وجه حلو رقيق عينان واسعتان قاتمتا الزرقة تشعان عطفا وحنانا . ويتلاشى الألم , فيتنهد زاكاري, وهو يمد يديه نحوها واذا بها تتلاشى مرة اخرى , فتعود الاحلام المزعجه لتقض مضجعه .
استطاع زاكاري ولمرة واحده ان يفتح عينيه ويناديها , لكنه لم يرها , وانما رأى وجهها اخرى , وجوها غريبة تحدق فيه .
نظر اليهم بغضب , من هم ؟ وماذا حدث لذات الرداء الابيض ؟ حاول ان يسأل , لكن شفتيه حبستا كلماته . انحنى فوقه احد تلك الوجوه ليقول شيئا لم يسمعه جيدا .
كان وجها باردا شاحبا اشبه بوجه راهبة , وكرهها زاكاري من النظرة الاولى بشعرها المربوط وفمها المتوتر .
- اين انا ؟ وماذا حدث ؟
حاول ان يسأل لكن الكلمات خرجت من بين شفتيه مبهمه, حاول مرة اخرى وفي صوته نبرة اتهام :
- ماذا فعلتم بي ؟
فتحت فمها وردت عليه , لكنه لم يسمع أي كلمة لم يكن يريد سوى ان تبتعد عنه . وهذا ما قاله لها فتصلب جسمها .
تحدثت الى الفتاة الاخرى بصوت خافت , ثم شعر زاكاري بوخزة ألم . حملق فيهما , ما هذا ؟
ماذا ..؟ لكنهما غابتا من جديد . وغرق هو في احلامه داخل حلقه النار . اراد ان يصرخ لكنه لم يستطع فقد عاد الألم ينهش جسده .
حاول ان ينظر من خلال اللهب , فرأى الفتاة ذات الرداء الابيض , تبتسم له بحنان , واذا بخوفه يتلاشى اذ تصورها ملاكا , ملاكا فعلا ...!
لم لم يدرك ذلك من قبل ؟ انا ميت , وهي ملاك .
*****
عندما غادرت لويزا القسم بعد انتهاء عملها , توقفت عند القسم الـ11 . كان المرضى قد تناولوا فطورهم واستلقوا يقرأون الصحف او يبادلون الاحاديث , فيما باشرت الممرضات عملهن الصباحي المعتاد .
اتجهت لويزا الى مكتب الممرضة السؤولة لتلقي عليها التحية قبل ان تدخل القسم .
كانت بيث داوليش زميلتها في مدرسة التمريض , وقد غادرت القسم منذ وقت طويل بينما حلت محلها ممرضة لم تكن لويزا تعرفها جيدا .
- نعم . اعلمتني الاخت داوليش انك ستأتين . جيد, يمكنك المكوث مع المريض قدر ما تشائين, مع انني اعتقد انه سيغادر المستشفى عصر هذا اليوم . كان يمكن لحالته ان تكون اسوأ .من هو الشخص الآخر الذي ارسلوه الى قسمك ؟ سمعت ان اصابته خطيرة جدا . احتراق سيارة ؟ لا اعلم كيف يمكنك العمل في ذلك القسم , لقد علمت فيه لفترة فكرهته . لا بد ان اعصابك من فولاذ .
لاحت ابتسامة فاترة على شفتي لويزا وقالت :
- لقد اعتدت عليه , جاء مريضنا خلال الليل , وحالته كما كنا نتوقعها .
فنظرت الممرضة اليها بجفاء :
- نعم .. الامر بهذه السهولة , اليس كذلك ؟ حتى وان اجتاز المحنة فهذا لا يكفي . مازالت الطريق امامه طويلة طويلة .
فردت لويزا وهي ترتجف :
- نعم , حسنا , ساتركك الآن لعلملك... .
ثم سارت بثبات الى اخر سرير في القسم . كان الرجل الجالس فيه يسند ظهره الى الوسائد , ويحدق في الفراغ , وقد شحب وجهه . اددار رأسه ينظر اليها وهي تجلس على كرسي قرب السرير :
- لويزا ...
ومد يده يشد على اصابعها الى درجتها آلمتها :
- هل ... هل هو ... ؟
فقالت بصوت منخفض اجش :
- انه حي ... لا تقلق يا ابي , فسيعيش .
:.نهاية الفصل الاول .: