كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
المقطع الرابع
كيف تزوجت والده.. كيف كانت ظروف ولادته.. طفولته.. نوعية حياتكم العائلية.. وهكذا..
خفضت بصرها إلى الأرض قبل أن تقول:
ــ كعادة أهلنا في هذه المنطقة، فقد تزوجت والد خالد وأنا لا أعرفه ولا أعلم عنه شيئاً ولا حتى صورته.. وفوجئت به بعد الزواج.. فقد كان قاسياً متزمتاً جافاً كعود الحطب.. كان يضربني بسبب وبدون سبب.. يئست من الوصول إلى قلبه أو حتى إلى طريق مشترك يجمعنا ببعضنا، فأهملته وأهملت نفسي وتفرغت لرعاية أولادي.. كل حبي ورعايتي وحناني أصبح لأولادي.. ولسوء الحظ والنصب، أنجبت ثلاث بنات على التوالي، مما أغاظ زوجي وفاقم الأزمة بيننا حتى أوشكنا على الطلاق.. ثم أنجبت "خالد" الولد الوحيد بين البنات.. كان رأسمالي في الحياة والورقة الوحيدة الرابحة في عش الزوجية التعيس.. كان مجيئه للدنيا بمثابة المنقذ الذي انتشلني مما كنت أتخبط فيه.. كنت أحبه أكثر من بناتي وأكثر من حياتي نفسها.. أحطته بحناني وحبي ورعايتي وأرضعته ثلاث سنوات كاملة.. حملت وأنجبت شقيقته التي تليه وأنا أرضعه.. حتى تزوج والده.. تزوج بامرأة أخرى غيري وأعادني أنا وأطفالي بدون فلس واحد إلى بيت والدي الذي لم يرض لي بكل هذا الظلم.. فتقدمنا للمحاكم ورفعنا عليه قضية نفقة ليرد لنا اللطمة بأخرى ويطالب بحضانة بناته الكبيرات اللاتي تعدين سن السابعة..
انحدرت دموعاً مرة على وجنتيها وهي تستطرد:
ــ وانتزع مني بناتي وكأنه ينتزع فؤادي.. انتزعهن قبل أن أودعهن الوداع الأخير.. فلم أكن أعتقد ولو للحظة بأنه سيحرمني منهن إلى الأبد..
وبكت بمرارة..
قلت لها بهدوء:
ــ وخالد ما موقفه..؟ وماذا كان يفعل إزاء كل هذه المشاكل بينك وبين والده؟
مسحت دموعها بظهر كفها وهي تقول وكأنها تتذكر:
ــ إنه غالباً يبقى هادئاً صامتاً ولا ينبس بكلمة..
قاطعتها:
ــ ولا حتى انفعال من أي نوع؟
كررت كلماتي ببطء:
ــ ولا حتى انفعال من أي نوع..
ثم لمعت عيناها فجأة وأردفت بعد هنيهة صمت:
ــ إنه أحياناً يندفع خارجاً من البيت وكأنه يهرب من شيء ما..
سألتها:
ــ ومتى كان يحدث هذا؟
أجابت بهدوء:
ــ لا أدري.. ولكن أعتقد أنه بعد أن يراني أبكي بشدة يفعل هذا.. وقد كان هذا سابقاً.. ولا..
قاطعتها بسرعة:
ــ ولما أصبح شاباً تغيرت حالة الهروب هذه إلى نوبات.. بمعنى أنه عندما يراك تبكين بقوة بدلاً من أن يهرب من البيت كالسابق عندما كان طفلاً فأنه يحاول أن يقتل نفسه بغير إرادته.. هل هذا صحيح؟
نهضت من مقعدها لتواجهني بعينيها الخائفتين:
ــ ما معنى هذا يا دكتورة..؟
ألقيت بنفسي على مقعدي متثاقلة وأنا أقول:
ــ لا أدري.. حقاً.. مازلت حتى الآن لا أدري.. ولكن هل تتذكرين بالضبط ماذا حدث في نوبته الأولى.. أول نوبة تحدث له؟
امتلأت عيناها بالدموع وقالت بصوت متهدج:
ــ كنت مستلقية في سريري أحاول عبثاً النوم حينما اقتحمت حجرتي ابنتي الصغرى صارخة:
ــ أمي.. أسرعي.. خالد يحاول الإنتحار..
