كاتب الموضوع :
#أنفاس_قطر#
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مساءات السحر والقصص التي عاشت في مخيلتنا الطفولية
وحكاية السندريلا وحذائها المفقود الذي كان طريقها لسعادة سُلبت منها
دقت الساعة حينها اثنتي عشرة دقة لتعلن انتهاء السحر وعودة السندريلا إلى حقيقتها
الحقيقة التي تقبلها الأمير وهو يلبس قدمها الصغيرة المغبرة البائسة حذائها الكريستالي الثمين
ليعلن فلسفة القصة التي فهمتها منذ طفولتي أنها تحتضن ثلاث حقائق أزلية
الأولى..لابد للظلم من نهاية
والثانية..الإنسان الشفاف الروح سيلاقي دائما جزاء شفافيته سعادة هو يستحقها
والثالثة..الحياة الحقيقية لا يمكن أن تُبنى على كذبة.. فلو كان الأمير تزوج السندريلا في الحفلة دون أن يعرف حقيقتها كانت القصة ستكون مبتورة
ولم يكن ليصبح لها هذا الصدى العالمي رغم بساطة الحبكة
الآن تدق الساعة اثنتي عشرة دقة
الدقة الأولى اشتقت لكم بقدر مابقي في أسى الهجران من أحداث
الدقة الثانية اشتقت لكم بقدر برود مشعل بن محمد قبل مصالحته مع لطيفة
الدقة الثالثة اشتقت لكم بقدر قدرة لطيفة على الاحتواء ومحبتها لمشعل
الدقة الرابعة اشتقت لكم بقدر محبة مشعل بن عبدالله لشقيقاته
الدقة الخامسة اشتقت لكم بقدر عناد هيا قبل زواجها من مشعل
الدقة السادسة اشتقت لكم بقدر عشق فارس للعنود
الدقة السابعة اشتقت لكم بحجم التوجس الذي يحيط بحياة ناصر ومستقبله مع مشاعل
الدقة الثامنة اشتقت لكم بقدر شهامة راكان واختلافه
الدقة التاسعة اشتقت لكم بقدر ألم موضي الذي عانته في حياتها مع حمد
الدقة العاشرة اشتقت لكم بقدر خفة دم معالي وسلطان وطول لسانيهما
الدقة الحادية عشرة اشتقت لكم بقدر ماعاشت الجدة هيا خيبات الفراق ووجعها
الدقة الثانية عشرة اشتقت لكم بقدر كبرياء باكينام وتسلط يوسف
ومعنى كل الدقات يترجم حقيقة واحدة
اشتقت لكم شوقا لا حدود له ولا امتدادات
دقت الساعة.. واُعيد فتح أبواب أسى الهجران
لنعبر مرحلة جديدة مختلفة شديدة العمق.. سيكون لكل كلمة معنى ولكل حدث مدلول!!
وسيتضح فعليا معنى اسم الرواية ومدلولاته المؤجلة
" أسى الهجران"
اليوم جزء طويل جدا بقدر عشر أجزاء من أجزائي السابقة
لذا وحتى يأخذ حقه في القراءة
موعدنا القادم سيكون صباح الأحد الساعة 9 صباحا إن شاء الله
بعدها سأعاود النشر اليومي كل صباح إن شاء الله
أعاننا الله ووفقنا لكل مايحبه ويرضاه
.
.
استلموا الجزء 69
.
.
لا حول ولا قوة إلا بالله
.
.أسى الهجران/ الجزء التاسع والستون
على متن طائرة مروحية تابعة للجيش الأردني
تطير بالقرب من مدينة البتراء الأثرية
الساعة 11 صباحا
تطير المروحية في الجو.. تحمل قلوبا مرتاعة ينهشها القلق المسعور بوحشية
تتضخم مساحات القلق وتتضاعف لتلتهم ما بقي من الصبر والتجلد
ذلك الأثير الغالي المتخم برائحتهم وعبقهم.. فارسهم الثمين الموغل بهاءً ورجولةً
على أي حال هو؟؟
كيف قضى ليلته في هذا البرد القارص الجليدي؟!
ما مدى سوء إصابته؟!
هل هي قابلة للعلاج؟!!
مئات الأسئلة الموجعة دارت في أذهان أتعبها السهر والسهد والقلق
أسئلة تنتهك الروح بشراستها وهي تمزق كل الأغلفة لتغوص في العمق
راكان بقلق: زين ليش تأخروا ذا كله مالقوه؟؟
رئيس الفريق بتأثر: يظهر إنه سحب نفسه داخل غار من البرد
عشان كذا الطوافات ماقدرت تشوفه
اللي لقوه الطواقم البرية التابعة للصاعقة لأنهم تتبعوا الأثر على الأرض
فارس بقلق مر: زين أشلون وضعه؟؟
رئيس الفريق بحزن فيه إحساس متعاظم بالندم:
يقولون لقوه واعي.. بس الظاهر عنده إصابة خطيرة
ألم حاد اجتاح روحي فارس وراكان كطوفان مرارة هادر.. ودعوات عميقة تتصاعد في قلب كل منهما أن يكون الأمر بسيطا
أو على أسوأ الاحوال قابل للعلاج.. حتى وإن طالت فترة المعالجة هذه..
لم تستغرق الرحلة عشر دقائق ولكنها بدت عشر سنوات لكل منهما
حرقة وألما ولهفة وقلقا
نزلت الحوامتين العسكرية والطبية معا
والعشرات ينزلون من كل طوافة في مكان صحراوي جبلي كان يتجمهر به الكثير من لابسي لباس الصاعقة الأردنية
الذين لم يحركوه من مكانه خوفا من أي مضاعفات صحية..انتظارا لحضور المساعدة الطبية
راكان وفارس بجسديهما الفارعين استطاعا اختراق الحشود المتجمهرة
حتى وصلا إلى ناصر
كان كل منهما يمني نفسه أن مابه شيئا بسيطا يستطيع ناصر بصلابته وقوة بنيته تجاوزه
ولكن رؤيتهما لوضع ناصر حطمت هذه الآمال بقسوة سادية
وبعثت قشعريرة متوحشة في خلايا كل منهما
كانت ملابسه ممزقة وبه إصابات مختلفة في نواحي جسده
ولكن كل هذا لا يهم.. لا يهم أمام إصابة ساقه اليسار
تمزق اللحم تماما والعظم محطم ومفتت من عدة نواحي ومابقي من الجلد حولها مزرق تماما
كان ناصر يفتح عينا ويغلق الأخرى.. والألم لا يمكن احتماله
لكنه حين رأى راكان وفارس بوجيهما المرتاعين المأساويين
ابتسم ابتسامة باهتة وهو يقول: عريس جديد وخاطب جديد وش جابهم..
الله يهداكم مافيني شيء.. جايين عانين من الدوحة
الشباب يكفون ويوفون
فارس وراكان لم يستطيعا التكلم بشيء والكلمات تصبح باهتة وتافهة وحقيرة
وأي مواساة أو تشجيع يتسربلان بالضآلة أمام عظم الموقف
ابتعدا مجبرين بصدمتهما الهائلة في وجعها وألمها
والمسعفون يبعدونهما ليبدأوا بإعداد ناصر لنقله
***********************
عمّان/ الأردن
مدينة الحسين الطبية
الساعة 3 عصرا
ناصر في غرفة العمليات
فارس وراكان وفريق ناصر بجميع أفراده كلهم ينتظرون في الخارج
خرج الطبيب وهو يسأل إن كان يوجد أحد من أقاربه
قفز راكان وفارس بقلق
وتوجه الطبيب لهما وهو يقول بهدوء: اتبعوني
الطبيب أخذهما لمكتب قريب ودخل وأغلق الباب وطلب منهما الجلوس
توتر راكان وفارس تصاعد للذروة
الطبيب أنزل كمامه وهو يقول بنبرة مهنية تماما:
أنا حابب أحطكم بالصورة
المصاب خليتو وراي صاحي و أعطى موافقته النهائية
راكان بهدوء متوتر: موافقته على ويش؟؟
الدكتور بهدوء: بتر الساق Transtibial
منذ أن دخل راكان وفارس لمكتب الدكتور وهما يعلمان أن وراءه خبرا مفجعا
ولكن ليس هذا الخبر.. ليس هذا!!!
لـــيــــس هــــــــذا!!!!
لـــــــــــيـــــــس هـــــــــــــــذا؟؟!!!!
