بسم الله الرحمن الرحيم
قصة دوائر التعب
فاطمه بنت السراة
دوائر التعب
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
أفاقت على فحيح صوتها .. مسحت زبـداً على شفتيها .. لقد قتلتهُ .. أخيراً قتلتهُ, وكما أردتُ …
ضغطت على عُنقه بكل قوتي .. جحظت عيناه, جحظت خوفاً لما رآني .. تذكرَنِي .. رغم مرور كل هذه السنوات إلا أنه عرفني ..
لكنه لم يتغيّر,
هو كما هو .. كأن الزمن نسيه, بقميصه الداكن, والثقب الذي على الكتف, حتى القلم الحبر لم يتعب من وقفته في ذلك الجيب .. وجهه الذئبي , وشعره اللامع يتصدّر عُنقه الغليظ ..
كان كل همّي عنقه, وأصابع شحذتها ومرنتها للحظة كهذه ..
بقوة ضغطت ..
- أين الضمير يا كلب؟
لم أكن أريـد إجابة, وهـو أيضاً لم يجب .. عيناه الزجاجيتان تُـطالعاني من بعيد ..
- عَرقلت مسيرة حياة كانت تنمو في صفاء,
وشَمْت قلباً بالكُرْه,
سيقتلك غضبي رُعباً,
ستنهي حياتك الموبوءة أصابع كحدّ السكين,
ستموت ببطء يا غالِبْ,
ستموت , تموت,
تمووووووت,
وعندها,
ربما تنظفي .. دوائر التعب .
***
مضت علي أيام ثلاثة وأنا لا أتنفس ..
لقد بدأ الحلم وانتهى بطيئاً وواضحاَ كعرضٍ رديء .. صور الباعة, والبحر وثعبان الماء, و"غالب", غالب الحقير, أُمي وأبي وإخوتي وهم يبتعدون .. لم يبقَ منهم أحد .. لم يسمعني أحد .. نباح جرو صغير غطّى وقتها على صوتي …
كل هذا أفرزه حلم ميت قديم ..
حلم مُكرّر الأحداث كدوران ساعة الحائط اليومي ..
تفلتُ ثلاثاً عن يساري, واستعذت بالله من رؤيا الشياطين ..
بخوف, صمت أياما ثلاثة من الخوض فيه .. عوّدنـَا الأهل أن نخنق أي حلم سيء في الأيام الثلاثة الأولى ..
في جوفي تدور الصور …
وغالب الرجل الوحيد الذي سرق طفولتي,
وأطفأ زهرة شبابي ..
قالوا: سرعان ما ينسى الصغار !
كيف أنسى وغالب كملح يُذرُّ في جرح مفتوح؟
كيف ينسى الصغار!؟
***
مضى اليوم الأول كترسٍ صدِئ ..
كنت في إجازة رسمية من العمل, أعد ذرّات غبار كثيرة تعلّقت بشعاع شمس تسلّل بخجل الى الحجرة ..
للترف والحياة الراقية سيئتان ستودي بك حتما الى الضجر أو الجنون:
البطالة والفراغ ..
وأنا تعودت بعد أن أفطر وأقرأ , أعد ذرّات الغبار الملايينية , أمّا اليوم فقد نسيت عملي المعتاد , وانشغلت في الحلم .. ألوكه مرة, ويلوكني وضوحه مرّات …
تعثر التفكير, وتوسّـد العقل وسادة البَلادَة ..
بَكيَتْ لمّا قالوا كبُرَتْ,
امتلأ عُودُهَا, وتحددت الملامح,
قـالوا كبرت, وطفولتي لـم يكن لها رنين!
- كُتِبَ علي ألا أُحِبَّ أو أُحَبَّ.
- كذب , كذب .. شباب رائع طلب قربك, وردّك لهم كان صمتاً,
ضجيج بلا صوت ..
وقلبك أحَبْ …
- أصمتْ ..
دوائر التعب لازالت تتكاثر في نفسي ووعيي,
كل دائرة موسُـومة بغالب .
دوائر ثعبانية كثيفة مؤسـسها رجل واحد, وحقدٌ طويل ..
غالـِب ..
أغلق فمي وعيني ليلاً تعبَـاً من ترديد اسمك, وأصحو أكثر قوة, أُردده من جديد.
غالِـب .. يا عقب سيجارة أطفأت حياة الملايين.
***
مضى اليوم الأول والثاني والثالث والعرض الرديء وصل الى الحلق .. الى حّد الشبَع .. ورغبتي في الصمت وصلت الى حدّ القناعة ..
- مضت الأيام الثلاثة.
- لن أتكلم .
- فلتجعلها " مازوشيتك " أيام خمسة.
- لن أتكلم .
- عشرة .. السكوت من ذهب.
- لا تسخر .
- خمسة عشر , عشرون.
- حتى لو مائة .. لا يهم,
لن أخوض في الحلم مع أحد.
كم مرّة رأيته في حلمي الأخير؟
كثير.
وكم من مرات تكرر الحلم؟
كثير , كثير.
سـأنام وأصحو على نفـس الصور.
- أنـام!!!
كنت ولازلـت أنـام مفتوحة العينين حتى لا يأتي غالب آخر يغتال غفلتي.
- أنـام!
◘ ◘ ◘ ◘ ◘
الـنـهايـــة