أسرعت إليه بدون شعور بينما انطلقت شقيقته لتبلغ خالها في الجوار.. تحلقنا حوله نحاول انتزاع سلك المدفأة من بين يديه الذي كان يلفه حول عنقه بإحكام شديد وكأنه يود الخلاص من حياته..
بعد محاولات عدة وبكاء وصراخ، فتح عينيه فجأة، وكأنه يفيق من حلم مزعج.. عاتبناه على فعلته.. نظر إلينا بدهشة شديدة وأنكر أنه يحاول الانتحار ثم بكى منهاراً وهو يقول بأنه لم يكن يدري ما يفعل..
قلت لها فجأة:
ــ وكيف كانت هيئته حينذاك.. أقصد حينما كان يحاول الانتحار؟
أغمضت عينيها كمن يحاول التذكر.
قلت لها هامسة:
ــ أرجوك تذكري.. فالأمر مهم..
عمّّ الصمت أرجاء الحجرة لعدة ثوان قبل أن تهتف فجأة:
ــ نعم.. نعم تذكرت.. كان وجهه محتقناً بشدة وعيناه محمرتين وكأنه قد شبع من البكاء.. وقد كان خائفاً.. نعم نعم.. لقد كان خائفاً جداً وكأنه يهرب من وحش يطارده.. كان السلك يلتف حول عنقه وهو يتلفت بخوف باحثاً عن شيء ما.. لماذا يا دكتورة؟
كتبت في مفكرتي دون أن أجيب:
( يهرب من شيء ما يرعبه.. تمكن عقدته في الخوف من شيء ما )..
اقتربت منها بهدوء وأنا أقول:
ــ سؤال أخير يا أم خالد.. أرجوك أن تتذكري بالضبط.. ماذا حدث لك في ذلك اليوم الذي حدثت لخالد فيه النوبة.. لماذا كنت تبكين بشدة؟
نظرت إلي بسرعة.. ثم نكست رأسها وصمتت.. طال صمتها حتى اعتقدت أنها لن تجيب عن سؤالي..
أخيراً قالت بصوت جاف:
ــ لم أنس بناتي طوال تلك السنوات حتى وإن نسيهن من حولي.. كنت أنام كل ليلة وصورتهن بين أحداقي.. كنت أتساءل بالسر والعلن عن مكان وجودهن.. وقبل أن تحدث لخالد النوبة الأولى بأيام صادفت امرأة تعرفني منذ أيام زواجي الأولى فقد كانت قريبة لزوجي من بعيد.. تعلقت بها كما يتعلق الغريق بقطعة خشب طافية على الماء.. عرفت منها أن اثنتين من بناتي قد تزوجن وإن كانت لا تعرف على وجه التحديد أين يقيمان والثالثة ما زالت باقية عند أبيها وزوجته وأولاده..
حاولت أن أحصل منها على العنوان لكنها لم تكن تعرفه.. كل ما أخذته منها هو رقم هاتف منزلهم.. عايشت صراعاً مريراً مع نفسي حتى انتصرت عاطفتي على كرامتي وبقيت إرادة الأم هي الأقوى..
لم يكن يجيب على الهاتف سوى زوجي السابق.. لذلك رجحت بأن هذا الرقم ربما يكون هاتف المكتب أو العمل..
في ذلك اليوم البائس حادثته.. رجوته أن أرى ابنتي أو الأخريات.. عنفني وبصق في وجهي.. ذكرته بأولاده الباقين هدى وخالد.. وما أن نطقت بإسم خالد حتى صرخ بشدة:
ــ فلتشبعي به.. أنني لا أريد أن اعرفه ولا أن أراه..
وأغلق سماعة الهاتف في وجهي..