كان الاثنان كما لو كانا يقفان بصدريهما العاريين في مواجهة إعصار قادم
يعلمان أن الإعصار قد يقذفهما بعيدا
قد يحملهما ويلقيهما أرضا بكل قسوة
ولكنه لم يخطر ببالهما أن يكون الإعصار محملا بشهبا نارية تخترقهما بكل وحشية
وخبر البتر ينزل على رأسيهما ليخترق الجلد والعظم ثم يذيب اللحم
فارس قفز وهو يقول بحدة وغضب موجعين: مستحيل مستحيل
راكان أشار بيده لفارس أجلس وهو يقول للدكتور وهو يبتلع ريقه وألمه ووجعه وصدمته: مافيه حل ثاني؟؟
الدكتور بنبرة هادئة منطقية: هذا الحل الوحيد وللعلم المصاب وراي هادئ تماما ومتقبل العملية
ولعلمكم أنتو مكان البتر الآن مثالي تماما لأنه في منتصف الساق وأقرب للكاحل
لو تُرك قد تتصاعد الغرغرينا أكثر .. ومادام البتر لم يصل للركبة فالبتر بسيط
أعرف أنو صعب عليكم تقبل الأمر وأنا أقول كلمة بسيط
لأنو ثقافتنا القاصرة ووعينا المحدود تصور أنو فاقد أحد الأطراف بمثابة المعاق
وخصوصا إنو الأخ ناصر بطل سباقات خيل.. لكن أنا أأكد لكم وبمهنية كاملة
وأنا أصلا تخصصي الدقيق في الأطراف الصناعية
أنه ناصر بعد أسبوع واحد من تعوده على الساق الصناعية يستطيع العودة لركوب الخيل بنفس المهارة إن شاء الله... وخصوصا أنه أيمن وليس أيسر
بل يستطيع إن أراد أنو يغير لرياضة أصعب كالسباحة أو حتى تسلق الجبال
ومستحيل حدا لو شافه يمشي أو حتى يركض يعرف إنو عنده ساق صناعية
فارس وراكان صامتان.. فهناك ألم مر متوحش يتصاعد في أرواحهما.. ولكنها روح آل مشعل المقاتلة..
يعلمان تماما أن ناصر يستطيع تجاوز كل هذا ..وإذا كان هو يستطيع فليحاولا هما رغم صعوبة المحاولة..
الدكتور يستكمل حديثه: الأطراف الصناعية الآن تعيش ثورة تطور حقيقية
فالأطراف تصنع من الجبس البلاستيكي المعالج بالألياف البلورية، خفيف جدا ومرن وقادر على التحمل
واحنا هلا بناخذ قياس ساق الأخ ناصر وبنبعثها بالإيميل لأفضل معمل لصنع الأطراف الصناعية اللي بيصنع الأطراف للاعبين الرياضيين
وخلال ثلاثة أيام بتكون واصلة.. وبعد التئام الجراحة يقدر يبدأ يستخدمها
وفيه تعليمات محددة بدي قولها لكم في وقتها
ثم ابتسم الدكتور وهو ينظر لوجهي راكان وفارس المرتاعة:
يا أخوان أكيد أنكم بتعرفوا خالد حسن السباح المصري المعروف
هذا حالته نفس حالة ناصر بتر في الساق اليسرى... بساقه الصناعية عمل إنجاز عالمي ولا قدر عليه حتى أصح الأصحاء
عبر بحر المانش الواصل بين فرنسا وبريطانيا 52 كيلو سباحة في 12 ساعة... تخيلوا معي هذا الانجاز المعجز...
وما بعرف لو كنتو بتعرفو إيمي مولي.. هذي بطلة جري أمريكية.. سيقانها الاثنتين صناعية..
لا وكانت تشتغل عارضة أزياء كمان.. تخيلوا.. بطلة جري وعارضة أزياء برجلين صناعية..
ريان مارتن كان من أفضل لاعبي التنس في العالم وهو بأطراف صناعية..
هادي مجرد نماذج.. ولو بدي أحكي أكتر بأتعب... أنا شايف أنو الاخ ناصر ماشاء الله عليه كثير متقبل..
عنده إيمان وعزم وتصميم.. فلازم أنتو كمان تساعدوه.. هاه شو بتقولو؟؟
فارس صمت وهو يخفض عينيه للأسفل.. فمازال غير قادر على التخيل
عاجز عن تخيل رؤية ناصر بعد العملية بدون ساقه
أي ألم هذا؟!!
أي ألم؟؟
أ يعقل أن هناك ألم كهذا؟!!
راكان بحزم: دام ناصر موافق... توكل على الله
وناصر رجّال طول عمره... وعمر المرجلة ماكانت في يد وإلا رجل
مرجلة الرجّال في رأسه... وأنا أشهد إن أبو محمد رجّال
************************
بعد صلاة العصر
مجلس آل مشعل
مشعل ومشعل أصبح عندهما خبر بما حدث لناصر
وبأن ساقه ستبتر
وأصبحت المهمة الصعبة إبلاغ والديهما
والمهمة الأكثر صعوبة في إبلاغ أم ناصر وشقيقاته وزوجته
كان مشعل بن محمد من اضطلع بالمهمة العسيرة ولكنه قرر أن يقوم بتمهيد مبدئي وألا يخبرهما بخبر البتر بشكل صادم
تنهد بعمق ثم قال: يبه.. يبه عبدالله
عندي شي بأقوله لكم
محمد ألتفت له بهدوء: عسى ماشر؟؟
مشعل بهدوء رغم ألمه العميق: ناصر انصاب في السباق اللي في الأردن
وإن شاء الله إنها بسيطة
عبدالله برعب: وشو؟؟
محمد بذات الهدوء: أشلون بسيطة؟؟ كسر وإلا جروح وإلا أشلون؟؟
مشعل ابتلع ريقه ليقول بذات هدوء الده وطريقته في الكلام: إذا جاء إن شاء الله شفت بروحك
محمد وقف بحدة وهو يقول بغضب: إذا جا؟؟ والله إن وراك علم يا مشيعل
قم روح احجز لي الحين للأردن أول طيارة بتطلع.. أبي أروح الليلة
مشعل بألم: يبه الله يهداك.. أنا أصلا بأروح مافيه داعي تروح... راكان وفارس هناك من فجر
وبأروح أنا ومشعل
عبدالله كان من رد بغضب مضاعف: يعني راكان وفارس هناك من فجر.. وتبي تقول لنا إنها بسيطة
احجز لي مع أبيك الليلة
مشعل بن عبدالله كان من رد على والده وهو يقول بعمق: يبه
مايصير كلنا نروح.. ونخلي البيوت فاضية
عبدالله بغضب: انطق أنت وسميك.. وأنا ومحمد بنروح
بتحجزون لنا.. وإلا أنا بأروح أحجز لنا بروحي ذا الحين
مشعل ومشعل وجدا أنهما الخاسران في هذا الجدال
وأنهما مضطران للبقاء رغم النار التي تستعر في جوف كل منهما
ووجدا أنهما مضطران للانتقال للمرحلة الثانية الأصعب
مشعل بن محمد يبلغ والدته وشقيقتيه
ومشعل بن عبدالله يبلغ مشاعل
مشعل بن محمد باحترام: خلاص ولا يهمكم باروح أحجز لكم
بس خلني أروح لأمي أول وعقب بأطلع السفريات
وتوجها كلاهما لداخل بيت محمد بن مشعل
مشعل بن محمد لداخل البيت
ومشعل بن عبدالله لقسم أخته
**************************
بيت محمد بن مشعل
الصالة الرئيسية
مشعل اتصل بالعنود وطلب منها الحضور
فليس لديه استعداد لتقبل صدماتهن متفرقة
وهاهن الثلاث ينتظرنه وهن قلقات متوجسات من طلبه لهن بهذه الطريقة
العنود تهمس لمريم: مشعل ماقال لش وش يبي؟؟
مريم بذات الهمس: لا والله.. يا الله سترك أنا قلبي ناغزني من البارحة
أمي أشلونها؟؟
العنود تهمس: وجهها معتفس.. يالله سترك
وهما في حوارهما دخل مشعل يحاول التجلد.. أكثر من يهمه والدته
عاجز عن صدمها.. يتمنى لو كان بإمكانه حمل الحزن.. كل الحزن عن قلبها
هو قادر على تحمل الحزن.. ولكن هي أم.. قلبها قلب أم
وآه من قلب الأم!! وألف آه !!
مشعل سلّم ثم جلس جوار أمه .. احتضن يدها وقبلها طويلا
ثم أبقاها بين يديه وهمس بإيمان عميق: يمه.. صح المؤمن مبتلى؟؟
أم مشعل منذ طلب مشعل أن يراها وهي وبناتها وهي تشعر بتوجس مريع
والآن بعد جملته المموهة بدأ رأسها يدور ويدور وقلبها بدأ تمزق حقيقي يحرث خلاياه طولا وعرضا
نزفت كلماتها الموجعة:
من هو منهم؟؟
راكان وإلا ناصر؟؟؟
ثم صمتت للحظة وهمست بألم أكبر: حي يرجى وإلاَّ ميت يبكى؟؟
مشعل باستنكار رقيق: إلا إن شاء الله حي.. حي.. والثنين جايينا قريب ومافيهم إلا العافية
بس ناصر فيه عوار.. بسيطن إن شاء الله
أم مشعل بألم متوحش ودموعها بدأت تسيل بصمت لتغرق برقعها: وجهك ما يقول بسيط يأمك
الحمدلله على كل حال.. لا سلم لي رأسه ما أبغي شيء...