فأجهشت في بكاء مرير.. ودخل خالد.. كان قادماً من الجامعة متعباً.. منهمكاً.. أخبرته بما حدث.. ولم يعلق بكلمة.. دلف إلى حجرته بصمت وأنا غارقة وسط دموعي الحارة.. ثم حدث ما حدث..
دونت في المفكرة:
( النوبات تحدث له بعد مواجهة صريحة مع ماضيه.. مع والده على وجهه التحديد.. شيء ما يخيفه من والده )..
قلت بصوت ناعم:
ــ لقد أتعبتك اليوم يا أم خالد.. ولكن أرجو أن تخبريني هل كان والد خالد يضربه؟
اختلجت شفتاها بقوة واهتزت رموش عينيها.. قالت بعد جهد.. وكأنها تهرب من الإجابة:
ــ نعم..
لاحقتها بالسؤال:
ــ هل كان ضرباً مبرحاً؟
أجابت بحسم وكأنها تنهي الموضوع:
ــ نعم.. ولكن ما علاقة ذلك بالموضوع؟
فاجأتها بسؤالي:
ــ أم خالد.. لماذا أنت خائفة؟
ارتعدت أوصالها بعنف.. وكأن قشعريرة باردة قد تخللت جسدها المنهمك.. شرد عيناها.. أجابت بشردود:
ــ إنني خائفة على ابني.. خائفة على خالد..
ثم استطردت بعد أن استجمعت شتات نفسها:
ــ أرجوك يا دكتورة حاولي أن تنقذيه..
شددت على يدها بحرارة وأنا أعدها بكل خير..
خرجنا من الحجرة لأجد خالد يذرع غرفة الاستقبال جيئة وذهاباً..
ابتسم قائلاً حين رآنا معاً:
ــ هل انتهيتما من الحديث عني؟
بادلته الابتسامة وأما أهمس:
ــ لا تنس يا خالد.. أرجو أن تعود إلي بعد ثلاثة أيام.. اتفقنا..
وغادرني متأبطاً ذراع والدته أو على الأصح هي المتشبثة به وكأنه سيغادرها إلى غير رجعة..
عدت إلى حجرتي وأنا أمسح دموعي الكثيرة.. جاءني صوت الممرضة حانياً:
ــ أنت عاطفية يا دكتورة.. ستتعبين كثيراً إذا لم تفصلي بين عملك كطبيبة.. وبين أحوال الناس ومآسيهم..
ابتسمت ظاهرياً وأنا ابتلع غصة.. إنها لا تدري ولن تدري بأن خالد هو جزء لا يتجزأ من حياتي.. إنه حسن يعود في صورة أخرى.. وليته لم يعد..
**************
المقطع الخامس
عشت أياماً كئيبة وأنا أغوص في أمهات الكتب بحثاً عن حالة مشابهة لحالة خالد.. ولكن عبثاً كنت أحاول..
خالد حالة خاصة متفردة بذاتها لا يشبهها شيء حتى بالنسبة لي شخصياً.. فهو قد أيقظ نفسي التي ماتت وشبابي الذي دفنته بين المرضى.. وجوده أعاد لي إحساسي بالحياة رغم إصراري على فصل عالمه عن عالمي وألا تطغى شخصيتي الأنثوية على عملي كطبيبة..
كنت أؤكد دائماً لنفسي أن حسن مات ولن يعود وأن خالد مجرد صورة.. صورة منه..
تتراءى لي صورته.. صورة خالد باستدارة وجهه وشاربه الأسود الخفيف وعينيه المملوءتين حزناً ودموعاً.. شملتني تعاسة تامة فكيف أنتشله مما هو فيه.. كيف؟
تذكرت والده.. والد خالد.. وهو المحطة الأخيرة التي يجب أن أصل إليها.. الضرورات تبيح المحظورات.. ووالد خالد ضرورة بعد أن سدت السبل في وجهي وأصبح خالد المشكلة الوحيدة في حياتي.. فرغم أن كل شيء واضح أمامي إلا أن عقدته الأساسية ما زالت غير مرئية وتغيب في دهاليز ذاكرته..