ما أبغي إلا شوفت وجهه
مشعل بهدوء حذر: وإن شاء الله إنش بتشوفين وجهه
وأي شيء ثاني هو ابتلاء من رب العالمين.. والمؤمن الصابر عند الله خير
العنود ومريم كانتا مفجوعتان تماما.. فهما كانتا متأكدتان أن ما بناصر أمرا جللا
وإلا ما كان مشعل جمعهن بهذه الطريقة.. والعنود تنقل لمريم أن وجهه يبدو عليه الكثير من الألم والأسى
ولكنهما صمتتا.. بما أن والدتهما تقبلت مبدئيا الخبر وتصبرت
فهما لا تريدان فجعها بالاستفسارات من مشعل أمامها
مشعل وقف.. حين وصل للباب نادى العنود
العنود باحترام مغلف بالحزن: لبيه فديتك
مشعل بهدوء: العنود دام فارس عند ناصر.. أبيش ترخصين من أم فارس
وتجين تقعدين عند أمي لين يرجعون الشباب من الأردن
العنود بصدمة: فارس عند ناصر؟؟
مشعل هز رأسه وخرج
وشعوران يتصاعدان في روح العنود
قلق مرعب على ناصر لأنها تعلم أن ذهاب فارس إليه بهذه الصورة المفاجئة ليس إلا لأن إصابته خطيرة
وغضب كاسح على فارس لأنه أخفى عليها سبب سفره الفعلي وإصابة ناصر
ولكنها عادت للجلوس بجوار والدتها
التي وقفت وقالت بجمود: أنا بأروح لحجرتي
ما أبي حد منكم يجيني
العنود برجاء: بس يمه....
لم تسمح لها أم مشعل بإكمال جملتها وهي تنسحب.. تنسحب لتهرب بأحزانها
لتدعو ربها ألا يفجعها.. ويعيده لها ولأحضانها
قد يقولون عندها ثلاثة أبناء.. لو مهما حدث لواحد
تبقى اثنان يعوضانها الوجع والألم
ويا جهل من يقول ذلك!! يا جهله!!
قد يكونون عشرة.. وكأنهم واحد
كل واحد منهم لفراقه ألم يمزق نياط القلب
ولألمه وجعا لا يشعر به أحدا مثلها
ولوجعه في روحها امتدادات السماء ورحابة الأرض
***************************
ذات الوقت
بيت ناصر
بيت الزوجية الـمُفترض
مشعل يصل لمشاعل
مشاعل لم تغادر بيتها مطلقا منذ مجيء مشعل لها صباحا
وهاهو يعود لها بعد ساعات
فأي خبر جديد يحمل؟؟
بل أي خبر مفجع؟؟
كان وجهها متورما من البكاء.. وعيناها ذابلتان
منذ غادرها مشعل وهي تبكي
مشعل جلس جوارها واحتضنها
عادت للبكاء على صدره.. بكاء خافتا موجعا ..مشعل احتضنها وهو يقول بحنان: مشاعل يا قلبي أنتي إنسانة مؤمنة ومصلية
واللي تسوينه في روحش غلط...ليش ذا البكاء كله؟؟؟
مشاعل همست بألم ورأسها مختبئ في صدر شقيقها:
تكفى مشعل قل لي أنه حي بس..
ما أبي شيء ثاني.. والله ما أبي شيء ثاني
تكفى لا تفجعني
مشعل بنبرة خاصة مشبعة بالحزن: أكيد إنش ما تبين شيء ثاني وحياته تكفيش؟؟
مشاعل رفعت رأسها وهي تقول بثقة رقيقة:
والله ما أبي شيء.. أبيه حي وبس
مشعل ابتسم ابتسامة باهتة: وهو إن شاء الله حي.. وجعل عمره طويل
مشاعل ابتسمت وهي تمسح دموعها بطريقة طفولية وتقول بفرح مؤلم:
صدق؟؟ صدق؟؟
مشعل أمسك يدها وهو يقول بحزم رقيق: بس أنتي ماسمعتي باقي كلامي
أنا باقول لش شيء أبيه بيننا
وما أبيش تقولينه لأحد... وأنا اقوله لش.. عشان أدري إن الموضوع بيوجعش
و أبيش تأقلمين مع الفكرة لين يجي ناصر
وما أبيش تفشلينا في ناصر.. ناصر رجّال وطول عمره رجّال
واللي بيصير له ما ينقص من مرجلته.. لكنه يزيدها
لأن المحن والاختبارات هي اللي تحك الرجّال.. وتظهر عزمه
وأنا أشهد إنه رجّال.. موقفه يحتاج شجاعة أنا أشهد إن غيره عاجز عنها
لكنه تقبلها واحتسب أجره عند رب العالمين
مشاعل قاطعت سيل كلام مشعل وهي تهمس بحزم غريب عليها وعلى شخصيتها:
مشعل ليش ذا المقدمات كلها؟؟
وش اللي صار لناصر؟؟... صار عاجز؟؟ مقعد؟؟
أنا قلت لك أبيه حي
أي شيء ثاني ما يهمني
مشعل بحزن عميق: ولا حتى بتر ساقه؟؟
مشاعل شهقت بعمق وبرعب صميميين
والفكرة تتجسد أمامها بأكثر صورها بشاعة وألما
ولكنها حاولت التماسك وهي تهمس.. ودموعها تسيل بصمت موجع:
ولا حتى بتر ساقه.. الحمدلله على سلامة رأسه..
اللهم لك ألف حمد وشكر
*********************
مدينة الحسين الطبية
عمّان/ الأردن
ذات اليوم ليلا
غرفة ناصر
عبدالله ومحمد وصلا من الدوحة وطلبا من سيارة الأجرة أن تأخذهما للمستشفى فورا
وهاهم أربعة من عمالقة آل مشعل يجلسون في انتظار إفاقة العملاق الخامس من أثار التخدير..
محمد كان أقربهم لسريره.. وهو يلصق مقعده بقرب رأس ناصر.. بداخله ألم لا حدود له
فمهما كبر ناصر وطال.. فهو يبقى في نظره ابنه الصغير
هاهي عيناه تجولان بكل الوجع بوجهه المليء بالخدوش واللصقات الصغيرة
بيديه الملفوفتان بالشاش.. فهو كان يحاول تخليص ساقه من الركاب
ورفع جسده عن الأرض حتى لا يتمزق ظهره وثيندر يسحبه
لذا احتملت يداه الكثير من الألم
(أي ألم تحملت يا بني؟!!
أي ألم؟!!
ليتني استطعت أن أحمل بعضا من ألمك
ليتني أنا من بُترت ساقه
أنا شيخ عجوز.. عشت حياتي طولا وعرضا
ماعاد لي بهذه الحياة حاجة
ولكن أنت للتو تتذوق هذه الحياة
للتو تفتح لك أبوابها!!
ماكان همني والله أن أهبك ساقاي ويداي جميعها وتبقى ساقك لك
إلهي لا تؤاخذني
ليس اعتراضا على حكمك.. اللهم لك الحمد والشكر على كل حال
ولكني أب مفجوع.. أفرغ بعضا من حزني وألمي وفجيعتي
فلا تؤاخذني بحديثي مع نفسي
لا تؤاخذني على وجعي وبثي)
عبدالله وراكان وفارس يجلسان على ثلاثة كراسي متجاورة قريبا من محمد
وعبدالله يستفسر منهما كيف حدث ماحدث؟؟
ومتى وصلا؟؟ ومتى وجدا ناصر؟؟
بعد دقائق.. حشرجة خافتة صدرت من ناصر
الأربعة كلهم وقفوا معا وهو يحيطون بسرير ناصر
محمد بحنان مصفى مختلط بنبرته الحازمة الطبيعية: الحمدلله على سلامتك يأبيك
تبي شي؟؟؟
ناصر بصوت متقطع ناتج عن جفاف ريقه: ماي..
فارس يمد يده لزجاجة ماء ويفتحها
وراكان يهمس له: لا تسقيه واجد.. بِل ريقه بس..
فارس يدخل يده تحت كتفي ناصر ويقعده ويسقيه القليل
ناصر يهمس: بعد أبي ماي..
راكان همس له بأخوية: بعد شوي.. مايصير تشرب ماي ورا بعض
ناصر عاد لإغلاق عينيه وهو يغيب عن الوعي مرة أخرى
محمد بقلق: وش فيه رجع يرقد؟؟
راكان باحترام: يبه لا تحاتي.. من تاثير البنج.. بعد شوي بنصحيه ونسقيه
*****************************
القاهرة
حوالي الساعة العاشرة مساء
باكينام تعود للبيت
ومعها جدتاها صفية وفيكتوريا
يدخلن جميعا وضحكاتهن تتعالى
صفية بمرح: أمّا أنتي بت باكينام أنا مبسوطة منك كتير
عرق تركي عندك تمام.. كنتي هتعملي الواد كفتة
باكينام تضحك: عرق تركي ثم تكمل بالانجليزية: وعرق إيرلندي
كيف يجرؤ ذلك التافه أن يعاكس أجمل أميرتين تركية وإيرلندية وهما في ضيافة مصرية
ثم قالت بالعربية: أكيد كان بيعاكسك يا أنّا.. أنتي أحلى وحدة فينا
الحوار كان يدور عند المدخل دون أن تنتبهن إن كان أحد موجودا
أنا صفية تضحك: خشى في عبي زي ما بتئولوا يا مصريين.. ئال يعاكسني ئال
الواد كان بائي يعيط عاوزك تاخدي نمرته وأنتي نازلة فيه شتيمة وهو لا همو
فين واد يوسف عنو؟؟
(يوسف ئاعد هنا بيستناكم)
صوت عميق ممتلئ بغضب مكتوم
كان يوسف يجلس في الصالة المفتوحة على المدخل مع سوزان
باديا على محياه غضب كبير يحاول كتمانه
باكينام شعرت بتوتر غير مفهوم
فهي أغلقت هاتفها بعد أن أتصل بها يوسف أكثر من مرة ولكنها لم ترد عليه
ولكن هذا لم يمنعها من الوقوف بثقة وهي ترسل له نظرات تحدي
سوزان نهضت وهمست بكلمة في أذن والدتها ثم في أذن حماتها
وسحبت الاثنتين معها
فهي تعلم أن يوسف غاضب لإغلاق باكينام هاتفها
وتعلم أنه لابد سيعاتبها.. لذا تريد تركهما لوحدهما
يوسف مازال جالسا
وباكينام مازالت واقفة بين المدخل والصالة
تحركت بإتجاه الدرج وهي تقول ليوسف بثقة:
تصبح على خير أستاذ يوسف
سلّم على تانت منال
(باكينام ..تعالي هنا)
وصلها صوته واثقا غاضبا لينشر قشعريرة باردة في كل خلاياها
ولكنها لم تتوقف وهي تصل للدرج لتتفاجأ بيد قوية تمسك عضدها
وتوقفها وتلفها لتجد نفسها وجها لوجه أمامه
باكينام من بين أسنانها: سيب إيدي يوسف
أفلت عضدها ولكنه أمسك بذارعها بقوة وهو يشدها ويثبت ذراعها على صدره وهو يعتصرها بقوة ويقول بغضب:
ئافلة تلفونك ليه؟؟ وأزاي تخرجي بدون ازني؟؟
وليه لما فيه حد ضايقكم ما اتصلتيش ليا؟؟
باكينام بألم: يوسف سيب إيدي.. هتكسرها
يوسف أفلت يدها وباكينام تنفض يدها وتمسك المكان الذي ألمها بالفعل من اعتصاره لذراعها وهي تقول بسخرية:
أنا عاوزة أعرف أستاز جامعة إيه اللي بيتعامل بالأسلوب الهمجي ده؟؟
سبت إيه للجهلة اللي عايشين في القرون الوسطى؟؟
يوسف بذات سخريتها: كل واحد يتعامل زي مايفهم
أنتي وحدة ما ينفعش معاكي الزوء... لازم الواحد يكون عنيف معاكي عشان تفهمي
باكينام بغضب: أنا مش حيوان عشان تعاملني بالعنف أو غيرو
ثم تنهدت وهي تقول: وعلى العموم.. الحكاية النكتة دي طالت أوي
ولازم ننهيها... على الأقل يوسف احترم أنو فيه صحوبية بين أهلنا
بلاش نستمر في المهزلة دي أكتر من كده
وخصوصا إنك مصدء الحكاية... وعامل فيها سيد السيد
رايحة فين وجايه منين؟؟
طلئني يا يوسف.. متجبرنيش أعمل فضيحة..
يوسف يبتسم بسخرية: فضيحة من أي نوع؟؟
باكينام بتحدي: هأخلعك
يوسف ضحك ضحكة مصطنعة: زريفة أوي يا بت
ثم أكمل بتحدي: لو أنتي ئدها اعمليها.. ليه لأ.. خلينا نتسلى شوي
ونضيع دراستنا علينا وخصوصا أنه لازم ننزل واشنطن بعد تلات أسابيع
لكن بدل ما نكون في واشنطن ندرس
نكون هنا بين المحاكم... والمحاكم حبالها طويلة... وأنا ما يهمنيش بدل السنة أتنين..
ومن ناحية تانية الراجل متهموش الفضيحة.. لكن بنت الدبلوماسي ابن العمدة... ياحرام
هيئولوا عليها إيه؟؟... اتجوزته عرفي في واشنطن..وخلعته لما اتجوزتو رسمي!!!!
باكينام شعرت بألم حاد.. فهو يعرف تماما كيف يمسكها من يدها اللي تؤلمها
ولكنها قالت بهدوء: يوسف أنا عارفة أنك مش طايئني.. والجوازة كلها مش على بالك..
عاوز مني إيه؟؟.. سيبني.. أنا مستحيل أرجع واشنطن وأنا على زمتك
أنت تسليت كفاية... خلاص سيبني..
يوسف بنبرة غامضة وهو يبتعد باتجاه الباب: آه تسليت كفاية صح؟؟
عمو طه راجع بكرة بالليل
خليه يحكي لك حكاية هتعجبك أوي
كان يوسف يصل الباب ويفتحه وباكينام تقول بصوت واثق:
لو ايه ما ئال بابا مش هيغير رأيي
يوسف يغلق الباب وهو يقول لها بتحدي واثق: هتشوفي
************************
ذات الليلة
في وقت متأخر
الدوحة
غرفة مشاعل /// و............. ناصر
مشاعل تشعر أنها توشك على الانهيار من التعب
فهي تقريبا لم تنم من قبل ليلة زفافها للآن
ولكنها عاجزة عن النوم والأرق يحيط بأجفانها
والأسى يخنق روحها
شقيقاتها وبنات عمها وعمتها عرفوا بخبر إصابة ناصر
لكنهن لم يعرفن بعد نوع الإصابة.. هي وحدها تعرف
وكم ألمتها هذه المعرفة!!
ذبحتها ونسفت روحها أشلاء متناثرة
جميعهن اتصلن بها.. يريدن زيارتها
لكنها لأول مرة في حياتها تكون غير مهذبة
وترفض أن يزورها أحد
كانت تريد أن تختلي بنفسها
وبـــ
ذكرى ناصر
أي ألم حاد تشعر به!!
هل هو الإحساس بالذنب؟؟!!
بمدى قسوة الحياة؟!!
منذ خروج مشعل من عندها وهي تدور بين الغرف
تشعر بوجود ناصر في كل مكان
قد لا يكون ناصر سكن هنا فعليا
ولكن وجوده في كل زاوية طاغ.. طاغ جدا
فتحت كل شيء.. وفتشت في كل شيء
ملابسه.. أوراقه.. صوره
كانت تعيد إكتشافه من جديد
تكتشف ناصر كما هو
كرجل حقيقي له شخصيته المستقلة
ليس ظلا لمشعل.. ولا مسخا مستنسخا من حمد
كان لديه الكثير من ألبومات الصور
حملتها جميعها وضعتها على السرير
وغرقت بينها!!
صوره في البطولات.. في التدريبات.. في الرحلات البرية..
في المؤتمرات.. في السفرات.. في دول عديدة
كان مبتسما في كل الصور
(إبتسامته رائعة وشفافة
هل سأرى إبتسامته مرة أخرى؟!
أدفع حياتي كلها ثمنا لإبتسامته
كم قسوت عليه!!
وكم قست الحياة عليه!!
أ هذا عقابه في الدنيا؟؟ أن يبتليه ربي بي..لأكون عليه مصدر شؤم؟!
أستغفر الله.. أستغفر الله
متعبة أنا يارب.. متعبة.. متعبة
كيف أستطيع مواجهته إذا عاد..؟؟ كيف أضع عيني في عينه..وأنا مثقلة بأغلال هذا الذنب..
سيرفضني.. أعلم أنه سيفعل
سيرفضني كما رفضته.. عنيد آخر من آل مشعل
لكن رفضه سينحرني.. سينحرني)
مثقلة هذه الصبية بالحزن.. حزن عميق وشفاف وموجع كعمقها وشفافيتها ووجعها
لا تعرف كيف تتصرف.. وخائفة.. خائفة
لطالما كتمت مخاوفها وألمها.. لم تسمح لأحد بكسر صدفتها
اقتحام روحها .. مشاركتها أفكارها
ولكنها الآن تحتاج لمن يمسك بيدها.. يدلها
التقطت هاتفها وأرسلت منه رسالة لهاتفين
ذات الرسالة لجهتين مختلفتين..