ولكن كيف أصل لوالده وبيننا عشرات مئات العراقيل.. أولها أن الأب يحاول إنكار وجود ولده خالد، وليس آخرها إنه رجل متزمت ذو عقليه متحجرة كما سمعت عنه..
ولكنني لم أيأس وطمأنت نفسي بأنني حتى لو فشلت في مهمتي فيكفيني شرف المحاولة..
قررت أن أبحث عن والد خالد بمعزل عن ولده.. فلا أريد لخالد أن يعرف أي شيء عن هذا الموضوع.. فربما تعاوده حالاته المرضية التي تشتد بقوة حينما يتذكر والده.. وطفقت أبحث في دليل هاتف المنطقة حتى عثرت على ثلاثة أرقام للإسم نفسه..
اتصلت بالرقم الأول ليرد علي عامل آسيوي أخبرني بلغة متعثرة بأن أصحاب المنزل قد انتقلوا إلى منزل آخر.. وأنه لا يعرف لهم عنوانا أو رقم هاتف..
حاولت بالرقم الثاني ليأتيني الإحباط مضاعفاً، فقد أجابتني امرأة بأن صاحب هذا المنزل قد توفى منذ عشر سنوات وأن لا أولاد له..
ورقم الهاتف الثالث كان يرن بلا مجيب.. أعدت المحاولة مرات ومرات بدون أية فائدة..
ألقيت برأسي على سريري غارقة في لجة من الأحزان، تطالعني صورة حسن بطلعته البهية لتزيد من حزني وآلامي..
رباه كيف أساعد خالد.. كيف أنقذه من مخالب هذا المرض المخيف الذي يحاول الانقضاض عليه في أية لحظة..
لماذا تنغلق الأبواب في وجهي ولا أقبض إلا السراب..
وفجأة خطر لي خاطر.. لماذا لا يكون رقم الهاتف الثالث خاص بمكتب أو شركة لا تتواجد إلا في الصباح فقط..
فرحت لهذا الخاطر وقضيت ليلة مسهدة في انتظار طلوع الصباح..
وفي العيادة كررت الاتصال بالرقم نفسه ليرد علي صوت أجش سألته فيما إذا كان هو والد خالد..
تغيرت لهجته في الحال وقال لي بخشونة:
ــ من أنت وماذا تريدين؟
بصوت رقيق أفهمته بأنني طبيبة خالد وأحاول مساعدته ويجب أن يحاول هو كذلك مساعدتنا..
قال بأنه لا يعرف "خالد" ولا يريد أن يعرفه.. أمنته على كلامه، ولكنني أخبرته صراحة بحرج وضع ابنه وأنه يجب أن يساعدني وليس من الضروري بأن يرى أبنه..
قال وقد نفد صبره:
ــ وماذا تريدين بالضبط؟
ــ أن تحضر لعيادتي لألقي عليك بعض الأسئلة..
صرخ بقوة:
ــ أنا لست مجنوناً لأزور عيادات نفسية.. إذا كان لديك أسئلة فأخبريني بها حالاً..
وقررت بسرعة بيني وبين نفسي بأن ألجأ للتهديد.. فإن هذا الرجل على ما يبدو لا يجدي معه اللين، فكلما ازددت هدوءاً ازداد هو حقدة وعنفاً، فأيقنت أنه من ذلك الصنف الذي فقد كل شيء مع أبوته وما إمعاني له بالتوسل إلا نوع من الإذلال تأباه نفسي وكرامتي ولا يزداد معه إلا تعنتاً وطغياناً.. قلت له بسرعة:
ــ أتعلم بأن رفضك التعاون مع الأطباء يعد مخافة تعاقبك عليه السلطات المختصة؟
صمت لحظات وكأنه يبتلع ريقه قبل أن يقول بصوت بالغ الهدوء:
ــ إنني لم أرفض التعاون معك، ولكنني خشيت أن يراني الناس أتردد على العيادة النفسية فيعتقدونني مجنوناً..
ابتسامة نصر اعتلت شفتي وأنا أقول:
ــ اطمئن لا يستطيع أحد أن يقول عنك مجنوناً.. ولا حتى ابنك خالد.. ولكن صدقني أنا في حاجة إليك..
قال باستسلام:
ــ غداً العاشرة صباحاً.. لن أستطيع الحضور بعد الظهر على الإطلاق..
قلت بهدوء:
ــ حسناً فلتكن العاشرة من صباح الغد..
نبض قلبي بجنون حينما وقع بصري على والد خالد لأول مرة.. إنه نسخة منه.. نسخة طبق الأصل.. بل خالد نسخة من والده.. الأنف الروماني الدقيق ذاته واستدارة الوجه العجيبة.. الشفتان نفسهما المملوءتان قرفاً واشمئزازاً..
وكأن خالد أمامي وقد أضيف لعمره عشرون سنة على الأقل..
رباه.. لماذا ينكر الأب أبنه وهو نسخة مكررة منه، لماذا يكرهه ويرفض مرآة وهو أبيه من صلبه؟ لا بد أن هناك نقطة ما تغيب عني.. لا بد أن في الأمر سراً..
حييته بابتسامة، ولكنه كان يشبك يديه بعصبية وينظر إلى ساعته بين فينة وأخرى وكأنه متعجل..
قلت له بصوت حاولت جهدي أن ينفذ إلى أعماقه:
ــ ألا تريد أن تعرف مرض خالد بالضبط..
قال ورموشه تهتز فوق عينيه:
ــ هذا موضوع لا يهمني.. أرجوك يا دكتورة ألقي علي ما تشائين من أسئلة بسرعة لأني متعجل..
أطرقت برهة أفكر.. إن دوري كطبيبة لا يقتصر على معالجة النواحي النفسية في المرضى فقط.. بل يتعدى الأمر إلى النواحي العائلية.. إلى كل شيء يساعد المريض على استعادة توازنه الذهني والنفسي حتى لو اضطررت إلى بحث القضايا العائلية التي لا شأن لي فيها.. لتسليط الضوء عليها وربما للم الشمل فيما بعد..
قلت له بهدوء:
ــ أتدري أن "خالد" يشبهك كثيراً..
اشتعلت عيناه بغضب مكتوم وهو يقول:
ــ هل هذا أحد الأسئلة؟
ثم أردف بحدة:
ــ دكتورة لا أملك من الوقت إلا عشر دقائق وبعد ذلك أنا مضطر إلى الاستئذان..
واجهته بالحدة نفسها:
ــ لماذا كنت تقسو على خالد في طفولته..
بوغت.. نظر إلي بدهشة,, تم تمالك نفسه وقال بصوت عميق:
ــ هل تريدين الحقيقة.. أمه هي السبب.. كانت تحبه بجنون وتدللـه بشكل غير طبيعي وتغرقه بحبها وحنانه دوناً عن بقية أخواته البنات.. حتى هو ابتدأ يتعلق بها بجنون ويبتعد عني شيئاً فشيئاً، حتى بت أعتقد أنه يكرهني وخاصة بعد أن تزوجت بأخرى غير والدته.. يبدو أنها كانت هي التي تحرضه ضدي وتبعده عني.. إنها هي السبب.. إنها هي السبب في كل شيء..
قلت له بصوت بارد:
ــ وهل كان هذا هو السبب الوحيد؟
احتقن وجهه بشدة.. نظر إلي بغضب وهو يقول:
ــ ماذا تقصدين بالضبط؟
ألقيت برأسي إلى الوراء وأنا أقول بارتياح شديد:
ــ أقصد أنه ربما يكون هناك سبباً آخر تكره خالد من أجله.. ربما أنت لا تحب الأولاد مثلاً وتفضل عليهم البنات..