ثم تناولت صورة مؤطرة لناصر كانت موضوعة بجانب السرير
واحتضنتها وتمددت
لتبكي
لا لتنام.....
**************************
اليوم التالي
بيت سعد بن فيصل
الصباح الباكر
أم فارس تجلس عند دلالها تنتظر نزول سعد
نزل سعد بلباسه العسكري وتاج مع نجمتين تلمع على كتفيه
قبل رأس أم فارس وجلس
بعد تحيات الصباح المعتادة سألها باهتمام: فارس كلمش؟؟
أم فارس بتأثر: اليوم مابعد.. والبارحة أنا وياك مكلمينه
سعد بتأثر عميق: الله يفك عوق ناصر.. والله إن ناصر نادر ومثله في الرياجيل شوي
أم فارس بحزن: توه حتى عرسه ما تهنى فيه..
سعد ينهي فنجانه على عجالة وينهض: يالله فديتش أترخص عندنا اليوم طابور عرض
أم فارس تتذكر: ترا سعد فيه شيء أبي أقوله لك وأنسى
سعد باحترام: أمريني فديتش
أم فارس بهدوء: الحين أنت عندك أبو صبري وصبيان هنود.. أنا إذا جيتك طردناهم للمجلس
بس بكرة مريم بتجي بيتك
يبي لها خدامات يا أختك.. فأنا أبيك تقدم على ثنتين من الحين عشان أعلمهم لين يجي وقت عرسك.. وأنت تدري الخدامات يبطون لين يجون ويتعلمون
سعد بهدوء: زين ذكرتيني.. بأقدم على ثنتين.. وترا يمكن أجيب أم صبري بعد
أفكر الحوطة اللي ورا البيت ابني لهم فيها ملحق
مرت ولدهم صبري مضيقة على العجوز.. وأبو صبري متضايق
وأنا أفكر أجيبها على الأقل تسولف مع مريم وتساعدها على العيال لو الله رزقنا عيال..
أم فارس: بكيفك فديتك.. المهم الحين قدم على الخدامات وأم صبري بكيفك أنت وأبو صبري
*********************
القاهرة
الساعة العاشرة صباحا
أمام مصحة نفسية غاية في الرقي.. في منطقة هادئة في ضواحي القاهرة
باكينام توقف سيارتها وتنزل
تشد جاكيتها الطويل على جسدها.. فالجو كان باردا بعض الشيء
تعدل وضع نظارتها الشمسية على عينيها وتدخل
كانت متوترة نوعا ما.. فهي لا تعرف من هي قادمة للسؤال عنه
ماذا لو كان مجنونا خطرا
ماذا لو عرف المجنون الأخطر المسمى (يوسف) بزيارتها هذه لرجل غريب؟!!
تنهدت وهي تتوجه للاستقبال وتسأل عنه
خرجت بها إحدى الممرضات للحديقة الخلفية وأشارت لشخص معين
كان يجلس في الشمس تماما
تقدمت بخطوات مترددة..
كان مستغرقا في قراءة كتاب
وغير منتبه لما حوله مطلقا.. مما أتاح لبيكنام أن تتفحصه جيدا لتطمئن قبل محادثته
استغربت..كيف يكون هذا مريضا؟!!
بدا لها مسالما جدا.. ووسيما جدا... ونظيفا جدا جدا
نظيفا بالمعنى الفعلي للنظافة..
مثلما ترى شخصا وتعلم أنه استحم للتو..
وبدا لها كما لو أن حمد استحم عشر مرات متتابعة.. فكانت تفوح منه رائحة صابون عطرة مركزة وقوية
اقتربت منه.. همست بهدوء: السلام عليكم
حمد رفع عينيه وهو ينزل نظارته الطبية ويضعها على الطاولة ويبتسم: وعليكم السلام
تشجعت باكينام وهي ترى رده اللطيف للسلام فابتسمت وهمست:
عندك استعداد تستئبل زوار..
ابتسم حمد وهو يقول بلباقة: إذا زوار حلوين كذا.. ماعندي مانع
ابتسمت باكينام.. كانت تعرف أنه لم يقصد بعبارته سوى أن يكون مجاملا
لكنها رفعت يدها اليسار لتريه الخاتم وهي تقول بمرح شفاف:
أنا ست متجوزة بلاش شغل الغزل ده
ابتسم حمد وهو يقول بمرح أكثر شفافية: وأنا ما أعتقد مطلقا
إنه صدر مني مشروع خطبة
باكينام باحترام: أنا باكينام الرشيدي
حمد بلباقة: تشرفنا باكينام.. أقدر أخدمش بشيء؟؟
ثم استدرك: تفضلي اجلسي.. ليش واقفة
باكينام جلست على كرسي خال وهي تكمل حديثها:
أنا صاحبت هيا بنت خالك سلطان
حمد يقطب حاجبيه: مهوب هذي اللي لقاها مشعل ولد خالي عبدالله في أمريكا وتزوجها؟!!
باكينام هوت رأسها إيجابا.. ثم حكت لحمد سبب زيارتها واتصال هيا باختصار
أجابها حمد بقلق: أنا ما أبي حد في الدوحة يعرف إني أعالج.. خصوصا أمي
باكينام بثقة مطمئنة: حط في بطنك بطيخة صيفي.. ولا يهمك... وعد أنو ما حدش يعرف
وتاكد إن هيا مستحيل تئول ولا حتى لجوزها... هي بس عاوزاك تكلم الست مامتك.. عشان هي مشتائة لك
حمد بحنين عميق: وأنا مشتاق لها... بس الاتصال لازم يتم بأذن الدكتور
وأحيانا الدكتور يأجله أو يقدمه حسب حالتي
بس اليوم بأقول له وبأحاول أكلمها
باكينام وقفت وهي تقول بأدب: وأنا خلاص مهمتي انتهت.. وأستاذن
حمد بخيبة أمل: منتي براجعة تزوريني؟!!
باكينام شعرت بالحزن من طريقته في السؤال.. بدا لها وحيدا وحزينا مشبعا بالوحشة والحنين
همست بمرح: هأزورك ئريب
حمد بابتسامة: تعالي المرة الجاية أنتي وزوجش.. خلني أتعرف عليه.. لازم
وعشان أنا ما أحس بالحرج.. ولا أنتي تنحرجين
أنا بس أبي حد أسولف معه.. ويكون عارف عن أخبار هلي في الدوحة
لازم المرة الجاية تجيبينه..
باكينام بتوتر: إن شاء الله
************************
الدوحة
ذات الوقت ولكن توقيت مختلف فرق ساعة
الساعة 11 صباحا
لطيفة اليوم كان أول يوم لها امتحاناتها
ولكن بالها لم يكن مع الاختبار.. لكن مع ظروفهم المعكوسة
وخصوصا أنه وصلها قبل الفجر رسالة من مشاعل
تطلب حضورها حينما تستطيع صباحا
وذات الرسالة وصلت موضي
لذا اتفقت الاثنتان على الذهاب معا
لطيفة تمر بموضي ثم الاثنتان تذهبان لبيت عمهما محمد
الاثنتان تعبران الباب الواصل بين بيت عبدالله ومحمد
(ترتيب بيوت آل مشعل للتذكر:
بيت مشعل بن محمد بجواره بيت عمه عبدالله ثم بيت محمد ثم بيت فارس ملاصق لبيت عمه محمد
بيوت الكبار في الصدر.. ثم بيوت الشباب على الأطراف)
موضي تهمس للطيفة: زين إنها رضت تخلينا نجيها
من يوم دريت وأنا أحاتيها.. أدق عليها مهي براضية تخليني أجيها
لطيفة بحزن: أنا جيتها البارحة ودقيت عليها.. مارضت تفتح لي
والله إني خفت عليها..
تصدقين بغيت أدعي مشعل يكسر الباب.. بس هي ردت علي
وقالت ماتبي تشوف حد..
تخيلي مشاعل تقول لي كذا!!!!
موضي بمساندة: نعنبو لايمها.. قلبها احترق..
الاثنتان وصلتا.. طرقتا الباب
بعد لحظات فُتح الباب..
ليصعقا بمنظر شقيقتهما.. إحمرار عينيها.. انتفاخ أجفانها بشكل مرعب
يبدو كما لو كانت شبحا يوشك على التداعي والانهيار
لطيفة برعب: بسم الله عليش مشاعل.. وش فيش؟؟ مريضة؟؟
مشاعل لم ترد عليهما.. تركتهما وعادت للداخل
خطوات ثقيلة مجهدة نقلتها
خطوات كروحها المثقلة وجسدها المجهد
موضي أغلقت الباب..
والاثنتان دخلتا خلفها..حتى وصلت لغرفة النوم وألقت بنفسها على السرير
لتدخل في موجة جديدة من البكاء العويلي
الاثنتان مصدومتان.. صامتتان...
كون ناصر مصاباً لا يستدعي هذا البكاء الجنائزي..
إلا إن كان......