هز رأسه بعنف وهو يقول:
ــ أبداً.. على العكس من ذلك عشت طوال عمري أمقت البنات، فقد عشت وحيداً مع تسع بنات هن أخواتي.. وعائلتي بأسرها لا تنجب سوى البنات، فأختي الكبرى لديها سبع بنات وأختي التي تليها لها العدد نفسه من البنات.. ويتفرق عدد البنات بين بقية أخواتي بين خمس وأربع واثنتين.. مما سبب لي أزمة نفسية كبرى خاصة عندما أنجبت زوجتي ثلاث بنات على التوالي، فألقيت يقيناً تاماً بأنني لن أحصل على الولد طوال حياتي وتقبلت حياتي على هذا الأساس.. وفجأة أنجبت زوجتي "خالد" الولد الوحيد في العائلة بأسرها.. المفاجأة أرعبتني وعكست ردة الفعل لدي فبدلاً من الفرحة الزاعقة التي من المفروض أن أشعر بها حدث لدي حزن عميق، وكأن هموم الدنيا قد اجتمعت فوق رأسي لدرجة أن الدموع عرفت طريقها إلى عيني ولأول مرة في حياتي.. كرهت هذا الولد ونفرت منه بشكل غريب لم أعهده قبلاً خصوصاً مع تزايد تعلق والدته به وحدبها عليها وعنايتها الشديد به.. ولما عنفتها مراراً على تفضيلها إياه على بناتي بهذه الطريقة، اتهمتني بأنني أغار منه وأنني أريد لنفسي أن أظل دائماً الرجل الوحيد في العائلة.. إنها لا تفهم وهي سبب في كل شيء..
بعد أن أنهى الأب كلماته.. أطرقت مفكرة.. لقد فهمت جزءاً من العقدة التي تحيل حياة خالد إلى جحيم لا يطاق.. فهمت أن والده مصاب بما يشبه المرض النفسي ويكره ابنه من جراء ذلك، فهو اعتاد على كونه الذكر الوحيد بين مجموعة من الإناث ويصعب عليه تقبل وجود ذكر آخر حتى ولو كان ابنه الذي انتظره طويلاً.. إنه مريض ويستحق الشفقة..
نظرت إليه بإشفاق وأنا اسأله:
ــ وهل أنجبت أطفالاً من زوجتك الجديدة؟
أجاب بسرور حاول إخفاءه:
ــ نعم لقد أنجبت منها ثلاثة بنات..
لم استطع مقاومة نفسي فسألته بدهشة:
ــ ألا تحتاج إلى رجل يؤازرك في عملك وفي رعاية بناتك؟ ألا تحتاج إلى ابنك الوحيد؟
أشاح بوجهه وقد عادت إليه عنهجيته وهو يقول:
ــ أنني لا أريده.. فلتشبع أمه به..
أطرقت لحظات أفكر بالأمر.. وقد تملكني اليأس من كل الجهات.. الأب يعاني من عقدة نفسية، وينكر ابنه، ولا يريد أن يراه، والأم ضعيفة خائفة لا حول لها ولا قوة.. والإبن ضائع بينهما، يموت في اليوم ألف مرة، ويعاني من خوف رهيب يكاد يقضي علي حياته في أية لحظة..
هل أقف هكذا مكتوفة الأيدي.. لم أخرج مع لقائي مع الأم بشيء.. ولقائي مع الأب يكاد ينتهي دون أن أخرج منه بفائدة ترجى..
أعدت النظر إلى أوراقي.. وفجأة خطرت لي فكرة غريبة تنطوي على مخاطر قد أستفيد منها بشيء وإلا ضاع كل شيء..
فكرت بسرعة.. إن حياة خالد ومستقبله وشبابه يستحقان مني هذه المقامرة وليكن ما يكون..
تململ أبو خالد في مقعده.. ووقف متأهباً للمغادرة قائلاً:
ــ أعتقد أننا قد انتهينا.. استأذن أنا..
قلت له بصوت قوي، وقد عقدت العزم على تنفيذ ما فكرت به:
ــ انتظر لحظة يا أبو خالد.. إنك لم تقل لي كل شيء.. فقد بقي لي سؤال واحد أو على الأصح استفسار.. إنك لم تقل لي مثلاً لماذا حاولت قتل ابنك خالد؟
تسمر في مكانه لحظات.. وقف يحدق بي كالمصعوق.. ارتجفت يداه بشدة.. وتهاوى على مقعدة باستسلام.. وأخيراً تمالك نفسه.. سألني بحقد والشرر يتطاير من عينيه:
ــ هل أخبرتك بذلك.. أليس كذلك؟
وقبل أن أعي ما يتطلبه هذا الموقف مني.. أردف بصوت متداع ونبرة من الحزن تغلف كلماته:
ــ إنها هي السبب في كل شيء.. فلم أكن أقصد قتله.. أبداً لم اقصد.. وهل من المعقول أن يقتل أي إنسان أو حتى حيوان ابنه؟
وقفت صامتة ولم أحر جواباً.. وماذا أقول لهذه الصدمة غير المتوقعة.. لقد كان الأمر مجرد استنتاجاً من الممكن أن يصيب أو يخيب.. كنت قد فكرت بكل الاحتمالات التي من الممكن أن تجعل شاباً مثل خالد يخشى من أبيه ويخافه ويتعلق بأمه هذا التعلق الطفولي، ثم أنه كان يتحاشى الحديث عن ضرب والده له، وحتى والدته كانت ترهب الجانب من الحديث، وتهرب منه.. فطرأ لي هذا الطارىء الغريب الذي ما لبث أن أصبح حقيقة واقعة من المذهل أن تكون هي الحلقة المفقودة التي أبحث عنها..
خرج صوتي جافاً مبحوحاً وأنا أقول له:
ــ تقصد أم خالد..
هتف بشدة:
ــ ومن غيرها تسبب في تدميرنا أنا وأولادها..
حاولت اجتراه للحديث أكثر وأكثر:
ــ صدقني يا أبو خالد.. أم خالد لم تقل لي أي شيء عن هذا الأمر..
قال وهو يرمقني بريبة:
ــ ومن قال لك إذن؟
أجبته بهدوء:
ــ لم يقل لي أحد شيئاً عن هذا الموضوع.. كان مجرد استنتاج أكدته أنت بكلامك.. ألم تلحظ أنني قلت لك في صيغة سؤالي " لم تقل لي مثلاً لماذا حاولت قتل ابنك خالد" إنني قلت مثلاً ولم أؤكد..
انتصب واقفاً وهو يقول:
ــ لقد أمضيت هنا في عيادتك ما يقارب الساعة وقد اتفقنا على عشر دقائق.. آسف فأنا مضطر للإنصراف..
لم أستقبله أكثر من ذلك.. فيكفيني ما عرفته منه.. ما كنت أحسب أنني سأتوصل لهذا الاكتشاف المثير..
بقي أن أعرف تفاصيل هذه الحادثة.. وكيف حدثت.. ولماذا؟ لأتمكن من التوصل لعلاج خالد العلاج الشافي والنهائي بإذن الله..
******************
المقطع السادس
ما أن نهضت من النوم صباحاً حتى فوجئت بهاتف من أم خالد.. جاءني صوتها المضطرب:
ــ أسرعي يا دكتورة.. خالد.. لقد عاودته النوبة.. إنه يحاول قتل نفسه..
ارتديت ثيابي على عجل وعشرات الأفكار تدور في رأسي.. وعرفت الدموع طريقها في عيني، وأنا أفكر ترى هل نجحت محاولته هذه المرة وقتل نفسه.. قتل نفسه قبل قبل أن أنقذه..
تمتمت بدعواتي إلى الله أن يحميه..
استقبلتني أم خالد على الباب جازعة.. سألتها بقلق.. :
ــ أين خالد؟
أشارت إلى أحد الأبواب في صالة الاستقبال الفسيحة.. كان الباب موارباً.. دخلت وأنا أرتعش..
فوجئت بهيئته العامة.. فقدت عيناه بريقهما المحبب، واتسعت حدقتهما خوفاً ورعباً.. كان وجهه أحمراً ملتهباً والعرق الغزير يغرق وجهه ويبلل صدره.. كلا.. إنه ليس عرقاً..إنها دموع.. دموع خوف ورجاء وتوسل.. إنه يبكي ولا يدري علام يبكي.. إنه في قمة معاناته النفسية.. في قمة عقدته ومأساته..