الفكرة انتقلت لرأسي الاثنتين في نفس الوقت
هل يعقل أن ناصرا توفي؟؟!
صدمة متوحشة اكتسحتهما
ولطيفة تجلس جوارها من ناحية طرف السرير
وموضي تقفز لتركب معها على السرير وتجلس جوارها من الناحية الأخرى
لطيفة همست بحنان أمومي: ميشو يا قلبي.. وش فيش؟؟
مشاعل لم ترد على أسئلة أي منهما حتى تعبت من البكاء
حينها نهضت.. همست بصوت مبحوح:
ما أدري أقول الذنب ذنبكم وإلا ذنبي؟؟
موضي بحنان وهي تحتضن كفها وتمسدها بحنان:
وش ذنبه يا قلبي؟؟
مشاعل بصوت ميت مخنوق: ذنب ناصر
لطيفة اقتربت أكثر وهي تحتضن كتف مشاعل التي أراحت رأسها على كتف لطيفة وهي تفرك أنفها المتفجر احمرارا
وتهمس بصوت عاد للاختناق بعبراتها وكأنها تحدث روحها:
ليلة عرسي أنا ماشفت ناصر
أنا شفت حمد وهو يضرب موضي بكل وحشية
شفت مشعل وهو يستخدم لطيفة أداة لتفريغ رغباته دون اعتبار لمشاعرها
ما أقول إني أنا خجولة بزيادة وهذا كان له دور.. لكن حياتكم خربت حياتي
لطيفة وموضي توترتا بشدة.. لكن لطيفة همست:
ميشو حبيبي قولي لنا وش اللي صار ليلة عرسش؟؟
مشاعل حكت لهما كل شيء.. تعلم أنهما كتومتان.. وهي بحاجة لمساحة شاسعة للبوح علها تفتح أفقا ما.. حتى لو كان ضئيلا لروحها المتأزمة المخنوقة
موضي بغضب عاتب: أنتي مجنونة؟؟ فيه وحدة عاقلة تسوي اللي سويتيه؟؟
مشاعل بنبرة غريبة خليط من القسوة والحنان والألم واللامبالاة:
تدرين موضي أنتي بالذات مالش لسان..
ثم أكملت بنبرة تهكم مرة حزينة موجعة: موضي قولي لي.. ليش ما ترضين تبدلين ملابسش قدامنا
تصدقين أول مرة أدري إن البنت تصير تستحي من خواتها عقب ما تتزوج!!
موضي بحركة تلقائية غير مقصودة غطت مكانا ما بين كتفها وصدرها
كأنها تغطي حزنها ويأسها وألمها عن الأعين ووجع المواساة
وهي تتراجع للخلف
(عن أي مواساة تتحدثين عن موضي؟!!
تحتاجين إلى من يواسيكِ
تحيطين نفسكِ بقشرة رقيقة سرعان ما تنهار مع النقرة الأولى!!)
موضي صمتت وهي تبتلع ريقها وألمها ولكن لطيفة أكملت:
اسمعيني مشاعل.. صحيح أنا وموضي كان عندنا مشاكل في حياتنا
لكن أنا كل مشاكلي مع مشعل انحلت.. ومشعل ماعاد باقي إلا يحطني على رأسه من اهتمامه فيني
وموضي تطلقت وهذا هي بتاخذ راكان خيرة شباب آل مشعل
يعني إذا حن اللي عانينا سنين تجاوزنا مشاكلنا.. أنتي ما تقدرين؟!!
مشاعل انتفضت بعنف وهي تقول بألم مر: ناصر مستحيل يسامحني.. مستحيل
وخصوصا إنه فيه شيء صار له.. ما أقدر أقوله الحين
صدقيني مستحيل يسامحني.. أنا ماني بقادرة أسامح نفسي
لطيفة مسحت على نعومة شعر مشاعل وهي تهمس بحنان:
لو مهما صار ناصر قلبه طيب.. صدقيني بيسامحش.. ليه ما يسامح؟؟
أنتي حاولي تكسبينه.. ولازم أنتي اللي تكونين مستعدة للمبادرة لين الآخر
حتى لو رفضش مرة ومرتين وعشر.. لا تيأسين.. لحد ما تجيبين رأسه
ولو على الوسائل.. اسمعي مني.. واستعيني بتفكيرش..
ثم غمزت بعينها وهي تمسح دموع شقيقتها الصغرى بحنان:
إن كيدهن عظيم
************************
ذات اليوم عصرا
عمّان
غرفة ناصر
مازال ناصر لم يفق.. وتغذيته تتم عبر الوريد
قلق والده وعمه وشقيقه وابن عمه يتصاعد من عدم إفاقته..
وطلبوا مقابلة الطبيب.. الذي وعدهم بالحضور بعد أن ينهي عملا ما في يده
وهاهو يحضر وهو يرسم ابتسامة مهنية اعتاد على رسمها حتى أصبحت ترتسم بطريقة رتيبة تلقائية: بيقولوا أهل ناصر مشعل بدهم ياني.. أنا حاضر
كان محمد من تكلم وهو يقول بهدوء: ناصر ليش مافاق لذا الحين..
البارحة وعا شوي وطلب ماي وعقب رجع ينام
الطبيب بهدوء: أنا طالب من الممرضات يحقنونه بالمهدئات.. مابدي إياه يصحى هلا
راكان باستفسار: وممكن أعرف السبب..
الطبيب بمهنية: هم سبيين ومش واحد
الأول أني حابب إن ساق ناصر توصل.. مع أنو ماراح يقدر يستخدمها هلا
بس أنا حابب إنه يشوفها وقت ما يصحى.. عشان تكون تخفيف لوضعه وفي نفس الوقت شرح صريح لحالته
أما السبب الثاني فهو إنو من تعرض لبتر أحد أطرافه.. يتعرض لظاهرة اسمها ظاهرة فانتون..
الظاهرة هذي تعني إن المخ يظل يرسل إشارات لمكان البتر..كأن العضو لساته موجود ولازم يتحرك..
يعني اللي انبتر عنده عضو ما يحس إنه فقد عضو ويحتاج وقت للتأقلم جسديا وفكريا..
والأخ ناصر رغم الرضوض والخدوش إلا أنو صحته تمام الحمدلله
يعني ممكن لو وعي هلا ينزل عن السرير ويمشي.. وهالشيء أنا ما بدي إياه
أنا استعجلت في طلب الساق.. وممكن توصل بكرة.. وراح أعطيكم قياساتها
عشان لو حب يطلب مرة ثانية.. يقدر يطلب..
فارس بإهتمام: يعني بكرة ممكن يحس فينا؟؟
الدكتور بابتسامة: إذا وصلت الساق.. ماراح نعطيه مهدئات.. وبيوعى إن شاء الله
محمد برجاء هادئ: ومتى ممكن نرجع الدوحة ونرجعه معنا؟؟
الطبيب بلباقة: الخيار لكم عمي وللمريض.. لو عنده استعداد يستخدم العكازات
ممكن ترجعون بعد كم يوم..
وأنا بأتصل مع صديق لي في مستشفى حمد عندكم.. وهو ممكن يتابع الحالة
لأنه مايقدر يستخدم الساق الصناعية إلا لما تلتئم الجراحة تماما
ولأنه هذي مش جراحة بمعنى جراحة لكن هو كي لمكان البتر، فالإلتئام بيكون أسرع.. ممكن يستخدم الساق الصناعية بعد أسبوعين ثلاثة.. والخيار لكم
الجميع صمتوا ينتظرون قرار محمد الذي أجاب بهدوء:
الشور شور ناصر.. لكن أنا أعرف ولدي.. مهوب اللي يهاب شيء
الظن ظنتي راجعين الدوحة قريب
*********************
الدوحة مساء
بيت فارس..
العنود في البيت للسلام على أم فارس ورؤية إذا كانت تحتاج لشيء
وهاهي تستعد للمغادرة..
أم فارس بحزن: سامحيني يا بنتي.. والله إن قدرش عندي كبير
ماقدرت أسوي عشاش وحن على ذا الحال.. الله يفك عوق ناصر
العنود بحزن مصفى: وش عشاه يمه؟؟ هذي أمي ماسوت عشاء مشاعل
وش عشياته وحن ماندري بحال ناصر..
أم فارس بمساندة: يأمش امتحاناتش قريب.. لازم تدرسين
إهمالش لدروسش لا يقدم ولا يؤخر
العنود بهمس: الله يجيب اللي فيه خير..
ثم أردفت بخجل: يمه أنتي أكيد منتي بمتضايقة إني أمسي عند أمي؟؟
أم فارس باستنكار: لا والله وحشا.. أم مشعل ذا الحين في حاجتش
وأمش أبدى من خلق الله
وعلى كل حال أنا البارحة أمسيت في بيت سعد..
وهو بعد شوي بيمر يأخذني.. أتسلى معه ومع عياله
العنود تنزل جلالها على وجهها استعدادا للخروج
لكنها استدركت وهي عند الباب بسؤال مؤلم:
يمه فارس كلمش؟؟
أم فارس بتلقائية: توه كلمني قبل تدخلين..