رأيت شقيقته إلى جانبه تبكي وقد مسكت بزجاجة دواء أخفتها بين طيات ثيابها..
أشارت إلى الزجاجة بحزن قائلة:
ــ إنه يحاول الانتحار..
التفت بغتة لي.. والتقت عيناه الخائفتان المهزوزتان بعيني الثابتة القوية.. ركزت نظراتي في عينيه وكأنني أثبت له بأنني رأيته في هذه الحالة..
وهذا شيء معروف في الطب النفسي.. فكثير من الأخصائيين يحاولون الوقوف على نقطة الضعف التي تمر بمرضاهم.. يحرصون أن يروهم في تلك الحالة وأن يتأكد المريض بأن الطبيب قد رآه في حالته تلك، وهذا هو الأهم كي يستسلم المريض تماماً لطبيبه، ويساعده ذلك على دفع العقدة التي تحتل عقله الباطن إلى التحرر، فتطفو على السطح ليعيها العقل ويشعر بتفاهتها وبساطتها فيحل السلام الداخلي ويشفى المريض..
وقد حققت هدفي رآني خالد وقد رأيته وهو في قمة عجزه وضعفه ومرضه..
اكتفيت بهذا وقلت له بصوت آمر:
ــ اليوم الساعة الخامسة عصراً..
أشار برأسه علامة الموافقة دون أن يتكلم.. خرجت إلى الصالة واجهتني الأم حزينة ملتاعة.. قالت لي ودموعها تلهب خديها:
ــ أرأيت يا دكتورة.. لا فائدة.. أنه يحاول الانتحار مجدداً، ولكن حمداً لله أنني أنقذته قبل أن يقتل نفسه بتلك الأقراص..
سألتها بهدوء:
ــ ولكن ماذا حدث؟.. لماذا حاول قتل نفسه هذه المرة؟
نكست رأسها بخجل وهي تقول:
ــ أعذريني يا دكتورة فبعد حديثنا مساء أمس.. خفت أن تفاجئيه بحقيقة حالته كما أخبرتيني، فيحدث له شيء لا قدر الله.. فحاولت التمهيد له بنفسي..
وحينما رأت علامات الاستياء على وجهي أردفت بسرعة:
ــ ولكن صدقيني يا دكتورة.. لم أتطرق لتلك الحادثة لا من قريب ولا من بعيد.. فقط اجتمعت به وبأخته وحاولت الحديث معهما عن الذكريات القديمة لحياتنا في منزل أبيه ولم ألحظ عليه سوى الانزعاج فقط لا غير..
دكتورة أرجوك ألا تحكي له شيئاً عن تلك الحادثة فربما يقتل نفسه بالفعل.. إنه لا يحتمل شيئاً.. صدقيني.. إنه لا يحتمل..
امتدت يدي لتربت على كتفها بحرارة وأنا أهمس:
ــ اطمئني يا أم خالد.. لن أفعل شيئاً يؤذي "خالد" على الإطلاق.. أرجوك أن تطمئني لكن لا تحاولي نبش الذكريات معه من جديد.. أرجوك..
وخرجت بسرعة.. لكنني لم أستطع إغماض عيني كعادتي في القيلولة.. مئات الأفكار تجول برأسي لم تكن تحيرني مقارنة بزوجي الراحل حسن، فقد محوت كل هذا من عقلي وقلبي ولم أعد أفكر بهذا الموضوع على الإطلاق..
كان ما يحيرني ويشتت تفكيري هو هذه العقدة التي تمكنت من خالد ومضت كالسوس تنخر في نفسه حتى لتكاد تقضي على حياته..
هل سيتحمل مواجهتي له بالحقيقة أم سيجزع ويهرب؟ ولكن أين؟ لينتحر مرة أخرى.. لا.. لن أسمح بهذا.. سأدعه هو ينطق بها.. هو من سيحكها لي لا أنا.. هو من سيتعذب بالحروف قبل أن ينطقها.. وعندها إن شاء الله سيشفى..
|