العنود شعرت بألم شفاف يغزو روحها.. فهو لم يتصل بها منذ مغادرته
هل يعاقبها على ذنب لم ترتبكه؟!!
أم أن الجفاء وجفاف المشاعر سيكون شعارا إبديا لحياتهما معا؟!!
هي الآن غاضبة منه.. بل غاضبة جدا
حرمها من أبسط حقوقها.. حقها في المعرفة منه شخصيا!!
لِـمَ لم يخبرها بإصابة ناصر؟!!
لِـم فضل أن يهرب من أمامها وكأنها كائن فاقد للأهلية يعيش مهجورا على أطراف حياته؟!!
لا تستحق أن يأخذ من وقته الثمين لحظات ليخبرها.. يعلم جيدا ولعها بأشقائها
وتعلق روحها بهم..
ولكن لا يهم.. هي لا تهم.. هي لا تستحق..
( "لماذا تعلم.. ولماذا أخبرها؟؟
سياتي أحدهم يوما ويخبرها.. ولكن ليس أنا
ليس فارس العظيم المتجبر المتباعد"
أهكذا فكرت يا فارس؟!!
متعبة منك ومن غرورك وتجبرك وقسوتك
ليتك تتصل بي
ليتك تفعلها
أريد أن اصفعك بكل آلامي.. أريد أن أخنقك بها
حتى لو كنت لا تشعر
وحتى لو كانت تماثيل الحجارة لا تبالي ولا تحس حتى لو ألقيت عليها عشرات الحصيات الصغيرة
على الأقل سأفرغ أنا بعضا من غضبي بإلقاء الحجارة عليك
بما أنك لا تتألم.. لا تشعر.. لا تحس
اسمح لي أن أفرغ أنا بعضا من ألمي.. شعوري.. وأحاسيسي)
العنود كانت تفكر بكل هذا وهي تسير خارجة من بيتها إلى بيت والدها
وصلت وصعدت غرفتها واستحمت والأفكار تعصف بها
خرجت لرؤية والدتها المعتكفة في غرفتها
مازالت على حالها.. مكتئبة تتصبر.. تكثر من الصلاة وقراءة القرآن والدعاء له.. لناصر..
العنود عادت لغرفتها وصلت قيامها.. ثم قررت التمدد أخيرا.. هاجمتها أفكارها المؤلمة مجددا.. حاولت الهرب منها..
ولكن لا فكاك.. لا فكاك..
أفزعها رنين هاتفها..
التقطته
كان هو..
هو..
اسمه يتلألأ على الشاشة محدثا ضجيجا في قلبها بدقاته الطارقة بعنف على جدران قلبها..
خائفة منه.. وغاضبة عليه..
ردت بصوت هامس وكل تهديداتها بقذفه بحصى أحزانها تتبخر: هلا فارس
كما كل مرة.. وكما أول مرة
عاجز عن تفهم الثورة العاتية التي يحدثها صوتها في أوتار قلبه
أي كيمياء يحتويها هذا الصوت؟!! أي كيمياء؟!!
شرايينه تتهاوى.. قشعريرة باردة تجتاح جسده.. نار محرقة تذيب قلبه
يعدل جلسته على مقعده في لوبي الفندق
فهو هارب من غرفته المشتركة مع راكان حتى يحادثها
أي جنون بات يصيبه؟؟
لم يقضِ معها سوي صباحا واحدا.. بدا ذاك الصباح كما لو كان كل صباحاته
يأسره شوقه لبريق عينيها.. وابتسامتها العذبة الشقية
اليوم كاد أن يتهور ويحتضن راكان حين نهض من نومه صباحا
كاد يحتضن ذلك الحائط المسمى راكان لأنه يعلم أن جسده الضخم لابد احتوى يوما جسدها الغض بين أحضانه
الجسد الذي لم يسكن بين ذراعيه هو بعد..
كان يريد أن يشتم رائحتها التي تغلغت في روحه.. مازال ملمس خدها يغفو في كفه.. خصلات شعرها تلتف على أنامله
مشتاق لها.. مشتاق.. مشتاق لها قبل أن يتزوجا..
فكيف بعدما رأها أمامه أسطورة تتجسد تتحرك تتحدث.. تنفث سحرها الخلاب في كل شيء تمر به أو تلمسه؟!!
فارس رد بهدوء: هلا بش.. أنتي وين؟؟
العنود ابتلعت ريقها.. خائفة من ردة فعله.. فهي لم تستأذنه في العودة لبيت أهلها..ولكنها استأذنت والدته وأذنت لها..
همست بخفوت: في بيت هلي
فارس كان يعلم أنها في بيت أهلها.. والدته أخبرته أنها من أذنت لها بالذهاب حتى تبقى مع والدتها.. وهو فعليا ليس لديه أي مانع
ولكنها طباعه الغليظة السيئة وتحكمه الأرعن.. رد بهدوء: طيب مهوب المفروض تستأذنيني أول؟؟ وإلا أنا طوفة.. منتي بشايفتني رجّال؟؟
العنود كعادتها الذكية.. لا تجيب.. لكن تناور:
وأنت مهوب المفروض تقول لي وين مسافر وسبب سفرك؟؟ وإلا أنت شايفني كرسي وماني بمرتك وأخت ناصر؟؟
يالقوتها وشراستها المغلفة بالحرير!!
من أين تعلمت استراتيجية المناورة بهذه الطريقة؟!!
كيف تنقض وتلسع بنعومة..
ولكن هو لا يحتاج للمناورة.. فهو يستخدم المنجنيقات فورا
أقذف ولا تبالِ بالخسائر!!
همس لها بهدوء بارد: العنود ترا أمي اللي هي أمي.. عمرها ما سألتني وين رايح ومن وين جاي... أنا اللي أقول لها من كيفي..
وأنتي تعودي اللي أقوله تأخذينه... لا تراديني.. ولا تسألين..
رغم إحساسها الكبير بالألم لكنها أجابت بهدوء ناعم:
تدري فارس كان المفروض إنك كتبت في عقد زواجنا.. زواج من طرف واحد
يعني أنت وبس.. لأني أنا ماني بشريكة لك في ذا العقد دامك تبي تمشي حياتنا بذا الطريقة
فارس شعر بألمها يحز في روحه.. يعجز عن فهم سبب تصرفه معها بهذه الطريقة
رد عليها بهدوءه المعتاد: يعني أنتي زعلانة؟؟
العنود بتهكم رقيق: زعلانة؟؟ يعني إنك مهتم!!
ثم أردفت بحزن: تدري فارس.. خلنا على جنب... ناصر أشلونه؟؟
فارس ببرود مقصود: توش كلمتي أبيش وراكان أكيد قالوا لش..
العنود فهمت نغزته لكنها تجاوزتها وهي تقول بهدوء: أحب اسمع منك
فارس تنهد: بخير.. كلها كم يوم ونرجع للدوحة.. وذا الكلام أظني سمعتيه اليوم مرتين إذا مهوب أكثر
العنود بحزن ومرارة: زين دامك منت بطايقني.. ليش مكلف على روحك تتصل؟؟
فارس شعر بصدمة كاسحة تخترق روحه
(أنا ماني بطايقش؟؟ أنا؟؟
يعني بدل ما أوصل لها إحساس هيامي فيها
خليتها تحس إني ماني بطايقها
أي مخلوق غريب أنت يا فارس؟؟ أي مخلوق؟؟)
فارس تنهد: العنود ليش تقولين كذا؟؟
العنود ماعادت تحتمل كل هذا.. ماعادت تحتمل.. اختنقت بعبراتها وتريد أن تختلي بنفسها لتبكي
همست بصوتها المختنق: فارس تصبح على خير
فارس كاد يجن (وتبكي بعد؟؟ تكفين العنود كله ولا دموعش)
همس لها بأمر قوي: لا تسكرين
نبرة الأمر الحادة في صوته أنهت الباقي من تجلدها وهي تنخرط في نشيج خافت مؤلم وتلقي الهاتف جوارها
فارس جن فعلا وهو يسمع صوت نشيجها يخترق روحه كأسياخ محمية
كره نفسه ألف ألف مرة.. كره غروره وقسوته عليها في الوقت الذي كان يتمنى أن يشبعها حنانا وحبا وهياما وغراما
كان يعتصر هاتفه في كفه وهو يصر بين أسنانه: العنود.. العنود ردي علي
كان يود أن يصرخ عاليا.. عل صوته يصلها
ولكن مكان تواجده منعه وهو يشعر بالقهر وهو يسمع صوتها تبكي بهذه الطريقة الموجعة وهو لا يستطيع التصرف
مضت خمس دقائق والعنود الباكية نست هاتفها تماما
كانت الخمس دقائق الاسوأ في حياة فارس
شعر أنها خمس سنوات.. خمس قرون من الألم والقهر والحسرة
العنود تذكرت الهاتف المفتوح
التقطته رغم أنها كانت متأكدة أن فارس لابد أغلقه
لذا صُدمت أنه مازال على الخط ويناديها
ردت بصوت متعب: آسفة ماظنيت إنك على الخط ذا كله
فارس بنبرة حنان غير معتادة ولكنها تبدو لذيذة جدا بصوته:
تبين أسكر وأنا داري إنش تبكين؟!! مستحيل
انتفض قلب العنود بعنف.. عنف كاسح
وفارس يكمل بذات النبرة: أدري إني غريب واجد مهوب شوي
استحمليني شوي.. ولا تصيرين تاخذين كل كلمة أقولها بحساسية
صمتت العنود
فارس بهدوء: هاه العنود؟؟
العنود بصوتها المبحوح: يصير خير إن شاء الله
ابتسم فارس ..تمنى أن يقول لها لحظتها كم يحبها!! كم يعشقها!! كم يذوب بهواها!!
لكنه أكتفى عن كل هذا بأن قال لها بهدوء: زين تصبحين على خير
ولا تهملين دراستش
****************************
ذات الوقت
توقيت آخر
وبلد آخر
كانت باكينام في غرفتها تتمدد على سريرها استعدادا للنوم
والدها وصل من نيويورك قبل حوالي ساعتين.. جلست معه قليلا
ثم صعدت لغرفتها لتصلي قيامها وتنهي بعض أعمالها قبل النوم
قاطع رغبتها في النوم طرقات هادئة على الباب
عرفت أنها طرقات والدها
همست باحترام: تفضل بابا
دون أن تعلم أن سماحها بدخول صاحب الطرقات سيسلب كل أمانيها بالنوم
ليحيلها لمخلوق محطم مبعثر المشاعر
والدها دخل وهو يبتسم وهمس لها: ممكن خمس دئايئ من وئت حبيبت باباها
باكينام اعتدلت جالسة وهي تقول: ئول خمس ساعات.. تعالى أنته واحشني خالص
والدها جلس جوارها وهو يقول بهدوء: أخبارك أنتي ويوسف إيه؟؟
باكينام توترت لأقصى حد.. ذكر يوسف كفيل بضخ كل الأدرنالين في جسمها ليرتفع تحفزها للحد الأعلى
همست لوالدها بتصنع: تمام يابابا كلو تمام
والدها أمسك بيدها واحتضنها وهو يقول بحنان:
حبيبي باكي.. أنتي فاكرة أنو أنتي اللي وافئتي على يوسف
ووافئتي على خطبة وكتب كتاب في يوم واحد
باكينام ابتلعت ريقها وهزت رأسها بأسى (وكأني من وافقت باقتناعي؟!!)
والدها يكمل بنبرة منطقية: وأنتي عارفة إنك هترجعي واشنطن بعد تلات أسابيع
هزت رأسها
ووالدها يكمل: ويوسف كمان هيرجع
ابتلعت ريقها للمرة الألف.. لِـمَ تشعر أن ريقها جاف هكذا؟؟
هزت رأسها أيضا
والدها يكمل بهدوء رغم أنه بدأ يشعر بالحرج:
وأكيد باكي حبيبي أنتي شايفه أنو مش منطق أنو واحد ومراته ساكنين في بلد لوحديهم وكل واحد في مكان
شعرت باكينام بمطارق متوحشة تهرس قلبها.. ومطارق أكثر توحشا تهصر مخها
باكينام بحذر: بابا أنت عاوز تئول إيه؟؟
والدها بهدوء يلقي قنبلته: أنتي ويوسف لازم تعملو فرحكم ئبل سفركم لواشنطن
باكينام قفزت واقفة وهي تهتف باستنكار مر: مستحيل بابا.. مستحيل
والدها بغضب: إيه هو اللي مستحيل.. هو لعب عيال
عاوزة تتخطبي وما تتجوزيش.. هي دي أخلاء بنات الناس المتربيين
باكينام بضعف: بابا ربنا يخليك ما تزعلش مني
بس أنا ويوسف مش متفاهمين.. أنا عاوزاه يطلئني.. مش نتمم جوازنا
والدها بصدمة: طلاء إيه.. دا أنتي موعد فرحك اتحدد بعد حوالي تلات أسابيع بالزبط
في نفس يوم سفرك اللي أجلناه شوية عشان السبب ده
باكينام بصدمة أكبر.. صدمة نحرتها تماما: إيه؟؟ فرح؟؟ لا يا بابا.. لأ.. ربنا يخليك.. ما ترمنيش الرمية دي
والدها بغضب: رمية؟؟ يوسف عزت اللي ألف وحدة تتمناه رمية؟؟
حتى لو كان رمية.. أنتي اللي رميتي نفسك مش أنا
خطوبتك حصلت ئدام كبرات مصر.. وفرحك بطاقاته توزعت
وكلام عيال مش عاوز.. أنتي اللي تجوزتيه برضاكي وهتممي الجوزاة
لأنو لا أنا ولا طاهر حمل فضايح.. والجواز مش لعب عيال
توافئي وبعدين تئولي مش عاوزاه..
ثم أردف بحزم: عندك حساب مفتوح.. اصرفي زي منتي عاوزة.. واتجهزي لفرحك جهاز يليء بيكي وبأبوكي.. وكلام تاني مش عاوز أسمع
ثم خرج
خرج ليتركها خلفه ممزقة.. مثقلة بالأسى والحزن
(أتزوج يوسف فعليا بعد ثلاثة أسابيع
أنا لا أطيق وجوده لساعتين.. فكيف لو أصبحنا سكان بيت واحد؟!!)
(بت يا باكينام.. بلاش عبط
أنتي عارفة كويس أنك بتحبيه
وماحبتيش ئبله حد.. ولا هتحبي بعدو
يعني لو ماتجوزتيهوش.. مش هتتجوزي خالص)
(لكن الحب شيء والعشرة شيء آخر
أحببته وأحبه بل وأعشقه.. نعم..
لكنه مخلوق غير قابل للتعاشر
متسلط.. ومغرور.. وكريه
حياتي معه ستهدم كل شعور حب أحمله له)
************************
ذات الوقت
توقيت آخر
وبلد آخر
غرفة مشعل ولطيفة
يتمددان على سريرهما ويعبق في الجو روح أسى عميقة
مشعل يضع رأسه على ذراع لطيفة
ويحتضن كف ذراعها الأخرى بالقرب من قلبه
لطيفة تهمس بحنان: حبيبي هونها وتهون.. إن شاء الله إن ناصر مافيه إلا العافية
مشعل صمت.. الحزن في قلبه أكبر من التعبير بأي كلمات
لطيفة لا تعلم بعد بحالة ناصر.. وهو لا يريد إخبار أحد قبل والدته
المهمة التي تخنق روحه لأقصى حد
ولكنه يريد إخبارها قبل عودة ناصر بيوم حتى تتهيأ للخبر من ناحية ولا تصدم به
وحتى لا يطول قلقها عليه من ناحية ثانية
مشعل يتذكر شيئا أشعره بالألم لإهماله.. همس بهدوء وهو يشدد احتضان كف لطيفة: حبيبتي امتحاناتش شأخبارها؟؟
سامحيني أنسى أسأل.. سالفة ناصر ماعاد خلت فيني مخ
لطيفة تضع خدها على جبينه وهي تهمس بنعومة:
إن شاء الله خير.. صحيح مالي نفس أذاكر
بس أنا ختمت المواد كم مرة خلال الشهور اللي فاتت
همس لها برقة: زين حبيبتي.. أدري إنه اللي يعينش مع امتحاناتش
بس عشان خاطري كل مالقيتي وقت اخذي البنات وروحو لأمي.. أبيكم تلهونوها عن التفكير
لطيفة بحنان: حبيبي بدون ما تقول.. أمك أمي
لاتحاتي.. اليوم رحت لمشاعل شوي.. وعقب مريتها
والعصر رحت لها أنا والبنات
مشعل بقلق: مشاعل شأخبارها؟؟
لطيفة بحزن: تعبانة.. تعبانة واجد
ثم أردفت باهتمام: تكفى مشعل إذا جا ناصر وصه فيها
مشعل باستغراب: أشلون أوصيه يعني؟؟
لطيفة بحرج: خبرك أنتو يارياجيل آل مشعل
تطري عليكم الجفاسة.. ومشاعل رقيقة بزيادة
مشعل ابتسم: كنش تلبخيني؟!! (التلبيخ له عدة معان عريقة!! والمقصود هنا التعريض المبطن)
ثم أردف بهدوء: لا تحاتين أختش.. ناصر عاد أبعد واحد عن جفاستنا اللي تقولين
صمتت لطيفة.. لم تعرف ماذا تقول
اكتفت أن تدعو الله في سرها وبعمق
أن يحنن قلب ناصر المجروح على شقيقتها
************************
يتبع
.
.
|